كيف تتشكل الذاكرة خلال سنوات العمر الأولى؟

دراسات حديثة حول تكون ذكريات الطفولة واندثارها

TT

لا أرتدي معطفا أبيض، مثلي في ذلك مثل الكثير من أطباء الأطفال، حيث يعتقد كثيرون منا بأن الرضع والأطفال الصغار يعانون بشكل خاص من «متلازمة المعطف الأبيض»، التي ينتج عنها مزيج من الخوف والقلق، وهو نفس ما يشعر به الكبار - إلى درجة ارتفاع ضغط الدم لديهم - عندما يخضعون للكشف الطبي.

ويمكن وصف طبيب الأطفال بكل سهولة، فهو طبيب يرتدي معطفا أبيض ويسير في حجرة مليئة بصراخ الأطفال، وأخشى أن يتذكر هؤلاء الأطفال الحقن وفحص الأذن بطريقة بغيضة ويربطون بين تلك الذكريات السيئة وثوب معين، بدلا من تذكر وجهي أو غرفة الكشف أو السماعة الخاصة بي.

ذاكرة الأطفال

* ولكن السؤال الآن هو: ما مدى واقعية ذلك؟ وهل يتذكر الأطفال الأحداث الماضية؟ وفي أي وقت يبدأ ذلك؟ وقد أثارت الأبحاث التي أجريت في الآونة الأخيرة حول تكوين الذاكرة كثيرا من الأسئلة حول كيفية تخزين الأطفال الصغار للمعلومات والأحداث وكيفية استرجاعها.

وأعتقد أننا نميل، بشكل أو بآخر، إلى تمجيد المآثر المتعلقة بذاكرة الرضع والأطفال الصغيرة. وصحيح أنه يمكنهم تعلم لغة، وربما أكثر من لغة، حيث إن تمييز الكلمات والجمل من الضوضاء المحيطة بهم يعد من نواح كثيرة، أحد الاستخدامات البشرية الرئيسية للذاكرة. وتشير نورا نيوكومب، وهي بروفسورة في علم النفس في جامعة تمبل، إلى أنه قد تكون هناك أسباب تطورية لأن يكون هذا النوع من الذاكرة – الذاكرة الدلالية semantic memory – يكون قويا للغاية خلال السنوات الأولى، عندما يعاني الأطفال من تعلم الكثير من الحقائق عن العالم.

ومع ذلك، لا يستطيع كل البالغين تذكر المواقف التي حدثت لهم في وقت مبكر للغاية من حياتهم، وهو ما يسميه فرويد «فقدان الذاكرة الطفولية» التي تصف «فقدان الذاكرة الخاصة التي تحجب عن معظم الناس (وليس كل الناس!) خلال السنوات الأولى من طفولتهم». ولم يكن من الغريب أن يشعر فرويد بأننا نقوم بقمع تلك الذكريات في مرحلة الطفولة المبكرة لأنها تحتوي على بدايات الشعور الجنسي.

«تشريح» الذاكرة

* ولم تكن هذه النظرية سائدة لسنوات كثيرة، ولكن في هذه الحقبة التي يوجد بها القياس والتصوير بالرنين المغناطيسي وصلنا إلى فهم تشريحي أعمق لتطوير ذاكرة الرضع. إنها جزء من الصورة الأكبر لكيفية تطور أنواع مختلفة من الذاكرة، في حين يمر المخ بفترات ملحوظة من النمو المبكر والتوصيل البيني.

وتقول باتريشيا بوير، وهي أستاذة في علم النفس بجامعة إيموري، إنه كان يعتقد قبل عدة عقود بأن الرضع الصغار للغاية لم يكن لديهم القدرة على تشكيل ذكريات، ولكن بعد تطور التقنيات الخاصة بفحص الرضع والأطفال الصغار، فقد وجد أن «البنى العصبية التي تخلق تلك التصورات في مرحلة الطفولة هي من الناحية النوعية نفسها الموجودة في الأطفال الكبار والبالغين».

ويعد التركيب الأساسي للذاكرة العرضية (episodic memory) - الذاكرة المتعلقة بأحداث السيرة الذاتية - هو ما يسمى «قرن آمون»، وهو ذلك الطرف المنحني قليلا في منتصف الدماغ الذي يذكرنا شكله بشكل حصان البحر الذي يعود للقرن السادس عشر.

وتقارن بوير بين تكوين الذاكرة وصنع الجيلاتين، وتضيف: «يتمثل الاختبار في الجيلاتين السائل؛ قم بسكب الجيلاتين في قالب. ويكون هذا القالب هو (قرن آمون)، وعليه أن يمر بعملية التبريد المعروفة باسم التوحيد».

وبناء على ذلك، يمكن أن تتشكل الذاكرة في أي طفل صغير للغاية، ولكن من غير الواضح ما إذا كان بإمكانه القدرة على استعادة تلك الذكريات أم لا.

ويقول تشارلز نيلسون، وهو أستاذ طب الأطفال في جامعة هارفارد ومستشفى بوسطن للأطفال: «تتشكل القدرة على استعادة الذكريات في وقت لاحق. تكون بحاجة إلى شبكة مترابطة من التركيبات لكي تكون قادرا على استعادة أشياء من الذاكرة. ولكن عندما تعمل على الكومبيوتر الخاص بك، على سبيل المثال، فإنك تعرف ما يكفي لحفظ الأشياء على القرص الصلب، ولكن هل تعرف ما يكفي لاسترجاع تلك الأشياء؟».

وتشير الأبحاث التي أجريت في الآونة الأخيرة إلى أنه يمكن لهذه الذكريات المبكرة أن تتكون في مرحلة الطفولة، ولكن يتم فقدانها عندما يصل الأطفال إلى سن البلوغ. وتشير الأبحاث أيضا إلى مكون ثقافي قوي في ما يتعلق بكيفية استرجاع الأطفال الذكريات.

ذكريات الطفولة

* وبصفتها متخصصة في علم النفس التنموي، فإن كارول بيترسون، وهي أستاذ علم النفس بجامعة ميموريال في نيوفاوندلاند، مهتمة بالقصص التي يرويها الأطفال عن أنفسهم. وفي عام 2011، نشرت بيترسون هي وزملاؤها دراسة عن ذكريات الأطفال.

وتم توجيه أسئلة للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 4 و13 عاما عن ذكرياتهم في مراحل الطفولة المبكرة، ثم تم توجيه نفس الأسئلة لنفس الأطفال بعد عامين، وكان الأطفال الأكبر سنا أكثر قدرة على تذكر تلك الذكريات، في حين قال الأطفال الأصغر أشياء مختلفة تماما عما كانوا قد قالوه من قبل. وعندما تم تذكيرهم بما قالوه في المقابلة الأولى، لم يتذكر معظمهم ما قالوه على الإطلاق.

ولذلك، فإن الأطفال في الثالثة أو الرابعة من العمر يتذكرون الأحداث خلال السنوات الأولى من حياتهم، وعن ذلك تقول بيترسون: «من الواضح أن لديهم ذكريات، ولديهم قدرات لغوية، ولكن في الغالب ما تمحى هذه الذكريات عندما يصلون إلى مرحلة البلوغ. ويبدو أن هذه السن من الذاكرة المبكرة هي هدف يتحرك باستمرار».

وفي دراسة تقوم بعقد مقارنة بين الأطفال الصينيين والأطفال الكنديين، وجد أن الأطفال الكنديين لديهم القدرة على تذكر عام، أكثر من الصينيين ولديهم القدرة أيضا على تذكر أحداث أكثر. وقد يعكس هذا كيفية حديث الآباء مع أطفالهم، كما يعكس نوع القصص والتجارب الموجودة في كلتا الثقافتين.

وتشير بيترسون إلى أنه يمكن التنبؤ بقدرة الطفل على تذكر أحداث معينة، فإذا تحدث الطفل عن العاطفة وهو يصف الذكريات، فيكون لديه قدرة أكبر على التذكر، وإذا ما تم وصف الذكريات بطريقة بها ترابط منطقي للأحداث وتتابع وفهم كبير، فإن احتمالية تذكر تلك الذكريات يكون أكبر.

وقالت بيترسون إن الآباء الذين يناقشون الذكريات مع أبنائهم ويطرحون عليهم الأسئلة يساعدونهم على فهم كيفية عمل الذاكرة، وأضافت: «وبشكل أكثر تفصيلا، فإن الآباء يظهرون لأبنائهم أن الذكريات الجيدة منظمة، وأن لديهم تسلسلا زمنيا ونقاطا عاطفية مهمة».

ويشتمل تطوير الذاكرة على تطوير اللغة وتنمية الوعي والشخصية والسرد الشخصي. ولا يقوم الأطفال الرضع باستكشاف العالم الجديد فحسب، ولكنهم يفهمون أيضا وجودهم المستقل، وهو ما أطلق عليه أحد الباحثين اسم «الذات».

ويعد الأمر المثير للاهتمام دائما هو أننا كبالغين لا يمكننا تذكر السنوات الأولى من حياتنا، حيث تكون الخلايا العصبية قد تشعبت ويكون الجيلاتين قد برد، وننسى جميع ذكرياتنا خلال السنوات الأولى.

* خدمة «نيويورك تايمز»