اختبارات وراثية على الرضع لتشخيص الأمراض النادرة بسرعة

اكتشاف خلل جيني قاتل ونادر لم يرصد إلا مرة واحدة فقط من قبل

TT

منذ اليوم الذي ولدت فيه الطفلة، ظلت تعاني من نوبة تلو الأخرى. وبذل الأطباء في مستشفى «ميرسي» للأطفال في مدينة كنساس بولاية ميسوري كل ما في وسعهم من أجل إبقائها على قيد الحياة.. مرت الأسابيع ولم تفلح العقاقير، وفي النهاية فقدت أسرتها الأمل في نجاتها وتم إبعاد كل الأجهزة الطبية عنها.. لقد كانت آنذاك في أسبوعها الخامس في الحياة.

وشك الأطباء المعالجون لها في وجود خلل وراثي، وكانت المستشفى بالمصادفة بدأت لتوها إجراء دراسة عن طريقة جديدة لتحليل الحمض النووي منقوص الأكسجين DNA لدى حديثي الولادة بهدف معرفة التغيرات الجينية التي من الممكن أن تسبب المرض.

وتثبت هذه الطريقة الجديدة، التي نشرت حديثا في مجلة «علم الطب التحولي»، Science Translational Medicine صحة المفهوم. وقد أمكن من خلال فحص الحمض «دي إن إيه» لأربعة أطفال تحديد التغير الجيني الذي يسبب المرض في غضون يومين وليس أسابيع أو شهورا.. وقال الباحثون في هذه الدراسة إن الاختبار قد يكون ثمرة من الثمرات العملية للثورة التي أدت إلى وضع تسلسل الحمض «دي إن إيه» للإنسان بشكل كامل.

أما بالنسبة للطفلة التي كانت تعاني من نوبات، فقد أخذ الأطباء عينة من دمها، واستغرق تحليلها 50 ساعة فقط، وكان هذا كفيلا بتقديم إجابة. لقد كانت الطفلة تعاني من خلل جيني قاتل نادر حتى إنه لم يرصد إلا مرة واحدة فقط. وقال الدكتور جوشوا بيتريكين، أحد الأطباء المعالجين للطفلة، إنه «كان من الممكن إجراء التحليل بعد أيام من ولادة الطفلة. لم يكن هناك علاج، ولا أي شيء يمكن أن يغير النهاية، لكن كان ينبغي لنا استشارة الأسرة وتجنب ما كان ليصبح سبب معاناة كبيرة»، وأوضح أن الطفلة كانت ستظل تحت تأثير المهدئات والعقاقير وموصلة بالأنابيب طوال حياتها القصيرة.

كانت الفكرة وراء التحليل هي الاستفادة من المعلومات المتوفرة عن أعراض المرض بغرض تضييق البحث عن تغيرات وراثية. وقال الدكتور جو غراي، خبير في تحليل الخريطة الجينية في جامعة أوريغون للصحة والعلوم: «إنها خطوة جيدة في الاتجاه الصحيح». وقال غراي، الذي لم يشارك في الدراسة: «إنها خريطة جينية ضخمة. كيف يمكنك معرفة الجزء الذي ينبغي أن تبحث فيه؟».

وفي حين أن هناك حاجة إلى إجراء مزيد من الأبحاث قبل تعميم استخدام الاختبار، فقد أثنى غراي على هذه المحاولات، وأوضح قائلا: «إذا لم يتحرك بهذا الشكل، لن نحقق أي نجاح».

* أمراض وراثية

* يعاني واحد من بين كل 20 طفلا في وحدات الرعاية المركزة لحديثي الولادة من مرض وراثي، ولا يمكن لأحد التكهن بكنهه. وحدد العلماء عدد الجينات التي بها خلل والتي تتسبب في أمراض وراثية بما بين 3500 و7500 على حد قول مؤلفي الورقة البحثية الذين أشاروا إلى وجود علاج لـ500 منها.

لتجربة هذه الطريقة قام الباحثون بتجربتها على طفلين تم تشخيص مرضيهما من خلال تحليل عينة تشريحية بعد الوفاة. وسرعان ما اكتشفوا الأسباب الوراثية، ثم جربوا هذه الطريقة على أربعة أطفال يعانون من أمراض مشكوك في أنها وراثية من بينهم أطفال يعانون نوبات. وسرعان ما وجدوا جينا به خلل في ثلاثة أطفال من الأربعة.

كذلك رتب الباحثون تسلسل الحمض النووي لأخ أكبر لأحد الأطفال الذين يعانون من بعض الاضطرابات الوراثية. كانت أعضاؤه في المكان المقابل للمكان الطبيعي، حيث كان قلبه في الجانب الأيمن لا الأيسر من الصدر على سبيل المثال. وأدى هذا إلى خلل في القلب تم تصحيحه من خلال عملية جراحية. وأخبر الأطباء الأبوين أن الطفل يعاني من حالة نادرة لن تتكرر. وكان يعاني طفلهم الثاني من المشكلة نفسها. واكتشف الباحثون وجود خلل وراثي جديد غير مسبوق كانوا يشكون في أنه السبب. واتصلوا بالأطباء واكتشفوا أن ما يزيد على مائة آخرين يعانون من هذا الخلل نفسه الذي لا يعرف له سبب.

ويسعى الباحثون حاليا إلى معرفة ما إذا كان البعض لديه تغير وراثي يمكن أن يشير إلى أنه سبب المشكلة. ويمكن أن يعرف الآباء التشخيص قبل الولادة للاستفادة من ذلك في حالات الحمل في المستقبل.

كان أحد الأطفال الذين ظل المرض الذي أصيب به لغزا، من المرضى الآخرين للدكتور بيتريكين. عند ولادته كانت هناك أجزاء من البشرة أعلى الحاجبين وفروة الرأس مفقودة. بمرور الأسابيع ازدادت الحالة سوءا حتى فقد في النهاية كل الأجزاء الجلدية الموجودة داخل فمه وعلى جسده وتوفي بسبب الإصابة بعدوى. وقال دكتور بيتريكين: «لا نعلم حتى الآن سبب هذا».

أتاحت هذه الطريقة الجديدة عمل برنامج كومبيوتر يبحث عن الجينات على أساس أعراض المرض المصاب به الطفل. ولأنه يركز فقط على الجينات المسببة للأمراض لدى حديثي الولادة، تجنب مشكلة أخلاقية متمثلة في نتائج ليست ذات صلة بالمشكلة التي يتم معالجتها. وربما يكتشف الباحثون من خلال ترتيب الحمض النووي بشكل تسلسلي وتحليله على سبيل المثال، تغيرات وراثية تؤدي إلى حالات لا يمكن أن تحدث إلا للبالغين. هل يرغب الآباء في معرفة أن طفلهم المريض لديه جين يزيد من احتمالات الإصابة بمرض ألزهايمر؟

يقول الدكتور لايني فريدمان روس، عالم في الأخلاق وأستاذ طب الأطفال بجامعة شيكاغو: «لقد قاموا بالأمر بشكل سليم. نادرا ما تسمع ذلك من عالم في الأخلاق». وأثنى الدكتور روس، الذي لم يشارك في هذه الدراسة، على الباحثين لتفاديهم عن وعي هذه النتائج العرضية.

ومع ذلك، فإن الطريقة مكلفة، حيث تبلغ تكلفتها نحو 13500 دولار، ولم يغطها نظام التأمين بعد. مع ذلك، يتوقع الدكتور ستيفن كينغسمور، مدير «مركز طب جينوم الأطفال» التابع لمستشفى «ميرسي» للأطفال، أن تستحق هذه الطريقة تلك التكلفة ويأمل أن تغطيها شركات التأمين. وأشار إلى أن تكلفة كل يوم يقضيه الطفل داخل وحدة الرعاية المركزة تبلغ 8 آلاف دولار، لذا أي اختبار قد يقلل تلك الفترة سيكون مفيدا.

يمكن للاختبار، الذي يكشف عن مرض وراثي مهلك على سبيل المثال، أن يتيح للآباء والأطباء معرفة أن الاستمرار في مساعدة الطفل على الحياة أملا في تحسنه أمر لا طائل من ورائه ولن يؤدي إلا إلى مزيد من المعاناة والألم. على الجانب الآخر، يقول الدكتور كينغسمور، إنه يأمل أن يساعد محبو الخير في دفع التكاليف.

واستخدم الباحثون كل ما لديهم من معلومات عن الطفل حديث الولادة المريض من أجل تطوير الاختبار. هل كانت الطفلة تعاني من لين العظام؟ هل كان بكاؤها غير طبيعي وكذا تنفسها؟ ويستطيع برنامج كومبيوتر البحث في الأعراض وتسلسل «دي إن إيه» عن جينات غير طبيعية قد تكون السبب وراء الإصابة بالمرض.

وتمتلك شركة «إلومنيا»، التي تعمل في مجال ترتيب الجينات بشكل تسلسلي، جهازا جديدا وضع نموذج له في مقاطعة إيسيكس بإنجلترا. ويستطيع هذا الجهاز ترتيب تسلسل الحمض النووي خلال 25 ساعة فقط، لذا أرسل الباحثون عينات من دماء هؤلاء الأطفال، وأرسلت «فيدرال إكسبريس» النتائج، التي كانت على محرك صلب مملوء ببيانات، لتحليلها في مستشفى ميسوري. ومن المتوقع أن يكون لدى المستشفى الجهاز الخاص بها بنهاية نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. ورغم اكتشاف أسباب وراثية للأمراض في ثلاث حالات من الأربعة، كانت الأمراض مستعصية لا علاج لها باستثناء الجراحة في حالة الأخوين. وكان ذلك الطفل هو الوحيد الذي بقي على قيد الحياة.

مع ذلك كانت أكبر مفاجأة لكينغسمور، هي تقدير الأسر لاكتشاف التشخيص. وقال إنه عندما يصاب الطفل بمرض غامض كثيرا ما تبدأ الأسرة رحلة طويلة مرعبة من التشخيص. وأضاف: «يتم إجراء فحص تلو الفحص، وبعضها يتضمن تدخلا جراحيا ويعاني الطفل. وتزداد حالة الطفل سوءا، حيث يقضون حياتهم كاملة في المستشفى ولا يعثرون على جواب». قد يكون مجرد معرفة الجواب أمرا يبعث على الراحة. وأوضح كينغسمور قائلا: «تقديم تشخيص محدد للحالة يضع نهاية على نحو ما، حيث يكون لديهم شيء له اسم».

* خدمة «نيويورك تايمز»