عقاقير سرطان «شخصية» موجهة.. لعلاج حالاته الفردية

تطويرات طبية لإضفاء الطابع الشخصي على أدوية الأمراض الخبيثة

TT

يقوم مايكل بليني بتشغيل جهاز الكومبيوتر الخاص به، ويفتح تقريرا حول مريض مصاب بورم سرطاني في الغدة اللعابية. خضع المريض لجراحة، ولكن السرطان عاود الانتشار مرة أخرى. وعندما حدث هذا تم إرسال النسيج الذي تم استئصاله من جسد هذا المريض إلى شركة «فونداشن ميديسن»، وهي الشركة التي يديرها بيليني، لإجراء دراسة مفصلة عن الحامض النووي للمريض.

وقد نجحت «فونداشن ميديسن» في حل شفرة 200 جين معروفة بصلتها بأمراض السرطان، واكتشفت ما وصفه بيليني بطفرات «قابلة للتفعيل، أو الحدوث» (actionable) في 3 منها. وبهذا، فإن كل خلل جيني يتم استهدافه عن طريق العقاقير المضادة للسرطان التي لا تزال تخضع للاختبار، على الرغم من أنها ليست مخصصة لأورام الغدة اللعابية. والسؤال: هل ينبغي على المريض تناول أحد هذه العقاقير؟ يقول بيليني: «إنه من دون اختبار الحامض النووي، ما كان أحد قد فكر في تجربة تلك العقاقير».

عقاقير «شخصية»

* سيستطيع أي طبيب أورام، بداية من هذا الربيع، شحن جزء من الورم في عبوة عليها رموز خطية (باركود) إلى مختبرات شركة «فونداشن ميديسن» مقابل مبلغ 5000 دولار.

وسوف تقوم «فونداشن» باستخراج وفحص الحامض النووي والعثور على تسلسل عشرات الجينات المسببة للسرطان وتحضير تقرير لإرشاد الأطباء والمرضى بشأن انتقاء عقار مناسب من الأدوية التي لا يزال معظمها في مرحلة التجارب الأولية، والتي يعرف عنها أنها تستهدف تشوهات الخلايا التي تتسبب فيها أخطاء الحامض النووي كما ترصدها التحاليل. ويقول بيليني إن نحو 70 في المائة من الحالات التي تمت دراستها حتى الآن أوضحت أن بمقدور الطبيب التصرف بناء عن ذلك، سواء عن طريق وصف عقار معين أو وقف العلاج بعقار آخر أو إلحاق المريض بتجربة سريرية.

إن فكرة إضفاء الطابع الشخصي على عقار مصمم لجينات شخص معين ليست فكرة جديدة، حيث يسعى الكثير من الشخصيات الهامة القائمة على تطويرات الشركة لتحقيق هذه الفكرة منذ أكثر من عقد من الزمان، مع تحقيق نجاحات متفاوتة. وأشار أدريني بوركي، مؤسس ورئيس تحرير مجلة «جينوم تكنولوجي» في مقالة كتبها مجلة «تكنولوجي ريفيو» الصادرة عن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الأميركي، إلى قول بيليني: «لا يزال هناك الكثير لإثباته»، مضيفا أن الشركة تعمل مع الكثير من المراكز الطبية للتوصل إلى أدلة دامغة على إمكانية توظيف معلومات الحامض النووي لإرشاد الأطباء حول كيفية علاج السرطان بصورة كبيرة.

يتوقف نموذج عمل «فونداشن» على الجمع بين 3 تطورات جديدة هي الانخفاض الحاد في تكلفة حل شفرة الحامض النووي واكتشاف المزيد من المعلومات حول جينات السرطان ومواصلة الجهود من جانب شركات الأدوية لتطوير عقاقير تستطيع محاربة بعض التشوهات المعينة في الحامض النووي التي تحث الخلايا على التحول إلى خلايا مسرطنة. وفي العام الماضي، وافقت إدارة الغذاء والدواء الأميركية على 2 من أصل 10 عقاقير لعلاج السرطان على أن تكون مصحوبة بتحليل الحامض النووي (في الماضي كان هناك عقار واحد يتطلب هذا الاختبار).

وعلى سبيل المثال، يستطيع الأطباء الذين يرغبون في وصف عقار «زيلبوراف» (Zelboraf)، وهو علاج تنتجه شركة «روش» لسرطان الجلد المتقدم، أن يخضعوا المريض في البداية لاختبار لمعرفة وجود طفرة «BRAFV 600E»، التي يوجد في نصف الحالات تقريبا.

ويتوقع طرح ثلث عقاقير السرطان، البالغ عددها 900، التي تخضع حاليا لمرحلة التجارب السريرية في الأسواق مع طاقم اختبار لتحليل الحامض النووي أو للتحليل الجزيئي مرفق بها، وذلك طبقا لشركة «ميدكو» المتخصصة في فوائد الدواء. وتعتقد «فونداشن» أن من المنطقي إجراء اختبار على كل الجينات ذات الصلة في وقت واحد، وهو ما تطلق عليه اسم «اختبار شامل» للسرطان. وتقول «فونداشن» إنها لن تكشف فقط عن التشوهات الجينية الأكثر شيوعا، بل سيتمد إلى الطفرات النادرة التي قد تعطي الأطباء أدلة إضافية.

ويقول كيفين كرينيتسكي، الرئيس التنفيذي للعمليات في «فونداشن ميديسن»: «يمكنك أن ترى أن إجراء اختبار لكل دلالة على حدة أمر باهظ التكلفة، إن لم يكن مستحيلا». ويضيف أن إجراء دراسة كاملة ستكون بمثابة «الضوء الذي يبدد الظلام».

اختبارات بيولوجية

* تأتي كل أعمال «فونداشن» حتى الآن بين 5 شركات أدوية تسعى إلى الوصول لتفسيرات جينية حول سبب قيام عقاقير السرطان التي ينتجونها بمهمتها العلاجية بشكل مذهل مع بعض المرضى، بينما لا تقوم بالعلاج على الإطلاق مع البعض الآخر. ويعترف هذا القطاع الصناعي بأن تطوير العقاقير الموجهة إلى مجموعات فرعية من المرضى يتكلف القليل من المال، وأنها تستطيع الحصول على موافقة إدارة الغذاء والدواء بشكل أسرع وقد تباع بأسعار أعلى مقارنة بالأدوية التقليدية.

يقول نيكولا دراكوبولي، نائب رئيس قسم المؤشرات الحيوية للأورام في شركة «جانسين» للأبحاث والتطوير، وهي واحدة من تلك الشركات التي تقوم بإرسال عينات إلى «فونداشن»: «يمتلئ ملفنا بالأهداف التي نعمل من خلالها على تطوير اختبارات معتمدة على بيولوجيا المرض. إذا كان هناك طريق ما غير مفعل، فلن تحصل على فوائد سريرية إذا سلكت هذا الطريق. ينبغي علينا أن نعلم أي طريق يؤدي إلى انتشار المرض».

يعتبر السرطان أهم حقل اختبار لفكرة العقاقير الموجهة. ويتوقع أن يصل الإنفاق العالمي على عقاقير السرطان إلى 80 مليار دولار هذا العام، وهو أكثر مما يتم إنفاقه على أي نوع آخر من الأدوية. فيقول راندي سكوت، الرئيس التنفيذي لشركة التشخيص الجزيئي «جينوميك هيلث»، التي تبيع اختبارا يقوم بفحص 16 جينا لمرض سرطان الثدي: «تعمل متوسط عقاقير السرطان على 25 في المائة من الحالات فقط، وهذا يعني أننا كمجتمع نقوم بإنفاق 60 مليار دولار على عقاقير لا تؤدي مهمتها».

يعد تحليل الحامض النووي للورم أمرا مهما أيضا لأن الأبحاث التي أجريت على مدار العقد الماضي تقريبا قد أثبتت أن الأنواع المختلفة من الأورام قد يكون لها خصائص جينية مشتركة، مما يجعل هذه الأورام قابلة للعلاج بنفس العقاقير. ويعتبر «هيرسيبتين» (Herceptin) أول عقار للسرطان تتم الموافقة على استخدامه عن طريق اختبار الحامض النووي لتحديد الأشخاص الذين يتوجب عليهم تلقي هذا العقار (هناك أيضا اختبار يعتمد على البروتين). وأعلنت إدارة الغذاء والدواء في عام 1998 صلاحية «هيرسيبتين» لعلاج سرطان الثدي، الذي ينتج بكثرة جين «HER2»، وهو تغير يدفع الخلايا السرطانية للتكاثر. وتم اكتشاف نفس الطفرة في سرطان المعدة والمبيض وغيرها من أنواع السرطان، وصدرت موافقة بالسماح باستخدام هذا العقار لعلاج سرطان المعدة في 2010.

وتساءلت جنيفر أوبيل، طبيبة أورام في شيكاغو التي قامت باستخدام اختبار شركة «فونداشن»: «دائما ما كنا نرى سرطان الثدي أنه سرطان ثدي. لكن ماذا لو كان سرطان الثدي أشبه بسرطان المعدة فعليا، وكانت لهما نفس التغيرات الجينية؟».

تمتد جذور هذا العلم الذي تقوم به «فونداشن ميديسن» إلى ورقة بحث نشرها ليفي غاراواي وماثيو ميرسون في 2007، وهما باحثا سرطان في مركز «بورد إنستيتيوت» في كمبريدج بولاية ماساتشوستس. توصل الباحثان إلى طريقة سريعة لاكتشاف 238 طفرة في الحامض النووي التي كانت وقتها مشهورة بتحويل الخلايا إلى خلايا مسرطنة. وكان تسلسل الحامض النووي هذا الوقت لا يزال باهظ التكلفة ليتم طرحه كاختبار للمستهلك، ولكن غاراواي يقول: «أدركنا أنه بالإمكان التوصل إلى مجموعات مفيدة جدا من المعلومات مقابل تكلفة معقولة». وبدأ غاراواي وميرسون بالحديث مع مدير مركز بورد إنستيتيوت إيريك لاندر حول توصيل هذه المعلومات إلى علماء الأورام.

وفي التسعينات، أسهم لاندر في افتتاح شركة «ميلينيوم فارماثيوتيكالز»، وهي شركة لدراسة الجينوم البشري وعدت بإحداث ثورة في علاج الأورام باستخدام أبحاث جينية مماثلة. تخلت «ميلينيوم» عن تلك الفكرة في النهاية، لكن لاندر كان مستعدا للمحاولة مرة أخرى وبدأ في الاتصال بزملائه السابقين «لمناقشة الخطوات التالية في ثورة الجينوم»، معيدا إلى الأذهان مارك ليفين، الذي عمل رئيسا تنفيذيا لـ«ميلينيوم». وأصبح ليفين مستثمرا في شركة «ثريد روك فينتشرز».

يقول أليكسيس بوريسي، شريك في «ثيرد روك» الذي يترأس فونداشن: «كانت الرؤية موجودة منذ 10 - 15 عاما، ولكن تطلب الأمر بعض الوقت ليتم تطوير هذه الأشياء. الشيء المختلف الآن هو أن علم الجينوم يقودنا لإضفاء الطابع الشخصي على بعض الأعمال».

يعد انخفاض تكلفة الحصول على معلومات عن الحامض النووي أحد أسباب هذا الاختلاف. قام مؤسس شركة «أبل»، ستيف جوبز، قبل وفاته بسرطان البنكرياس في العام الماضي، بدفع أكثر من 100 ألف دولار لبعض العلماء لحل شفرة كل الأحماض النووية لخلاياه المسرطنة والطبيعية على السواء. أما الآن، فقد تتكلف نفس العملية نصف هذا المبلغ، ويتوقع البعض أنها ستتكلف بضعة آلاف من الدولارات في المستقبل القريب.

لذا، لماذا تدفع 5000 دولار لتعرف حالة نحو 200 جين فقط؟ لدى «فونداشن» عدة إجابات عن هذا السؤال. أولا، يتم حل شفرة كل جين ليس مرة واحدة وإنما مئات المرات، وذلك للتوصل إلى مزيد من المعلومات الدقيقة. تقوم الشركة ببحث دقيق في المؤلفات الطبية لتزويد الأطباء بأحدث المعلومات حول كيفية تأثير التغيرات الجينية على فعالية بعض العقاقير المحددة. وكما يقول كرينيتسكي، إن تحليل البيانات، ليس التوصل للبيانات، هي العامل الحاسم في جينومات السرطان.

وعلى الرغم من أن معظم زبائن «فونداشن» حتى الآن هم من شركات الأدوية، يقول بوريسي إن الشركة تنوي القيام بأعمال لخدمة أطباء الأورام والمرضى على حد سواء. ويتم تشخيص 1.5 مليون حالة سرطان في الولايات المتحدة الأميركية كل عام. يقدر بوريسي قيام «فونداشن» بمعالجة 20 ألف عينة هذا العام. وإذا أخذنا في الحسبان أن سعر العينة يبلغ 5 آلاف دولار، سيكون من السهل معرفة كيف تستطيع تلك الأعمال أن تدر الربح على المستثمرين. يقول بوريسي: «يدر هذا العمل 100 مليون دولار في العام، ولكن يظل هذا الحجم منخفضا إذا ما قورن بإمكانيات الشركة».

قواعد بيانات

* يقول بيليني إن «فونداشن» تتلقى النصح من «غوغل» لمعرفة كيفية تحقيق هدفها في أن تصبح «شركة لمعلومات» الجزيئات. وتقوم الشركة بتطوير تطبيقات وقواعد بيانات طولية وأدوات للإعلام الاجتماعي التي قد يستخدمها الأطباء والمرضى، بما يمكن أجهزة «آي باد» من الوصول إلى تقرير «فونداشن» ومنه إلى المطبوعات والتجارب السريرية ذات الصلة. ويقول بيليني: «ستكون هذه طريقة جدية تمكن العالم من دراسة المعلومات الجزيئية في جميع أشكال الإعدادات».

يقف الكثير من العوائق العملية في طريق تحقيق هذه الرؤية الجديدة. تتمثل إحدى هذه العوائق في أن بعض الشركات الأخرى لديها براءات اختراع لبعض الجينات المهمة المتعلقة بالسرطان، مثل «BRCA1» و«BRCA2» التي تمتلكهما شركة «جينيتيكس مايريد». وتساعد هذه الجينات في إصلاح الحمض النووي التالف.

وتزيد الطفرات التي تحدث في هذه الأحماض من خطورة الإصابة بسرطان الثدي أو سرطان المبيض. وعلى الرغم من وجود قضايا منظورة في المحاكم من الممكن أن تسقط الحق الذي تدعيه «مايريد» باحتكار الاختبارات التي تجرى حول تلك الجينات.

وهناك عائق آخر يتمثل في أن فكرة استخدام الحامض النووي لتوجيه علاج السرطان تضع الأطباء في موقف غير مألوف. ولا يزال الأطباء وإدارة الغذاء والدواء وشركات التأمين يصنفون الأورام والعقاقير المستخدمة في علاجها بطريقة تشريحية.

ويقول طبيب الأورام توماس دافيس، من مركز «دارتموث.. هيتشكوك» الطبي في مدينة لبنان في نيوهامبشير: «نحن معتادون على تعبيرات مثل سرطان الثدي أو القولون أو الغدة اللعابية. كان هذا موجزا لما يتوجب علينا عمله بالاعتماد على الخبرة العلمية». يضيف دافيس: «لقد جربنا هذا العقار في سرطان الغدة اللعابية ولم ينجح، ولكننا جربنا هذه العقار واستجاب له 20 في المائة من المرضى».

يتم الآن استبدال علم الجزيئات بعلم التصنيف المعروف. يقول ديفيز، الذي طلب إجراء اختبارات الحامض النووي في عدة شركات لمريض مصاب بورم في الغدة اللعابية: «لقد اندهشت بسبب كمية المعلومات المحددة وشديدة الدقة عن الجزيئات. إنه أمر مدهش ولكنه متشعب قليلا». يعتقد ديفيز أن أكثر النتائج الواعدة في هذه الاختبارات هو الدليل على وجود نشاط مفرط لجين «HER2»، وهي النتيجة التي لم تتوصل إليها «فونداشن»، ولكن تم التوصل إليها عن طريق اختبار مختلف.

وتشير أدلة الحامض النووي إلى إمكانية وصف «هيرسيبتين»، وهو عقار يستخدم لسرطان الثدي، رغم محدودية الأدلة حول فعاليته في سرطان الغدد اللعابية. وأضاف: «يكمن التحدي القادم في محاولة إقناع شركات التأمين على الموافقة على دفع تكاليف هذه العلاجات المكلفة المعتمدة على بيانات تخمينية إلى حد ما».

قد لا ترغب شركات التأمين، على الأقل في البداية، في دفع 5000 دولار نظير الاختبار الشامل للسرطان. فيشير كريستوفر بول ميلن، المدير المشارك لمركز «تفتس» لدراسة تطور العقاقير، الذي يصف التعويض بأنه: «أحد أهم العوائق على صعيد إضفاء الطابع الشخصي على الدواء». وقد أبدت بعض هذه الشركات اعتراضا بالفعل على دفع تكاليف اختبارات معروفة. ولكنه يتوقع أن يتطلب الأمر بعض الوقت فقط قبل أن يعيد دافعو الأموال النظر في هذا الأمر إثر زيادة عدد الأدوية الموجهة لعلاج الأحماض النووية لبعض الأشخاص. وقال: «سوف ينفتح الباب على مصراعيه أمام هذه الأعمال حالما نتمكن من التوصل إلى 10 عقاقير تتطلب فحوصات طبية معينة أو حينما لا يفكر الممارسون باستخدام عقار قبل إجراء هذا الفحص أولا».