قرحة المعدة.. وهموم الملايين

الفلفل والبهارات والتوتر ليست من أسبابها

TT

إلى وقت قريب، كان يُعتقد أن لنمط سلوكيات الحياة دوراً مهماً، بل رئيسياً، في الإصابة بقرحة المعدة. كما أن من الشائع أيضاً أن أي ألم في أعلى البطن هو نتيجة لوجود قرحة في المعدة. لكن البحوث والدراسات الطبية لا تزال حتى اليوم تأتي بالجديد والغريب في هذا الشأن، والمعدة واحدة من عدة أعضاء قد تُصيبها درجات متفاوتة في الشكل والحجم من حالة القرحة. لماذا الحديث عن قرحة المعدة؟ لأنها شائعة جداً، وتطال حتى الأطفال بمعدلات لم يُعتقد أنها في السابق كذلك. ولأنها تُؤثر بدرجة بالغة، ما لم يتم علاجها، إذْ قد تُؤدي إلى مضاعفات وتعقيدات صحية ليس من المبالغة اختصارها بالقول أنها مُهددة لسلامة حياة الإنسان وإصابته بأنواع من السرطان. هل نُريد بعد هذا عناوين لمبررات أكثر للحديث عنها! أعضاء وقروح

* القروح الهضمية peptic ulcers، أي في الأعضاء المعنية بالدرجة الأولى بالهضم المباشر للطعام، تطال ثلاثة أعضاء في الجهاز الهضمي، بمعنى أنه قد تصاب طبقة أنسجة بطانتها بحالات من التهتك والقروح والالتهابات، متفاوتة الشدة والنوعية والمظهر والتأثير وأسباب النشوء وطريقة المعالجة. وتشمل قرحة أسفل المريء Esophageal ulcer، وقرحة أي جزء من المعدة Gastric ulcer، وقرحة الجزء الأول من الأمعاء الدقيقة، أو ما يُعرف بالإثني عشر Duodenal ulcer. وبطانة كل واحد من هذه الأعضاء مختلفة تماماً من نواحي التركيب والبنية، ومن نواحي الوظيفة، ومن نواحي الآليات الطبيعية فيها لحماية نفسها وضمان سلامة بنيتها ووظيفتها، ومن نواحي ما قد يتسبب بالقروح أو التهابات أو التهتكات فيها. إذن الحديث هو عن عنوان عام يُستخدم اصطلاحاً لوصف طيف واسع من الأمراض. وقرحة المعدة، تظهر إما أجزاؤها العلوية أو السفلية، كتهتك وتلف، وحيد أو متعدد، في طبقة أنسجة البطانة لها، وما يتفاوت في مدى عمقه واتساع مساحته. كما أن لدينا تلك الالتهابات التي تطال بطانة المعدة كنقاط صغيرة من القروح عددها قد يصل إلى المئات. ولدينا التهتكات التي تبدو كقروح لكنها في حقيقة الأمر بؤر لنمو سرطاني في المعدة. ولدينا نفس الأشياء في الإثني عشر وفي أسفل المريء، من قرحة والتهابات وسرطان. وبعيداً عن الحديث عن السرطان، فإن ثمة آليات متنوعة ومختلفة بدرجات عميقة في نشوء حالات التهابات والقروح في أي من الأعضاء الثلاثة تلك، وإن كانت تتشابه كثيراً في ظاهر الأعراض والعلامات التي تبدو لدى المرضى.

ألم وحرقة

* من أكثر الأعراض التي يشكو منها المُصابون بالقرحة أو الاضطرابات الأخرى في بطانة المعدة هو ذلك الألم الحارق، الذي يُشبهه بعضهم بالنار التي تلتهب في أعلى البطن. أو في أي مكان من السرة إلى حدود حلمات الثديين، وقد يستغرق بضع دقائق أو بضع ساعات، وقد يهيج في أيام أو أسابيع أو أشهر ليهدأ بعدها حتى دونما معالجة. والذي قد يكون أسوء ما يحصل عندما تكون معدة الإنسان خالية ويخف عند تناول الطعام، لأن هذا النوع من الألم، في الغالب، إنما هو بسبب وصول أحماض المعدة، الشديدة القوة، إلى أنسجة جدار المعدة في الطبقات التي لا تتوفر لها حماية الحواجز والآليات الطبيعية. وعبارة «في الغالب» ضرورية لأنه وبعد تشخيص وجود قرحة لدى إنسان ما ومعالجتها، فإنه لا تبدو ثمة علاقة بين عودة الشعور بنفس الألم ووجود القرحة. أي بمعنى أن الشخص قد يشكو من الألم ومع ذلك لا يُظهر فحص منظار المعدة أي قروح، والعكس صحيح حال وجود قروح دونما شكوى للمريض. كما أن بعضاً من أنواع قرحة المعدة يزيد، حال تناول الطعام ويخف مع الجوع.

هذا بالإضافة إلى الشكوى من الغثيان أو القيء أو ألم في الصدر أو نقص غير مبرر في وزن الجسم. وحينما تكون القرحة أو التهابات المعدة أو الإثني عشر أو المريء شديدة أو تتعمق بالقرب من منطقة بها شرايين أو غيرها من الأوعية الدموية، فإن نزيفاً دموياً متفاوت الحجم قد يحصل كأحد التداعيات الخطيرة لأي منها. والذي قد يبدو على هيئة قيء دم أحمر أو أسود، وخرج براز أسود اللون، أشبه بالزفت الأسود اللامع.

أسباب ومُثيرات

* ما يُعتقد اليوم كأهم سبب رئيسي لنشوء القروح في الأجزاء العلوية من جهاز الهضم هو وجود بكتيريا هيليكوبكتر بايلوري Helicobacter pylori ، أو بكتريا بوابة المعدة الحلزونية الشكل. كما يُؤدي اليها بطريقة مباشرة وبشكل مُحتمل استخدام أدوية تخفيف الالتهابات من النوع غير الستيرويدي NSAIDs، مثل الأسبرين والبروفين والفولتارين وغيرها. وحين ملامسة حبوب هذه الأدوية لطبقة بطانة المعدة فإنها تعمل على تهييجها وتهتكها، ما يُسهل تغلغل أحماض المعدة فيها ونشوء القرحة. كما أن عملها في الجسم لتخفيف الالتهابات عبر منع تكون بعض المركبات الكيميائية يُؤدي إلى إضعاف قدرات بطانة المعدة على إفراز طبقة الغلاف الواقي للمعدة، ما يُسهل نشوء القرحة أيضاً. ولذا فإن آليات ضرر هذه الأدوية متنوعة في أذى المعدة. كما أن مما يجدر التنبه إليه أن أثرها الضار على بطانة المعدة وتسهيل حصول القرحة غير مرتبط فقط بتناولها كحبوب عبر الفم، بل حتى استخدام المرهم أو السائل الهلامي (الجل) أو الكريم (بلسم) المحتوي على كميات من هذه الأدوية قد يتسبب بمشكلة المعدة تلك.

ولذا فإن أفضل وسيلة للوقاية من ضرر الأدوية المسكنة للألم هذه هو تحاشي تناولها، واللجوء إلى الأنواع التي لا تعمل بنفس طريقة عملها، أي استخدام أدوية باراسيتامول، مثل بانادول أو تايلينول أو غيرها إن أمكن بها السيطرة على الألم. وإن كان لا بد منها، فمن الأفضل تناول أدوية معالجة القرحة، وخاصة النوعية المانعة لإنتاج الهيدروجين في إفرازات المعدة. أي الأدوية الخافضة لإفراز أحماض المعدة، مثل لوزك أو نيكسيم أو بروتونكس أو غيرها.

ويعمل التدخين على زيادة إفراز أحماض المعدة وزيادة مكونات الأحماض فيها. ولشرب الكحول آليات متعددة في احتمال تدهور التهابات وقروح المعدة والمريء والإثني عشر. وهما ما يجعلا من التدخين ومن تناول المشروبات الكحولية عوامل مثيرة لنشوء قرحة المعدة وأحد مُعيقات عمل أدوية معالجتها، خاصة عند وجود بكتيريا المعدة بالأصل أو استخدام المسكنات غير الستيرودية. ولكن من غير الواضح علمياً أن التدخين أو الكحول يُؤديان إلى الإصابة بقرحة المعدة. ونفس الشيء ينطبق على التوتر النفسي والضغوطات الحياتية وتناول الفلفل الحار أو البهارات، بالرغم من أن البعض قد يشكو من أنها قد تزيد الألم لديه.

بكتيريا حلزونية في المعدة. وتعيش هذه البكتيريا وتتكاثر إما في سطح طبقة أنسجة وخلايا الغشاء المخاطي المبطنة، التي مهمتها حماية أجزاء المعدة والأمعاء الدقيقة، أو على السطح وفي داخل أعماق متفاوتة من تلك الطبقة. ومن المهم التنبه إلى أن مجرد وجود البكتيريا هذه في الجهاز الهضمي للإنسان، لا يعني أنه بالضرورة سيتأذى منها أو أنها ستتسبب له بقروح في المعدة أو غيرها. لأنها موجودة في سكان المجتمعات المختلفة بنسب متفاوتة الارتفاع، لا يتناسب مع مدى انتشار قرحة المعدة فيها. وعلى سبيل المثال فإن حوالي 60% من السكان في السعودية أو أجزاء من أوروبا أو أميركا الشمالية، لديهم هذه البكتيريا، في حين أن هذا لا يعني أنهم كلهم مُصابون بالقرحة أو على وشك الإصابة بها. ومن غير المعلوم على وجه الدقة كيف تنتقل البكتيريا هذه من إنسان مُصاب بها، وإن لم تتسبب له بأي مشكلة صحية، إلى إنسان سليم. ومع العلم أن انتقالها إلى سليم لا يعني بالضرورة إصابته كذلك بأي مشكلة صحية. وثمة من يرى أنها تنتقل بتناول أطعمة أو مياه ملوثة بها، ووصل البعض إلى اقتراح أن القبلة في الفم تنقلها! طبيب ومنظار وعلاج

* قرحة المعدة ليست أمراً بإمكان المرء علاجها بنفسه، بل يجب الرجوع إلى الطبيب حتى حال تكرار الشكوى من تلك النوعية المتقدمة من الأعراض لها. ووفق ما يراه الطبيب من مراجعة الحال، تكون في الغالب النصيحة بالخضوع لكشف منظار أعلى الجهاز الهضمي، أي لفحص أسطح بطانة المريء والمعدة والاثني عشر. ومن خلاله أيضاً يتم أخذ عينات من أطراف القرحة لو وُجدت كما يتم أخذ عينات من البطانة تلك لتبين مدى وجود البكتيريا.

وقد يطلب الطبيب إعادة المنظار لأسباب عدة، لعل من أهمها في الغالب التأكد من شفاء القرحة نفسها. ويهدف العلاج إلى تقليل إنتاج المعدة للأحماض كي تُتاح فرصة للقدرات الطبيعية في جهاز مناعة الجسم لالتئام القرحة وإصلاح الخلل في تلك البطانة التي طال التهتك بنيتها. وكذلك القضاء على بكتيريا هيليكوبكتر بالمضادات الحيوية حال إثبات وجودها. هذا مع الالتزام بالامتناع عن التدخين أو شرب الكحول وتحاشي تناول أدوية مسكنات الالتهابات من الأنواع غير الستيرودية وتنظيم طريقة وأوقات تناول وجبات الطعام بما يُوفر الراحة للمعدة والمريء والإثني عشر ما أمكن.