ممرضة تحل لغز مرض غامض حير إخصائيي الأورام والعظام

مريض خضع لعمليات جراحية وشخص بالسرطان.. كان مصابا بمرض شائع

TT

عندما يعود جون غوردون بذاكرته إلى الوراء، فإنه لا يعلم ما كان يمكن أن يحدث له لو لم يكن مكتب عمله موجودا في إحدى عمارات في مقاطعة مونتغومري تضم أيضا الكثير من المراكز الطبية.

ولو كان قد طلب منه السفر للقاء طبيب أو إجراء مجموعة من الاختبارات أو العلاج، لا مجرد ضغطة زر مصعد فقط، فإنه كان - حسب اعتقاده - لربما سأل الأطباء عن أسباب توصلهم، ثم نفيهم، لأنواع من التشخيصات الغريبة والمخيفة إلى حد بعيد لحالته، والتي كان إحداها إصابته بسرطان نادر! كما كان بإمكانه أن يتجنب جراحتين غير ضروريتين للركبة وعشرات من جلسات العلاج الطبيعي، ناهيك عن العلاجات العقيمة والمؤلمة أحيانا التي كلفته آلاف الدولارات.

وقال غوردون، 54 عاما، وهو رئيس شركة عقارات تجارية يعمل والده وصهره طبيبين: «كنت مريضا مطيعا، لأسباب لا أستطيع تفسيرها»، وفي النهاية جاء الحل من ممرضة - لا من خمسة اختصاصيين - أصابت في تشخيصه بأنه داء معروف. وقال: «إن كنت لا تسأل أسئلة بسيطة، فأنت تفسد الأمور. أنا أرى ذلك في عملي طوال الوقت».

ركبة متورمة

* طفت مشكلة غوردون على السطح في مايو (أيار) 2007، في أعقاب عودته هو وزوجته، كريستين، من رحلتهما إلى نيومكسيكو وأريزونا للاحتفال بعيد زواجهما العشرين. قام الزوجان بجولة في الوديان الضيقة المنحدرة حول مدينة سيدونا. وبعد عودتهما إلى المنزل، لاحظ غوردون، لاعب التنس النشط، أن ركبته متورمة. اعتقد في البداية أن السبب التواء كاحله.

بعد عدة أسابيع، وعندما فشلت ركبته في التحسن، استشار أحد أطباء العظام الموجودين في المبنى الذي يعمل به، والذي أوصاه بالعلاج الطبيعي، ويتذكر غوردون تلك الفترة، يقول: «كان من السهل بالنسبة لي الذهاب إلى العلاج الطبيعي».

لكن بعد مرور عدة أسابيع، كان من الواضح أن جلسات العلاج الطبيعي التي كان يتلقاها مرتين أسبوعيا لم تسهم في تحسن حالته. وقال إن ركبته كانت أكثر إيلاما وملتهبة بدرجة كبيرة، حتى إنك كنت تشعر بالحرارة عبر السروال. وبعد أن قام طبيب العظام بسحب كمية من الصديد من الركبة، سأل غوردون إذا كان لديه تاريخ مرضي من النقرس، وهو نوع من التهاب المفاصل الذي يظهر عند تجمع حمض اليوريك في المفاصل. واصل غوردون استكمال جلسات العلاج الطبيعي مرتين أسبوعيا وتلقى جرعتي كورتيزون ساعدتاه في تخفيف آلامه بشكل مؤقت، لكن الورم زاد في ركبته، بحيث أجبر على استعمال العصا.

عمليات جراحية

* بحلول شهر نوفمبر (تشرين الثاني) استبعد طبيب العظام احتمالية وجود النقرس، وكشفت أشعة الرنين المغناطيسي عن عدم وجود أي تمزق أو غضروف يمكن أن يفسر السبب في ألمه وتورم ركبته، ومن ثم أوصى بجراحة استكشافية. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2007، أجرى الطبيب لغوردون الجراحة وأخبره بأنه يعاني تمزقا جزئيا في الغضروف المفصلي. قام الجراح بإصلاح الغضروف وتوقع أن تتحسن ركبة غوردون.

انقضت أشهر ولم تتحسن ركبة غوردون، كما أنه لا يزال يشعر بالألم وغير قادر على المشي. قام غوردون بزيارة طبيب في العلاج الطبيعي، متخصص في إعادة التأهيل وإدارة الألم. كان أول ما اعتقده الطبيب أن ارتفاع حرارة الركبة وتورمها ربما يشيران إلى عدوى. ويتذكر غوردون قول طبيبه: «كلا.. إن الطبيبين السابقين لم يعتقدا بذلك». وأوصى غوردون باللجوء إلى الإبر الصينية، والتي لم تجد نفعا أيضا.

بعدها، أشار تشخيص آخر بالرنين المغناطيسي إلى وجود حالة تسمى التهاب الغشاء الزليلي الزغابي العقيدي المصطبغ pigmented villonodular synovitis، والتي تتسبب في نمو الأنسجة المفرط دون سبب واضح وتعالج دون جراحة. ومن ثم تحول غوردون إلى طبيب العظام مرة أخرى.

أوصى الطبيب الجديد بالجراحة، وفي 20 مايو (أيار) 2008 عاد غوردون إلى عصا المشي بعد خضوعه للعملية الثانية في الركبة خلال 7 أشهر.

استبعد طبيب العظام إصابته بالتهاب الغشاء الزليلي الزغابي العقيدي المصطبغ، لكنه أخبر كريستين غوردون بشكه في إمكانية إصابته بمرض أكثر خطورة.

كان هناك الكثير من الأنسجة غير المعروفة داخل الركبة وحولها، وأخبر الطبيب كريستين أثناء وجود زوجها في غرفة الإنعاش بأنه كان أحد الاحتمالات إصابته بالسركوما، وهو نوع من السرطان في النسيج الضام، وسيضطر إلى بتر رجل زوجها على أسوأ الفروض. أحال الطبيب جون غوردون إلى طبيب أورام العظام وطبيب متخصص في العدوى المرضية، وانتظر الزوجان أياما طويلة مضنية في انتظار نتائج تحليل الأنسجة، والتي جاءت سلبية.

قام إخصائي العدوى بدراسة التاريخ المرضي وتوصل إلى أن إصابة غوردون وقعت خلال الرحلة التي سبقت المشكلة.

ويحكي غوردون عن تجربته مع إخصائي علم العدوى: قال لي الإخصائي: «أعتقد أنني أعلم بنسبة 95% ما أصابك». كان يشك في إصابة غوردون بحمى الوادي valley fever، وهي أحيانا عدوى فطرية مميتة تسببها كائنات توجد في التربة في الجنوب الغربي. ووصف له الطبيب جرعة مكثفة على مدار أسبوعين من دواء مضاد قوي للفطريات.

وكان الشيء الوحيد الذي فعله الدواء أن جعل غوردون يشعر بالغثيان والضعف الشديد. لم تتقدم حالة ركبته، وأظهرت الاختبارات أنه لا يعاني حمى الوادي. وقال غوردون إن إخصائي الأمراض المعدية اندهش، ووصف مضادا حيويا بدلا من ذلك الدواء الأول.

تشخيص ممرضة

* ولكن بعد ذلك بأسبوع، في يونيو (حزيران) 2008، اتصل به الطبيب مرة أخرى، وأخبره أنه خلال اجتماع للموظفين جرى فيه بحث حالته، تساءلت ممرضة عما إذا كان غوردون قد أجرى اختبارا للتأكد من عدم إصابته بمرض «لايم» Lyme disease. سأله الطبيب، ورد غوردون: «لا» لأنه لا يذكر أنه أجرى مثل هذا الاختبار. ومن ثم أرسل الطبيب رسالة بالفاكس يطلب منه إجراء الاختبار، وبعد ذلك بقليل استقل غوردون المصعد ليهبط إلى مختبر طبي في المبنى نفسه.

وجاءت النتائج قاطعة؛ حيث ظهرت نتيجة إيجابية من اختبارين لمرض «لايم»، وأشار أحدهما إلى أن التعرض لهذا المرض حدث قبل عدة شهور. واتضح أن مشكلات ركبة غوردون هي نتاج لإصابته بالتهاب «لايم» في المفاصل والذي يظهر بعد فترة طويلة من الإصابة بالعدوى ويؤثر على المفاصل، خاصة الركبتين.

مرض «لايم»

* اكتشف مرض «لايم»، وهو عبارة عن عدوى بكتيرية ناتجة عن التعرض لعضة من قرادة، للمرة الأولى في منتصف سبعينات القرن الماضي بعدما بدأ باحثون في التحقيق بشأن ارتفاع غير عادي في أعداد مرضى التهاب المفاصل بين سكان لايم بولاية كونيتيكت. وطبقا لموقع «WebMD»، فإن الظهور الأول لأعراض الإصابة بالمرض يتمثل في طفح جلدي بالقرب من موقع العضة. ومن بين الأعراض الأولى: الشعور بالإرهاق وتصلب الرقبة وآلام في العظام. ويجري علاج المرض بالاعتماد على «دوكسيسيلين»، وهو مضاد حيوي. وإن لم تتم معالجة هذه الإصابة فورا فإنها يمكن أن تتطور إلى نوبات متكررة من آلام العظام قد تستمر لفترات تتراوح بين بضعة أيام وشهور عدة. ويصاب البعض بالتهاب «لايم» في المفاصل، وهو مرض أحيانا يصبح دائما.

وقد انتابت غوردون صدمة بالغة، وراودته التساؤلات حول: «كيف غفل مثل هذا العدد الكبير من الإخصائيين عن هذا التشخيص؟ وكيف انتقل إليه مرض (لايم)؟».

وبعد بضعة أسابيع، أثناء جلوسه في مكتب أدريانا مارك، إخصائية الأمراض المعدية بالمعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، التي تدرس مرض «لايم»، حصل غوردون على إجابة عن تساؤله الثاني.

كان غوردون يحب التنزه برفقة كلبه بالقرب من منزله في غلين إيكو، داخل متنزه يعج بالقراد. وغالبا ما كان يرتدي سراويل قصيرة ولمس أكثر من مرة شجرة لبلاب سام. وعليه، خلص غوردون إلى أنه ربما تعرض للعض من جانب قرادة، لكن لم يلحظ الالتهاب قط أو عزاه عن طريق الخطأ إلى اللبلاب السام.

إذن، كيف غفل الأطباء عن هذا الأمر؟ قالت مارك إنها عاينت مرضى تأخر تشخيص إصابتهم بمرض «لايم»، لكن ليس بنفس طول الفترة التي تعرض لها غوردون.

وأضافت مارك: «أعتقد أنهم لم يفكروا في الأمر؛ لذا ساروا في نهج مختلف». جدير بالذكر أن إجراء اختبار بسيط للدم أو تحليل للسائل داخل الركبة كان بإمكانه الكشف عن الإصابة، لكن من الواضح أنه لم يتم إجراء أي منهما.

وأشارت إلى أن جراحي العظام اللذين تناولا حالته تشككا في أن يكون مرض «لايم» هو السبب حتى بعد أن أخبرهما بأن الاختبارات أثبتت صحة هذا التشخيص. وقال: «لقد ذكرا أن هذا التشخيص لا يبدو منطقيا بالنسبة لهما». لكن مارك تختلف معهما في الرأي: «في هذه الحالة، ليس هناك دليل على أنه كان يعاني أي شيء آخر بخلاف مرض (لايم)».

وقال غوردون، الذي خضع على مدار عدة أسابيع للعلاج بدواء «دوكسيسيلين»، والتحق بعينة من المرضى تجري مارك دراسة حولهم، إن ركبته تحسنت كثيرا، لكنها لم تتعاف تماما. وقد عاود لعب كرة التنس، لكنه لا يزال يعاني بعض التصلب، الأمر الذي ربما يدوم للأبد.

والآن، يعتقد غوردون أنه ربما تعين عليه استشارة طبيب باطني «والحصول على حليف للتعامل مع الخبراء». لكنه استطرد موضحا أنه في أعقاب معاناته مشكلة صحية خطيرة منذ عدة سنوات، تولدت لديه عادة التوجه مباشرة للمتخصصين.

وأشار إلى أنه يلوم نفسه لعدم توخيه قدرا أكبر من الحذر والتشكك، مؤكدا أنه يشعر بالامتنان للممرضة التي طرحت السؤال البديهي الذي قاد للتشخيص الصحيح. وقال: «كل ما كان يستلزمه الأمر إجراء اختبار بسيط للدم. والمذهل في الأمر أن هذا العدد الكبير من الأطباء عجز عن رؤية ما هو أمام عينه مباشرة».

* خدمة «واشنطن بوست»