فرضيات وتجارب علمية.. لقياس الوعي

ملايين الخلايا العصبية تشارك في تكوينه

TT

في أحد أيام عام 2007، رقد الدكتور جيوليو تونوني على سرير نقال داخل أحد المستشفيات، حيث كان طبيب التخدير يتأهب لتخديره استعدادا لعملية جراحية. وبالنسبة للدكتور تونوني، كانت تلك لحظة نشوة فكرية، فهو من الباحثين البارزين في علم الوعي داخل جامعة ويسكنسن، وقضى وقتا طويلا في صياغة نظرية عن الوعي. وعندما كان داخل المستشفى، وجد الدكتور تونوني أخيرا فرصة لكي يجري تجربة على نفسه! وفي حين كان طبيب التخدير يستعد لإعطاء الدكتور تونوني عقارا يخدره وعقارا آخر لمنع حركات العضلات، أشار الدكتور تونوني عليه بأن يقوم أولا بربط عصابة حول ذراعه لمنع العقار الذي يمنع حركة العضلات من الانتشار في الجسد. وبهذه الطريقة يمكن لطبيب التخدير أن يطلب من الدكتور تونوني رفع أصبع من حين لآخر، ومن ثم يمكن أن يحدد اللحظة التي يفقد فيها الدكتور تونوني وعيه.

ولم يكن طبيب التخدير يشعر بمقدار الإثارة نفسه الذي يشعر به الدكتور تونوني. ويقول الدكتور تونوني مستذكرا ما حدث: «ربما كان أقل اهتماما، فقد رد بالإيجاب، ثم خدرني. ربما كان يفكر في أنني فقدت عقلي». ولم يشعر الدكتور تونوني بالضيق، فلطالما كان الوعي محل اهتمام من الفلاسفة، إلا أن معظم الأطباء يتجنبون تخميناتهم الفلسفية المجردة.

* «قياس» الوعي

* لكن من المحتمل أن تكون نظرية الدكتور تونوني مختلفة تماما، حيث يقوم مع زملاء له بتحويل تجاربنا المرتبطة بالوعي إلى لغة الرياضيات الدقيقة. وللقيام بذلك، يتبنى الباحثون في فريقه نظرية معلوماتية في فرع من العلوم طُبِّق في الأساس على أجهزة الكومبيوتر والاتصالات. وإذا كان الدكتور تونوني على صواب، ربما يتمكن مع زملائه من إيجاد «جهاز لقياس الوعي» يمكن للأطباء استخدامه من أجل قياس الوعي مثلما يقومون بقياس ضغط الدم ودرجة حرارة الجسم. وربما حينئذ، يشعر طبيب التخدير بالاهتمام.

ويقول كريستوف كوتش، وهو خبير في الوعي في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا: «أحب أفكاره، فهي بمثابة نظرية الوعي الوحيدة الجوهرية والواعدة».

وقد بدأ هوس تونوني بالوعي في مرحلة المراهقة، وكان في بداية الأمر مهتما بالأخلاقيات، ولكن قرر أن قضايا المسؤولية الشخصية تعتمد على وعينا بتصرفاتنا. ولذا، قرر أن يفهم الوعي أولا. وقال: «لقد كنت مرتبطا بهذا الأمر معظم حياتي».

وفي النهاية، قرر أن يدرس الوعي بأن يصبح طبيبا نفسيا. ومن خلال مواجهة مريض في غيبوبة، اقتنع الدكتور تونوني أن فهم الوعي ليس مجرد فلسفة. ويقول الدكتور تونوني: «توجد أشياء عملية. هل يشعر هؤلاء المرضى بألم أم لا؟».

* النوم والوعي

* وبدأ الدكتور تونوني يصوغ أنماطا للمخ، وأصبح خبيرا في نمط واحد من الوعي المتبدل الذي نمر به جميعا: النوم. وفي 2000، وجد مع زملائه أن ذباب الدروسوفيلا يمر بمراحل خلال عملية النوم والاستيقاظ. ومن خلال دراسة ذباب متحول، اكتشف الدكتور تونوني وباحثون آخرون الجينات التي ربما تكون لها أهمية في اضطرابات النوم.

وبالنسبة للدكتور تونوني، يعد النوم تذكارا يوميا بغموض الوعي، ففي كل يوم نفقد هذا الوعي، وفي الصباح يعود من جديد. وخلال العقود الأخيرة، قام علماء أعصاب بوضع نماذج تصف كيفية ظهور الوعي في المخ. وافترض بعض الباحثين أن الوعي ينجم عن التزامن في عمل خلايا عصبية داخل المخ. ويتيح ذلك التناسق للمخ جلب تصورات مختلفة في تجربة وعي واحدة.

ويرى الدكتور تونوني مشكلات خطيرة في هذه النماذج. وعندما يفقد الناس الوعي بسبب نوبات صرع، على سبيل المثال، تصبح موجات المخ أكثر تزامنا. وإذا كان التزامن هو السبيل إلى الوعي، يمكن أن تتوقع أن النوبات ستجعلهم واعين بدرجة أكبر بدلا من أن يفقدوا الوعي، بحسب ما قال.

وعندما كان في كلية الطب، بدأ الدكتور تونوني يفكر في الوعي بصورة مختلفة، كنموذج ثري من المعلومات. واستلهم أفكاره من المهندس الأميركي كلود شانون، الذي وضع فرضية علمية عن المعلومات في منتصف العقد الأول من القرن الماضي. وقام شانون بقياس المعلومات في إشارة عن طريق معرفة كمية الضبابية التي تزيلها. توجد معلومات ضئيلة جدا داخل ثنائي ضوئي تضيء عندما يرصد ضوءا. لأنه يخفف مقدارا قليلا من الضبابية. ويمكن أن يميز بين الضوء الظلام، ولكن لا يمكنه التمييز بين أنواع مختلفة من الضوء. ولا يمكن أن يوضح الاختلاف بين شاشة تلفزيون تعرض فيلم لتشارلي تشابلن أو إعلان تلفزيوني عن رقائق بطاطس.

وتعد خلايا الأعصاب لدينا مثل ثنائيات ضوئية وهمية، وتنتج ومضات كهربية استجابة للإشارات الواردة. ولكن تجارب الوعي التي تنتجها تحتوي على معلومات أكثر من صمام ثنائي واحد. وبصيغة أخرى، فإنها تقلل مقدارا أكبر من الضبابية. على الرغم من أن الثنائي الضوئي يمكن أن يكون في إحدى حالتين (إما مفتوحا أو مغلقا)، يمكن أن تكون أمخاخنا في واحدة من تريليونات الحالات. ويمكن أن نذكر الاختلاف بين فيلم لشابلن وإعلان عن رقائق بطاطس، ويمكن أن تمر أمخاخنا بحالة مختلفة من إطار معين للفيلم إلى إطار آخر.

* منظومة وعي متكامل

* ويقول الدكتور تونوني: «واحد من اثنين لا تعني الكثير من المعلومات. بينما تعني واحد من تريليون أن هناك الكثير». ويضيف أن الوعي لا يرتبط بكمية المعلومات، فالجمع بين الكثير من الثنائيات الضوئية لا يكفي لخلق وعي بشري. وداخل عقولنا، تتحدث الخلايا العصبية بعضها إلى بعض، وتدمج المعلومات في كل متكامل. يمكن لشبكة كهربية مكونة من الملايين من الثنائيات الضوئية داخل إحدى الكاميرات التقاط صورة، ولكن المعلومات داخل كل صمام ثنائي مستقلة عن الصمامات الأخرى، ويمكن قطع الشبكة إلى قطعتين، وسيلتقطان الصورة نفسها.

ويقول الدكتور تونوني إن الوعي مثل المعلومات المتكاملة. ويقيس منظرو المعلومات كمية المعلومات داخل ملف كومبيوتر أو مكالمة هاتف جوال بوحدة «بايت». ويقول الدكتور تونوني إنه يمكننا نظريا قياس الوعي بالبايت أيضا. فعندما نكون مستيقظين، يحتوي وعينا على كمية من البايت أكثر مما تكون لدينا عندما نكون نائمين.

على مدار العقد الماضي قام الدكتور تونوني وزملاؤه بشرح نظرية المعلومات التقليدية لكي يتمكنوا من تحليل المعلومات المتكاملة. وأوضحوا إمكانية حساب كل المعلومات المتكاملة الموجودة في شبكة ما. وضع الدكتور تونوني لهذا الكم الرمز «فاي» phi، وقام بدراسته في شبكات بسيطة مؤلفة من مجموعة صغيرة من الأجزاء المتصلة. كيف يمكن لأجزاء شبكة جمعت معا أن يكون لها تأثير كبير على «فاي»؟ إذا كانت الشبكة مؤلفة من أجزاء منفصلة ستكون «فاي» منخفضة لأن الأجزاء لا يمكنها تقاسم المعلومات.

لكن ربط جميع الأجزاء بكل صورة ممكنة لا يرفع من قيمة «فاي» كثيرا. فإما أن تعمل جميعا أو تتوقف. حقيقة الأمر أن الشبكة تصبح ثنائية ضوئية.

تكتسب الشبكات أعلى «فاي» ممكنة إذا تم تنظيم أجزائها في مجموعات منفصلة، جمعت حينئذ. وقال تونوني: «أنت بحاجة إلى مختصين يتحدثون بعضهم إلى البعض حتى يمكنهم التصرف كمجموع». ولا يعتقد تونوني أنه من قبيل المصادفة أن تطيع منظمة المخ مبدأ زيادة «فاي» هذا.

ويرى تونوني، أن نظرية المعلومات المتكاملة، تتجنب كثيرا من المشكلات التي واجهتها النماذج السابقة من الوعي. فهي تفسر بدقة، على سبيل المثال، السبب وراء فقد الوعي خلال نوبات الصرع، فترى أن النوبات تجبر كثيرا من الخلايا العصبية على العمل أو التوقف معا. وتزامنها يخفض عدد الحالات الممكنة التي يمكن أن يكون المخ مستيقظا فيها ومن ثم يخفض «فاي».

بدايات نظرية ويرى الدكتور كوتش أن نظرية تونوني لا تزال في مهدها. فمن المستحيل، على سبيل المثال، حساب «فاي» بالنسبة للمخ البشري لأن مليارات الخلايا العصبية وتريليونات الوصلات يمكن ترتيبها في صور كثيرة. وقد بدأ الدكتور تونوني والدكتور كوتش مؤخرا تجربة لتحديد «فاي» في جهاز عصبي أكثر بساطة في دودة تعرف بالربداء الرشيقة Caenorhabditis elegans. وعلى الرغم من حقيقة امتلاك الدودة 302 خلية عصبية في جسدها ككل، سيتمكن الدكتور كوتش والدكتور تونوني من وضع قيمة تقريبية لـ«فاي» بدلا من حساب دقيق.

وقال كوتش: «هناك مشكلات عملية هائلة تواجه هذه النظرية، فقد واجهت نظرية النسبية العامة مثل هذه العقبات في بدايتها».

ويقوم الدكتور تونوني باختبار نظريته بصور أخرى، وفي دراسة نشرت هذا العام وضع مع وزملائه ملفا مغناطيسيا على رؤوس المتطوعين، أرسل الملف نبضة مغناطيسية لمدة عشر ثواني. أدى هذا الجهد العنيف المفاجئ بالخلايا العصبية في منطقة صغيرة من المخ إلى الاستثارة وفي المقابل أرسلت بإشارات إلى الخلايا العصبية الأخرى وجعلها تنفعل هي الأخرى.

تجارب الوعي والمخ لتعقب هذه الارتدادات، قام الدكتور تونوني وزملاؤه بتسجيل نشاط المخ بشبكة من الأقطاب الكهربائية، وتوصلوا إلى أن المخ عكس هذه النبضات مثل الجرس، مع انفعال الخلايا العصبية في نموذج معقد في منطقة واسعة من المخ لـ295 مليثانية.

ثم أعطى العلماء الأفراد دواء مسكنا وقاموا بإحداث نبضة أخرى. أحدثت الترددات استجابة ضعيفة للغاية في المخ المخدر، استغرقت 110 مليثانية. وعندما بدأ تأثير المسكنات في الزوال بدأت النبضات في القوة مرة أخرى، وبصورة أعلى.

كانت هذه نوعية النتائج التي توقعها الدكتور تونوني، فحسب نظريته، يفقد المخ المشتت بعض المعلومات المتكاملة ومن ثم بعض وعيه. حصل الدكتور تونوني على نتائج مشابهة عندما وجه النبضات إلى أشخاص نائمين أو على الأقل لأشخاص لا يزالون في المرحلة الخالية من النوم.

وفي بحثه الذي نشره في دورية «كوغنيتيف نيوروساينس»، أورد هو وزملاؤه أن استجابة العقول في مرحلة الحلم تشبه إلى حد بعيد العقول المستيقظة. ويجري الدكتور تونوني بحثا بالتعاون مع الدكتور ستيفن لوريز من جامعة ليجي في بلجيكا لاختبار نظريته في الحالات الساكنة على الدوام. وعلى الرغم من إجرائه التجربة على مجموعة بسيطة من الأفراد، فإن النتائج تتوافق إلى حد بعيد مع نتائج التجارب السابقة.

إذا كان بمقدور الدكتور تونوني الحصول على نتائج موثوق بها من مثل هذه التجارب، فسيكون ذلك أكثر من داعم لهذه النظرية. ويمكن أن تؤدي إلى أسلوب جديد في قياس الوعي، وستعطينا، بحسب الدكتور لاريز، فهرسا للوعي.

عادة ما يقوم الأطباء بقياس الوعي عبر الحصول على استجابة من المرضى. وفي بعض الحالات، كان الطبيب يسأل «هل تستطيع سماعي؟» وقد فشلت هذه الطريقة مع الأفراد المدركين لكن في الوقت ذاته غير قادرين على الرد. وقد عكف العلماء على تطوير وسائل لاختبار الوعي مباشرة من نشاط المخ.

في إحدى سلاسل الاختبارات قام الباحثون بوضع الأفراد في حالات من الخمول أو حالات من الوعي البسيطة. ووضعوهم في نظام للمسح والتصوير بالمرنان المغناطيسي، وطلبوا منهم التفكير في ممارسة لعبة كرة المضرب (التنس) لمدة 30 ثانية وظهر أنهم لا يفكرون مثلما يفكر الأشخاص العاديون.

ويقول الدكتور تونوني: «إذا حصلت على رد، أعتقد أن ذلك دليل على أن شخصا ما هناك، لكن إن لم تحصل على رد فإن ذلك ليس دليلا على أي شيء».

ويمكن أن يكون قياس المعلومات المتكاملة في عقول الأفراد أكثر سهولة وموثوقية. فيمكن لطبيب التخدير تطبيق النبضات المغناطيسية على مخ المرضى لبضع ثوان ورؤية ما إذا كان المخ قد استجاب بوعي كامل أو أن الاستجابات كانت ضئيلة.

وينظر بعض العلماء الآخرين إلى نظرية الدكتور تونوني بنوع من الشك. ويقول ديفيد تشارلز، الفيلسوف في الجامعة الوطنية الأسترالية: «إنها نوع من الفرضيات التي أعتقد أنها يجب أن تشكل بداية للدراسة، فهي فروض بسيطة وقوية بشأن العلاقات بين معالجة المخ وتجربة الوعي. وكما هي الحال مع تجربة الافتراضات القوية والبسيطة ربما تكون الحقيقة أكثر تعقيدا، لكننا سنتعلم شيئا جديدا من المحاولة. لا يمكنني القول إن النظرية حلت مشكلة الوعي، لكنها مفيدة كنقطة بداية».

ويعترف دكتور تونوني بضرورة تطوير النظرية بصورة أكبر للتحول إلى اختراع مقياس الوعي الأنسب. لكن ما إن يتمكن من اختراع جهاز قياس الوعي فلن يكتفي فقط بالبشر. وما دام الناس حيارى بشأن الوعي، فقد تساءلوا عن ما إذا كانت الحيوانات واعية أيضا. ويرى الدكتور تونوني أن الإجابة بالموافقة أو الرفض ليست بالإجابة السهلة، فالحيوانات ستثبت أنها تمتلك مستويات مختلفة من الوعي اعتمادا على معلوماتها المتكاملة، حتى وإن كان لدى بعض ديدان الربداء الرشية قليل من الوعي.

وقال تونوني: «ما لم تكن هناك نظرية عن ماهية الوعي، فلن نتمكن من التعامل مع الحالات الصعبة، والتوصل إلى شيء ذي معنى».

* خدمة «نيويورك تايمز»