اشحذ ذهنك.. وضاعف قدراتك الفكرية

استراتيجيات لتعزيز الأداء العقلي للإنسان

TT

الكثير من الناس يرغبون في أن يظلوا دوما أصحاء في عقولهم (كما في أجسامهم)، لكي يؤدوا مهماتهم على أكمل وجه في المدرسة والجامعة وموقع العمل.

وقد اعتبرت «حبوب الذكاء»، كما أطلق عليها، وسائل مثيرة للجدل موجهة لتحسين التركيز لدى الإنسان وتحسين أدائه العقلي. وهذه التسمية هي مصطلح شعبي دارج أطلق على بعض الأدوية المنشطة للدماغ الموصوفة طبيا، مثل «أمفيتامين» amphetamine «أديرال» Adderall، أو «ميثيلفينيدايت» methylphenidate «ريتالين» Ritalin، «كونسيرتا» Concerta التي تهدف إلى تعزيز الأداء العقلي بدلا من معالجة مشكلات العقل، مثل اضطراب نقص التركيز وفرط الحركة.

وقد أشار أحد المسوحات الذي أجري على طلاب الكليات في الولايات المتحدة إلى أن 7 في المائة منهم، قد استخدموا هذه الأدوية المنشطة للدماغ، بهدف تحسين قدراتهم التعليمية، على سبيل المثال.

* تنشيط الدماغ

* وهناك وسائل أخرى غير دوائية لتعزيز الأداء العقلي. وقد وصف جيف براون، عالم النفس المتخصص في السلوك المعرفي (الإدراكي) في كلية الطب بجامعة هارفارد، ومارك فينسكه، الباحث في علوم الأعصاب في جامعة غويلف في أنتاريو في كندا، مجموعة من الاستراتيجيات الهادفة إلى الحفاظ على حدة الذهن حتى في ظل الظروف الصعبة.

وفي كتابهما الموسوم «العقل الفائز» أو «عقل الفائزين» The Winner›s Brain: ثماني استراتيجيات توظفها العقول العظيمة لتحقيق النجاح (**)، يطرح براون وفينسكه تصوراتهما ومنطلقاتهما التي توصلا إليها بعد دراستهما لأنواع العلاج النفسي المعروفة والاكتشافات الحديثة في علوم الأعصاب. وهما يفترضان أنه يمكن تطبيق هذه الاستراتيجيات في العيادات الطبية وفي الصفوف الدراسية وفي مواقع العمل.

* استراتيجيات تنشيط الدماغ

* وقد راجع براون وفينسكه ثماني استراتيجيات، يمكن لأي إنسان تجربتها في حياته اليومية.. بهدف وضع التحديات أمام عقولهم، والتعلم على تركيز الذهن، والتمكن من زيادة إنتاجية التفكير.

وتوظف هذه الاستراتيحيات عددا من المبادئ المستخدمة في العلاج السلوكي المعرفي، وهو أحد العلاجات النفسية المهمة التي تساعد المرضى على إعادة تشكيل الأوضاع، وعلى تعلم الوسائل الأفضل للتعايش. كما تحتوي الاستراتيجيات على عناصر أخرى من «علم النفس الإيجابي» positive psychology، وهو اتجاه طبي جديد نسبيا، يرصد ثم يعزز مواطن قوة الناس، بدلا من تصحيح مواطن ضعفهم.

وتتيح مناقشة بعض من هذه الاستراتيجيات لنا التعرف على ملامح المنطلقات التي يطرحها الباحثان براون وفينسكه:

* الحوافز

* الحث أو الحوافز. إن تحديد الهدف هو في العادة الجزء الأسهل من أي مهمة، فالمسألة الأصعب هي تحقيق ذلك الهدف. ويعرض الباحثان عددا من المقترحات حول طرق شحذ الحوافز، واستمراريتها. وعلى سبيل المثال إن كانت المشكلة هي المماطلة أو الإرجاء في التنفيذ فإن المسألة التي يجب التدقيق فيها هنا، ربما هي أن المهمة المطلوبة قد تكون كبيرة جدا ويصعب تنفيذها. ولذا يقترح الباحثان أن يقوم الشخص في البداية بوضع «تصور» أو «خريطة» للخطوات المتعددة المطلوبة للوصول إلى الهدف النهائي، ثم بعد ذلك عليه التركيز على مهمة تحقيق ذلك الهدف.

ويعتبر تعلم الحرف اليدوية مهما هنا. وعلى الرغم من أن التركيز على مهمات عادية روتينية ربما يبدو مضجرا، فإن الأبحاث في علوم الأعصاب تفترض أن الالتزام بتعلم واحدة من الحرف، يعتبر مجزيا للإنسان. وإضافة إلى ذلك، فإن هذا الشكل من أشكال الاستغراق يساعد الإنسان على تحقيق التركيز العالي والمتعة، وقد وصفه الدكتور ميهالي جيكجنتميهالي، المفكر الرائد في علم النفس الإيجابي، الباحث في جامعة كليرمونت للدراسات المتقدمة بكلمة «الدفقة» أو «التدفق» في المخ.

وقد أجرى باحثون في مراكز الصحة الوطنية دراسة صغيرة، ولكنها مثيرة على عازفي موسيقى الجاز. وباستخدام المرنان المغناطيسي الوظيفي (fMRI) وجدوا أن ارتجال العازفين لمقطوعاتهم الموسيقية أظهر أنساقا مهمة لنشاطات المخ لديهم.

وخلال عزف تلك المقطوعات الموسيقية المرتجلة أصبح اللحاء الأمامي - جبهي الوسطيmedial prefrontalcortex - وهو منطقة في المخ تلعب دورها في مكاملة المعلومات بهدف دعم تنفيذ الأهداف والآمال المعقدة - نشاطا أكثر. وفي الوقت نفسه تماما قل نشاط اللحاء الأمامي - جبهي الظهري الجانبي dorsolateral prefrontal cortex - وهو المنطقة التي غالبا ما تلعب دورها في عملية حظر السلوك وفي مراقبة التفكير. كما هدأ نشاط المناطق الهامشية limbic areas التي ترتبط بالقلق.

وربما يساعد هذا البحث في إلقاء نظرة على «التدفق» الحاصل في المخ، عندما كان الموسيقيون يوظفون مهاراتهم التي أجادوا فيها - ولكن بوسيلة جديدة أكثر إبداعا.

* تركيز الذهن

* التركيز. غالبا يكون من الصعب تنفيذ أي عمل عندما يكون الإنسان موجودا في موقع عمله. فالمكاتب مليئة بشتى الأمور التي تشتت الانتباه، حيث قد يحتاج بعض العاملين المجاورين إلى مساعدة أو يرغبون في التحدث، إضافة إلى استمرار رنين الهاتف، وتدفق الرسائل الإلكترونية التي ينبغي الإجابة عليها، والاجتماعات التي يجب حضورها.. وما شابه. وبهذا يصبح يوم العمل مجزأ.

والاستجابة القياسية للإنسان العامل في هذه الظروف، هي العمل على تنفيذ مهمات متعددة في آن واحد - قد تؤدي إلى إجهاد المخ. وفي دراسة على 14 مشاركا خضعوا للمسح والتصوير بالمرنان المغناطيسي الوظيفي، وجد باحثون في جامعة فاندربيلت أنه عند محاولة الناس تنفيذ مهمتين في الوقت نفسه، فإن مشكلة تحدث تتمثل في «اختناق» عملية معالجة المعلومات. فقد ظهر أن اللحاء أمام الجبهي الجانبي الخلفي posterior lateral prefrontal cortex، وهو منطقة الدماغ المسؤولة عن اتخاذ القرارات، قد أخذ في تأخير إحدى المهمتين حتى الوقت الذي تم فيه تنفيذ المهمة الأخرى.

وفي دراسة أخرى أجراها باحثون في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس وشملت 14 مشاركا (متوسط أعمارهم 26 سنة)، طلب منهم تعلم تنفيذ مهمة ضمن نوعين من الظروف. فقد تعلموا مهمة واحدة من دون تشتيت انتباههم. ثم بعد ذلك تعلموا مهمة أخرى عندما كانوا يستمعون إلى سلسلة من الإشارات الصوتية ويحاولون حساب عددها. ولم يكن من المدهش أن تكون قدرات المشاركين لتذكر المهمة لاحقا أفضل عندما تعلموها من دون تشتيت انتباههم.

وتفترض الأبحاث الأولية أن الحفاظ على التركيز ودوامه، ربما يساعد - من جهة أخرى - في بناء أنسجة في المخ. فقد أجرى باحثون في مستشفى ماساتشوستس العام دراسة بالمرنان المغناطيسي على أشخاص كانوا يمارسون بانتظام جلسات التأمل، ووجدوا أنهم - مقارنة بمجموعة المراقبة - يمتلكون كمية أكبر من المادة الرمادية للدماغ (خلايا الدماغ) في تلك المناطق التي ترتبط بالانتباه ومعالجة الأحاسيس.

ويقترح براون وفينسكه نصائح عملية لزيادة التركيز حتى في ظل الظروف التي تشتت الانتباه. وبعض هذه النصائح تبدو عادية، إلا أن عددا قليلا من الناس يتذكرها: اقفل هاتفك الجوال أو بريدك الإلكتروني، على سبيل المثال.

أما النصائح الأخرى - مثل الانقطاع عن العمل لبرهة قصيرة، أو التمشي - فقد تبدو وكأنها تعاكس الأمور، إلا أنها تؤدي مفعولها في زيادة التركيز. إذ إن الانتقال من ظروف التركيز الذهني المكثف لمحاولة «اصطياد الطريدة ثم قتلها» – أي تنفيذ المهمة بسرعة - نحو ظروف أكثر راحة، قد يحسن القدرة على التركيز.

* ذاكرة المستقبل

* الذاكرة. يشجع الباحثان براون وفينسكه الناس على فهم حقيقة أنه يمكن توظيف الذاكرة بشكل نشط، كوسيلة للتهيؤ إلى المستقبل.. وليس لتذكر الماضي فقط. وفي الواقع فإن واحدا من أسباب تطور وارتقاء الذاكرة كان يتمثل في تمكين الإنسان من وسيلة لتطبيق دروس الماضي التي تعلمها، على المشكلات أو التحديات الحالية.

وفي إطار عملي، يقترح الباحثان أن يتوجه الإنسان إلى الاكتساب النشط لأنواع الذاكرة التي تمكنه من تأدية مهماته بشكل أكثر فاعلية، أو بثقة أكبر. وأحد الأمثلة هنا هو عمل قبطان الطائرة، الذي يتدرب تكرارا على محاكاة لعمليات الهبوط الاضطراري لكي يكون متأهبا لاحتمال وقوع مثل هذا الهبوط في إحدى الحالات.

وتفترض عدة دراسات بأن التطبيقات المتكررة للمهمة نفسها أو المهارة نفسها، بمقدورها أن تبني أنسجة في المخ. وفي هذا الشأن تتكرر الإشارة إلى دراسة شملت سائقي سيارات الأجرة السوداء الشهيرة في لندن، أجراها باحثون في جامعة «يونيفرسيتي كوليدج لندن» ووظفوا فيها المرنان المغناطيسي الوظيفي لمقارنة أمخاخ هؤلاء السائقين مع أمخاخ أشخاص آخرين في مجموعة مراقبة.

وقد وجد الباحثون أن منطقة قرن آمون (hippocampus) في المخ (المسؤولة عن الملاحة والرؤية) كانت أكبر لدى السائقين. وكلما كانت التجربة التي اكتسبها السائق أكثر (من خلال عدد سنوات عمله كسائق) كانت منطقة قرن آمون أكبر.

وفي دراسة أخرى لتصوير المخ، وجد باحثون في مركز بيت إسرائيل ديكونيس الطبي أن اللحاء الحركيmotor cortex لدى 32 من العازفين الموسيقيين المحترفين ومن ضمنهم عازفو البيانو والآلات الوترية كان أكبر مقارنة بحجمه لدى 32 من الموسيقيين المتدربين.

وتفترض مثل هذه النتائج أن هناك أسسا للمقولة القديمة بأن «الممارسة تقود إلى الكمال». وتتمثل الفكرة هنا في أهمية ممارسة شيء ما بدنيا، واستخدام الصور المرئية باستمرار، وبهذا يمكن الحصول على المهارات واكتساب الثقة اللتين تحسنان الأداء. وهذا هو واحد من المنطلقات التي يمكن تطبيقها في الصفوف المدرسية، وفي مجالس إدارات الشركات، وأيضا في المحاكم.

* العناية بالمخ

* ومن المهم أن يتذكر الإنسان الاهتمام بمخه، حتى في ظروف تعرضه للتحديات اليومية. وتتعلق أسس العناية بالمخ بثلاثة جوانب مهمة أيضا لسلامة الجسم، وهي: النوم، التمارين الرياضية، التغذية.

* النوم. تفترض الدراسات الخاصة بتصوير الأعصاب، دراسات كيميائية الأعصاب، أن النوم الليلي الجيد يساعد على تعزيز القدرة العقلية والعاطفية، بينما يؤدي اضطراب النوم إلى حدوث الأفكار السلبية، والانهزام العاطفي.

* التمارين الرياضية. تزداد الدلائل على أن النشاط البدني - المعروف بفوائده للجسم - يفيد المخ أيضا. وتحسن تمارين الآيروبيك خاصة - كما يبدو - مناحي الإدراك ووظائف الدماغ لدى الصغار والكبار.

* التغذية. تفترض عدة دراسات كبيرة أن بعض أنواع النظم الغذائية، مثل تلك التي يتم فيها تناول الخضراوات والزيوت المفيدة للقلب، ربما تساعد الإنسان على الحفاظ على قدرات الإدراك لديه. وعلى الرغم من أن مثل هذه الدراسات لا تربط النتيجة مع السبب، كما أن أبحاث التغذية لا تزال أولية مقارنة بالأبحاث على التمارين الرياضية أو النوم، فإن نتائجها تدعم فكرة أن ما يضعه الناس في أفواههم يؤثر على عقولهم. وفي أقل الأحوال فإن كانت التغذية الجيدة مفيدة للجسم فهذا يكفي أن تكون مفيدة للمخ.

* المخ البشري.. عضو مرن يتكيف مع المؤثرات

* في وقت ما، اعتبرت توصيلات الشبكة العصبية للمخ وكأنه دارة من الأسلاك المحكمة مثل دارة الكومبيوتر. إلا أنها، ووفقا لتصورات العلماء اليوم، تعتبر محيطا قابلا للتغير باستمرار.

وتوصف قدرة الخلايا العصبية المنفردة على تشكيل توصيلات عصبية استجابة للتجارب الجديدة التي تمر عليها أو لتحديات الوسط المحيط، بأنها «مرونة المخ». وهذه المرونة هي التي تدعم استمرارية التعلم والذاكرة. وعلى الرغم من أن سرعة المعالجة في المخ تتجه نحو التدني مع تقدم العمر، فإن المخ يظل مرنا طيلة الحياة. ويتمثل التحدي الذي يواجهه الإنسان، في قدرته على التمتع بمزايا المخ هذه.

وتفترض دراسات المسح والتصوير الأولية أن الطريقة التي يستخدم فيها الناس أمخاخهم قد تغير التشبيك العصبي في المخ، كما أن بإمكانها في بعض الحالات بناء أنسجة للمخ.

ولكن علينا أن نتذكر هنا أن هذه الأبحاث لا تشمل إلا عددا صغيرا من المشاركين. كما أنها ترصد أيضا الأنساق والصلات التي يمكن تحديدها بعد الانتهاء من التقاط الصور الكثيرة لعدد من الأمخاخ، لكي تعتمد بعد ذلك نتائج تأخذ متوسط القياسات.

وقد يختلف نشاط المخ لدى إنسان منفرد، عن وضعه الاعتيادي المحدد، مثلما يختلف الطول والوزن من إنسان لآخر. ولهذا السبب فإن من غير الممكن حاليا - بل وفي المستقبل أيضا - التقاط «صورة المخ» لإنسان منفرد داخل العيادات الطبية، ثم تحديد أنواع النشاطات الجارية فيه.

ومع ذلك، فإن أنساق نشاطات المخ توفر الأسس اللازمة لتقديم النصائح الطبية الخاصة بوضع مختلف التحديات أمام العقل البشري، بهدف تحفيز المخ على الاستمرار بتشكيل توصيلات جديدة.

* رسالة هارفارد للصحة العقلية، خدمات «تريبيون ميديا»