علاج موجه لأمراض الدم الخبيثة

تقارير وأبحاث في ندوة «الشفاء من السرطان - 2010»

TT

على الرغم من حدوث تقدم كبير في النواحي المختلفة في الطب خلال القرن العشرين، فلا يزال مرض السرطان يحتل موقعا حساسا في وعي جمهور الناس من حيث إثارته مشاعر الخوف والقلق لدى الكثيرين. ويمكننا القول بأن حالات السرطان ازدادت في النصف الثاني من القرن العشرين لأسباب عدة، منها ارتفاع متوسط العمر المتوقع للإنسان في البلدان المختلفة ارتفاعا كبيرا، مما أدى إلى ازدياد نسبة المواطنين الذين تجاوزوا سن الخمسين مثلا. ومن المعلوم أن معظم حالات السرطان تظهر في العقود التي تلي سن الخمسين، ولذلك يمكن القول بأن نسبة حالات السرطان مقارنة بعدد السكان ازدادت نتيجة زيادة نسبة السكان الذين تجاوزوا سن الخمسين مثلا.

في حديث إلى «صحتك» في «الشرق الأوسط»، أوضح الدكتور عبد الرحيم قاري، استشاري أمراض الدم والأورام، رئيس الندوة السنوية التي تحمل عنوانا فيه الكثير من التفاؤل والأمل لمرضى السرطان، وهو «الشفاء من السرطان - 2010»، التي اختتمت أعمالها نهاية شهر أبريل (نيسان) الماضي في مدينة جدة، أن التقدم الكبير في علاج سرطانات الدم والأورام اللمفاوية بالذات، حدث بشكل يفوق التقدم الذي حصل في الأورام الأخرى. وكانت تلك الأمراض مؤدية إلى الوفاة كلها تقريبا قبل الستينات من القرن العشرين، بينما أمكن الشفاء التام من معظمها اليوم بنسب تتراوح بين 25 إلى 90%.

وعلى الرغم من هذا التقدم الكبير لا تزال هذه الأورام تثير مخاوف العامة من الناس، وبخاصة إذا كانت متعلقة بشريحة صغار السن من الأطفال أو الشباب، وكذلك لكون هذه الأمراض تصيب في حالات نادرة جدا أشخاصا يحتلون مكانة في المجتمع مثل الرياضيين والفنانين أو غيرهم من الناشطين في مجال الأعمال أو الحياة العامة.

قدم البروفسور توماس إلتر من جامعة كولونيا في ألمانيا، بحثا عن آخر مستجدات سرطان الدم اللمفاوي المزمن، قال فيه إن هذا المرض يتسم بوجود مجموعات مختلفة من المرضى تتشابه فيهم الصورة المرضية، ولكنهم يختلفون في فرص الاستجابة للعلاج وفرص الشفاء من المرض. وقد تمكن الباحثون من التعرف على سمات مختبرية محددة بما فيها الصفات الوراثية الكامنة في الخلايا السرطانية التي تشكل عوامل خطورة مختلفة للمرض، وتحدد بالتالي توقعات مختلفة للمريض الذي يحمل هذه السمات أو الصفات الوراثية.

وبناء على توقعنا لمستقبل المريض فيما يتعلق بفرص الاستجابة للعلاج وفرص الشفاء من المرض، يمكننا أن نحدد خططا علاجية مختلفة حسب حالة كل مريض على حدة، فيكون العلاج مكثفا في حالة المريض الذي تكون فرص الاستجابة للعلاج وفرص الشفاء من المرض لديه ضعيفة، ولذلك نحاول في هذه المجموعة تكثيف العلاج للوصول إلى أفضل النتائج، بينما يكون العلاج أقل كثافة في حالة المريض الذي تكون فرص الاستجابة للعلاج وفرص الشفاء من المرض لديه جيدة، مع تحقيق النتائج الجيدة نفسها من دون تعريض المريض لآثار جانبية خطيرة.

وقدم الدكتور إلتر آخر الأبحاث التي أجريت في ألمانيا على سرطان الدم اللمفاوي المزمن باستخدام العلاج الموجه، الذي يتمثل في عقار «مابثيرا» (Mabthera).

* عوامل الخطورة

* وأشار الدكتور عبد الرحيم قاري إلى أن نجاحنا في الوصول إلى شفاء الكثير من المرضى مكننا من التعرف على الآثار الجانبية لعلاج السرطان على مدى بعيد.

لذلك كان التعرف على عوامل الخطورة للمرض وتحديد مجموعات من المرضى يحملون مخاطر مختلفة، سواء في سرطان الدم اللمفاوي المزمن أو غير ذلك من الأمراض الخبيثة مهما جدا للوصول إلى شفاء المرضى من دون تعريضهم للآثار الجانبية.

كما قدم بروفسور إلتر نتائج أبحاثه في سرطان العقد اللمفاوية، حيث أظهرت الدراسات أن استخدام عقار «ريتوكسماب» (Rituxmab) قد أدى إلى تحسن فرص شفاء المرضى الذين يعانون سرطان العقد اللمفاوية بشكل واضح عند استخدام هذا العقار.

* تكسر خلايا الدم

* وقدم البروفسور بيتر هيلمان من جامعة ليدز في بريطانيا، نتائج الأبحاث الأخيرة التي أجريت في مرض نادر يسمى «تكسر خلايا الدم الليلي الفجائي»، حيث أمكن التعرف على الخلل الكيميائي الجزيئي الذي يسبب هذا المرض، ومن ثم تطوير علاج خاص لهذا المرض باستخدام تقنية الأجسام المضادة، وهذا العقار يسمى «سوليريس» (Soliris).

ويعاني المرضى المصابون بتكسر خلايا الدم الليلي الفجائي، انخفاض خلايا الدم الحمراء، إما عن طريق تكسرها في الدم أو ضعف إنتاجها في النخاع العظمي، وفي الحالة الأخيرة تنخفض أيضا خلايا الدم البيضاء والصفائح الدموية. وكذلك يعانون ميلا إلى تكوين جلطات في أماكن مختلفة في الجسم، وبخاصة في الأوردة في منطقة البطن مثلا أو في الرئتين أو في الدماغ.

ويخفض عقار «سوليريس» المشكلات المذكورة آنفا بشكل يمكن المرضى من العيش بصورة طبيعية تقريبا، علما بأن المرضى سابقا لم يكن لديهم أي فرصة للعلاج المباشر، إذ لم يكن هناك أي علاج لهذا المرض إلا بشكل موجه إلى الأعراض، وليس إلى السبب.

وكذلك عرض البروفسور هيلمان أبحاثه في علاج الأمراض اللمفاوية الخبيثة باستخدام عقار «كامباث» (Campath)، حيث ثبت أن لهذا العقار فعالية عالية، ولكن يجب الانتباه إلى الآثار الجانبية للعلاج، وبخاصة ضعف المناعة حيث ينشط في بعض الأحيان فيروس cmv، مما يسبب مشكلات خطيرة.

* سرطانات الدم

* وعن السرطان يقول د. قاري إنه عبارة عن أنواع مختلفة تصيب أعضاء وأنسجة مختلفة من الجسم، ومن ضمنها سرطان الدم وهو مرض خبيث يصيب الخلايا المكونة للدم والموجودة في النخاع العظمي، وهو في حد ذاته ليس عبارة عن مرض واحد، وإنما أنواع مختلفة يمكن تقسيمها إلى 4 أنواع أساسية تختلف في وسائل علاجها، وأيضا مقدار استجابتها للعلاج. إلى جانب ذلك، هنالك الأورام اللمفاوية التي يمكن اعتبارها أيضا سرطانات مرتبطة بالدم، بحيث تمثل الخلايا اللمفاوية والعقد اللمفاوية وحدة واحدة مع خلايا الدم والنخاع العظمي (المنتج للدم).

إن الأورام اللمفاوية، بدورها، تنقسم إلى أمراض مختلفة يمكن اعتبارها بشكل مبسط مكونة من 3 أمراض أو مجموعات مرضية هي مرض هودجكن، والورم اللمفاوي من نوع غير هودجكن، والورم النخاعي أو النقوي المتعدد. وعلى الرغم من هذا التقسيم نلاحظ فوارق بيولوجية وعلاجية بين الأنواع الدقيقة المختلفة، وبخاصة تلك التي تجتمع تحت ما يسمى بالأورام اللمفاوية من نوع غير هودجكن.

وبعد تشخيص السرطان يجب أن يحدد مدى انتشاره، وبشكل مبسط يمكن تحديد مراحل الانتشار إلى 3 مراحل: انتشار في موضع النشوء، وانتشار في منطقة النشوء، وانتشار عام.

ويتم علاج سرطان الدم، اليوم، كأي مرض سرطاني آخر بإحدى 3 وسائل أساسية: علاج جراحي، وعلاج إشعاعي، وعلاج دوائي (كيميائي). وقد حصل خلال العقود الماضية تقدم كبير أدى إلى الوصول إلى الشفاء التام من أنواع كثيرة من السرطان. والشفاء التام يكون في حالة أنواع معينة من السرطان بواسطة العلاج الجراحي بالدرجة الأولى، مع العلاج الإشعاعي أو الدوائي أو كليهما معا، وهذا ينطبق على هذه الأنواع المعينة من السرطان في حال اكتشافها، وهي لم تنتشر بعد خارج موضع النشوء، أو بنسبة محدودة ضمن منطقة النشوء.

إلى جانب ذلك، هناك الكثير من أنواع السرطان التي يمكن الشفاء التام منها أيضا في حال الانتشار بشكل عام، في مقدمة هذه الأنواع سرطانات الدم أو الأورام اللمفاوية الخبيثة، حيث إن هذه الأمراض المذكورة يمكن اعتبارها جميعا تقريبا في حالة انتشار عام، مثل انتشار الدم في الجسم.

* أسباب السرطان

* هناك حالات معينة نستطيع أن نستفيد منها في معرفة الأسباب المؤدية للأورام بالنسبة إلى الأشخاص الآخرين حول المريض أو غيره، فمثلا عندما يصاب شخص مدخن لسنوات طويلة بورم في الرئة فنستطيع أن نقول إن الورم ربما حدث بسبب التدخين، وربما يستفيد بعض المدخنين من أقارب المريض أو غيرهم من هذه العبرة ويبتعدون عن التدخين. وهناك أمراض وراثية معينة نعلم أنها ترجح الميل إلى ظهور الأورام، وقد أصبحنا اليوم نعرف الكثير من الاختلالات الوراثية التي تسبب الميل إلى نشوء الأورام بدرجات مختلفة، وفي حالة معرفة ذلك يمكن لنا أن نفحص أقارب المريض لمعرفة وجود الجينة الوراثية تلك من عدمه، ثم نتخذ الإجراء اللازم لذلك. كذلك يمكن لنا بعد معرفة أسباب نشوء الأورام عن طريق التعرض لمواد كيمائية أو غير ذلك في العمل أن نضع سياسات لحماية العاملين المعرضين لهذه المواد.

واستطعنا أيضا بواسطة إدخال التطعيم الوقائي من فيروس التهاب الكبد من نوع «بي» أن نخفض أعداد المصابين بسرطان الكبد. هذه الإجراءات تسعى إلى تخفيض ظهور الأورام لدى الناس عامة، ولن تفيد بشكل خاص المريض المصاب بالورم.

ويلخص الدكتور قاري الأسباب المؤدية للميل إلى نشوء الأورام، بشكل عام، في التالي:

* الوراثة والإشعاع

* الاختلالات الوراثية: من المعروف أن هناك اختلالات وراثية تجعل الإنسان عرضة لنشوء الأورام عامة، وأورام الدم خاصة، وأشهرها مرض متلازمة داون (Down Syndrome)، أو ما يسمى بالطفل المنغولي، الذي يرتفع لديه احتمال الإصابة بسرطان الدم الحاد.

* التعرض للإشعاع: من التجربة الأليمة للقنبلتين الذريتين اللتين استخدمتا أثناء الحرب العالمية الثانية لقصف مدينتي هيروشيا ونغازاكي اليابانيتين، ومن آثار حادث مفاعل تشرنوبل الروسي، ومؤخرا من التقارير عن اليورانيوم المنضب الذي استخدم في العراق، والبلقان، يتضح أن التعرض للإشعاع يسبب أورام الدم خلال السنوات التي تلي التعرض لذلك للإشعاع.

وكذلك كانت الجرعات التي يتعرض لها أطباء وفنيو الأشعة في أول القرن العشرين للإشعاع أكبر بكثير من الجرعات التي يتعرض لها العاملون في أقسام الأشعة التشخيصية حاليا، ولذلك كان احتمال خطر ظهور أورام الدم لدى هؤلاء العاملين أكبر من غيرهم. كذلك تفيد دراسات حديثة بأن أخطار نشوء أورام الدم تزيد عند الأطفال الذين تعرضت أمهاتهم أثناء الحمل بهم للإشعاع أو الأطفال الذين ولدوا لآباء يعملون في المفاعلات النووية، أو بالقرب منها.

* العلاج الإشعاعي والكيميائي: بعد استخدام العلاج الإشعاعي والكيميائي لعشرات الآلاف من المرضى خلال القرن العشرين، ثبت علميا بالملاحظة ثم بالدراسات أن العلاج الإشعاعي وكذلك الكيميائي يسبب بنفسه في بعض الحالات أورام الدم التي لا علاقة لها بالمرض الأصلي، الذي تم استخدام العلاج الإشعاعي أو الكيميائي لأجله.

وقد كان الأطباء في السابق يستخدمون العلاج الإشعاعي لعلاج بعض الأمراض غير الخبيثة، مثل مرض التهاب فقرات الظهر، ولا يزال بعض العقاقير الكيميائية تستخدم في أمراض مستعصية غير خبيثة، لأن لها تأثيرا على الجهاز النخاعي في الجسم، ولذلك توقف الأطباء عن استخدام العلاج الإشعاعي في كثير من الأمراض غير الخبيثة.

وعلى كل حال، يجب معرفة أن الخطر من ظهور أورام الدم هذه هو خطر ضئيل، ولكنه موجود، وعندما يستخدم اليوم العلاج الكيميائي أو الإشعاعي تكون فوائد استخدامهما أعظم من الأضرار المحتملة على المدى البعيد. على الرغم من هذا، تجرى دائما الدراسات العلمية لاستكشاف أي العقاقير الكيميائية مثلا أقل خطرا من غيرها في التسبب في نشوء أورام الدم، وكذلك تجرى الدراسات لاستكشاف أي التقنيات والوسائل تقلل من خطر العلاج الإشعاعي في هذا الخصوص.

* كيميائيات وفيروسات

* المواد الكيميائية: فالتعرض المتكرر لمواد كيميائية أثناء العمل مثل مادة البنزين (Benzene)، يؤدي إلى بعض أمراض الدم ومنها بعض حالات أمراض الدم الخبيثة. والتعرض هذا يجب أن يكون متكررا وعلى مدى طويل. وبدأت مصانع الكيميائيات بمراقبة عملية التصنيع ومراقبة صحة العاملين للتأكد من عدم وجود مثل هذه الأخطار.

* أمراض الدم المؤدية إلى سرطان الدم: هناك أمراض غير خبيثة في الدم يمكن لها بعد سنوات أن تتحول إلى أمراض دم خبيثة مثل فقر الدم اللاتنسجي، ومرض تكسر كريات الدم الحمراء الليلي الفجائي. وكذلك هناك أمراض دم خبيثة مزمنة تتحول إلى سرطان دم حاد بعد سنوات، مثل تكاثر كريات الدم الحقيقي وتليف النخاع العظمي وسرطان الدم المزمن سواء النخاعي أو اللمفاوي.

* الفيروسات: هناك فيروسات تسبب أوراما، مثل فيروس التهاب الكبد الوبائي من نوع «بي» أو فيروس «إبشتين بار» Epstein Barr Virus (EBV)، الذي يسبب أورام البلعوم الأنفي، وقد وجد أن لهذا الفيروس علاقة وثيقة بالأورام اللمفاوية من نوع (Barkitt)، الذي يظهر في مناطق في أفريقيا، وكذلك بالأورام اللمفاوية التي تظهر بعد زراعة الأعضاء أو عند مرضى الإيدز، وهذه الحالات كلها فيها اختلال مناعي في الخلايا اللمفاوية من نوع « T» . كذلك هناك فيروس يختصر اسمه «HTLV - 1» يسبب مرضا خبيثا في الدم يرمز إليه بـ«ATLL»، وهذا الفيروس موجود في مناطق غرب أفريقيا، ومنطقة بحر الكاريبي وبعض مناطق اليابان.

على الرغم من معرفتنا لهذه العوامل التي قد تسبب أمراض الدم الخبيثة، فإن الغالبية العظمي من حالات أمراض الدم الخبيثة لا تجد تفسيرا بين هذه العوامل أو غيرها.

* أنواع سرطانات الدم

* تنقسم سرطانات الدم إلى 4 أنواع رئيسية هي: سرطان الدم النخاعي الحاد، وسرطان الدم اللمفاوي الحاد، وسرطان الدم النخاعي المزمن، وسرطان الدم اللمفاوي المزمن. وهناك أنواع أخرى نادرة تدخل ضمن أحد الأنواع الأربعة المذكورة وإن كان لها خصائصها.

وقد سمي النوعان الأولان بسرطان الدم الحاد منذ الأزمنة التي لم يكن فيها علاج متوفر لهذه الأمراض، وكانت المدة المتوقعة لبقاء المريض لا تتعدى الأشهر، بينما يمكن توقع بقاء المريض في النوعين الآخرين لسنوات حتى لو لم يتلق أي علاج.

* العلاج

* والحقيقة أن هذه الأمراض الأربعة أمراض مستقلة، تختلف الواحدة عن الأخرى في العلاج والاستجابة للعلاج، وكذلك في فرص الشفاء. ويجمع بينها أنها تنشأ في النخاع العظمي، وتسبب احتلال حيز من مساحته يجعل الخلايا الطبيعية لا تجد مساحة كافية للتكاثر لإنتاج مكونات الدم من كريات الدم الحمراء أو البيضاء أو الصفائح الدموية.

ولذلك تتميز كلها بأنها تسبب فقر الدم أو ضعف الخلايا المتعادلة، وبالتالي ضعف في المناعة، أو ضعف إنتاج الصفائح الدموية، وبالتالي الميل إلى النزف <