فيروس الإنفلونزا.. نظرة علمية على تحوراته وطفراته

تغير سلالاته يقود إلى وباء عالمي بين فترة وأخرى

TT

التحورات والطفرات التي تعرض لها فيروس الإنفلونزا وأدت إلى تغيره وأحدثت تغيرات في سلالاته، موضوع علمي أثار جدلا واسعا وتطرق له الكثير من العلماء وتناولوه بشكل واسع في بحوثهم ومقالاتهم العلمية، فما هو فيروس الإنفلونزا، وما هي التحورات والطفرات التي تعرض لها فغيرت سلالاته، وما هو التفسير العلمي لها؟

تحدثت إلى «صحتك» واحدة من علماء علم الفيروسات الدكتورة إلهام طلعت قطان لتوضيح بعض الحقائق بصيغة علمية مبسطة بقدر الإمكان.

* أنماط فيروس الإنفلونزا

* لقد ظهرت على الساحة، في أواخر شهر أبريل (نيسان) 2009، فيروسات إنفلونزا جديدة أقلقت الملايين، والعلماء خاصة، وكان انتشارها سريعا مما أثار مخاوف وتساؤلات كثيرة. ولو دقننا بالبحث لوجدنا أن هذا الأمر يحدث طبيعيا للفيروسات عموما ولفيروسات الإنفلونزا بالأخص.

تنقسم فيروسات الإنفلونزا إلى 3 أنواع أو أنماط مَصلية وتسمى إنفلونزا «إيه» (A)، و«بي» (B)، و«سي» (C). والنوعان «إيه» و«بي» يسببان الانتشار الموسمي للعدوى في فصل الشتاء. وبالإضافة لإصابة الإنسان، فإن النوع «إيه» يصيب أيضا الخنازير، والخيول، والكثير من الطيور. أما النوع «بي» فعادة ما يصيب الإنسان فقط. أما النوع «سي» فيختلف عن النوعين الآخرين في عدة جوانب، أهمها طبيعة العدوى للجهاز التنفسي، فهو إما أن يسبب أعراضا بسيطة أو لا توجد له أعراض، وبالتالي لا يسبب انتشارا وبائيا.

* العدوى بفيروس الإنفلونزا

* إن فيروسات الإنفلونزا لها القدرة على التغير المستمر، الأمر الذي يساعد الفيروس من تجنب جهاز المناعة البشري؛ وبالتالي نتعرض للإصابة بالإنفلونزا على مدى الحياة. فعند الإصابة بفيروس الإنفلونزا، يقوم جهاز المناعة بإنتاج أجسام مضادة نوعية للفيروس الحالي. وعند تغير خصائص الفيروس لا تستطيع الأجسام المضادة القديمة التعرف على الفيروس الجديد، وبالتالي تتم الإصابة الجديدة.

بالطبع تظل الأجسام المضادة القديمة قادرة على توفير مناعة جزئية ضد الفيروس، وذلك حسب نوعية التغيير الذي يتم على الفيروس. لذلك تتم مراقبة نشاط فيروس الإنفلونزا عالميا بواسطة منظمة الصحة العالمية عن طريق مراكز مراقبة للإنفلونزا في نحو 80 دولة. هذه المراكز مجتمعة تمثل النظام العالمي لمراقبة الإنفلونزا الذي يضمن تجميع معلومات عن الفيروس وانتشاره وفحص عينات لتحديد خصائصه. ويتم استخدام هذه المعلومات لتحديد المكونات السنوية للقاح الإنفلونزا بواسطة منظمة الصحة العالمية، التي تنصح بإعطائه لمجموعات معينة من الناس المعرضة لخطر الإصابة بالفيروس مثل كبار السن (أكبر من 65 سنة) والمصابين بأمراض صدرية مثل الربو.

* التركيب الجزيئي للفيروس

* من المهم جدا معرفة التركيب الجزيئي للفيروس الذي ترتكز عليه قدرة الفيروس على إحداث التغير والتسبب في المرض. يقع في قلب الفيروس الحامض النووي «آر إن إيه» (RNA) ذو شريط أحادي سلبي مقطع إلى 8 قطع مرتبطة مع بعضها البعض، ويحيط بها غلاف تنغرس فيه أشواك غزيرة من بروتين الجليكوبروتينات. وهناك نوعان مميزان من الجليكوبروتينات، هما:

1 - بروتين الراص الدموي (Hemagglutinin HA) الذي يرتبط مع مستقبلات حمض السياليك، وهذه المستقبلات توجد على سطح كريات الدم الحمراء، ومن هنا تكون الفعالية الراصة للدم ومستقبلات حمض السياليك. وتوجد هذه المستقبلات أيضا على أغشية خلايا الجهاز التنفسي العلوي. فعندما يرتبط «HA» مع هذه المستقبلات يندمج غشاء الفيروس ضمن غشاء الخلية ويقذف الجينوم الفيروسي إلى داخل الخلية.

2 - البروتين العصبي (Neuraminidase NA) الذي يعطي الظهارية المخاطية (Mucin) ويلعب دورا ضمن الحاجز الدفاعي للطرق التنفسية العلوية، وبواسطته ينزل الفيروس إلى الطريق التنفسي السفلي مسببا داء «ذات الرئة»، ومن ثم يُضعف الفيروس الدفاع ضد البكتيريا محدثا ذات رئة بكتيرية ثانوية، وتكون الوفيات أكبر عند كبار السن والمصابين بأمراض تنفسية وقلبية.

وطريقة التغير هذه تحدث بتحور الفيروس بطريقتين مختلفتين هما (الانجراف والنقل):

* طريقة الانجراف: هي انجراف الأنتيجين التي تحدث خلال تحولات بسيطة في الفيروس، وتحدث بشكل مستمر بمرور الوقت. ينتج انجراف الأنتيجين سلالات فيروس جديدة قد لا تتعرف عليها الأجسام المضادة المنتجة لمقاومة سلالات الإنفلونزا الأصلية.

ولتوضيح العملية، نذكر هذا المثال: شخص أصيب بسلالة فيروس إنفلونزا معينة، يطور جسما مضادا ضد ذلك الفيروس. وعندما تظهر سلالات فيروس أحدث، فإن الأجسام المضادة ضد السلالة الأصلية لن تتعرف على الفيروس الأحدث، وعليه تصبح العدوى بالسلالة الجديدة محتملة. هذا أحد الأسباب الرئيسية لتفسير إصابتنا بالإنفلونزا أكثر من مرة. وأيضا ولهذا السبب، فإن الأشخاص الذين يريدون أن يحصنوا ضد الإنفلونزا يجب أن يأخذوا تطعيم إنفلونزا كل سنة.

* طريقة النقل: يتم فيها نقل أو تغيير الأنتيجين. وتغيير الأنتيجين هو تغيير في فيروسات الإنفلونزا مما يؤدي إلى فيروس إنفلونزا جديد يمكنه أن يصيب البشر ويكون له بروتين «HA» و«NA» خاص به.

ويؤدي تغيير الأنتيجين إلى نوع فرعي جديد من الإنفلونزا، فإذا أصاب هذا النوع الفرعي الجديد الإنسان، وكان معظم البشر لا يملكون أو يملكون مناعة بسيطة ضد هذا الفيروس الجديد، فإن الفيروس ينتشر بسهولة من شخص إلى آخر ويحصل بالتالي ما يسمى «وباء عالميا».

* وباء الإنفلونزا العالمي

* يحدث الانتشار الوبائي العالمي للإنفلونزا بشكل غير متوقع، عادة كل 10 إلى 40 سنة، يحدث فيها إصابة 50% من سكان العالم. وقد حدثت في السابق موجات انتشار وبائي عالمي في سنوات (1889 - 1890) و(1899 - 1900) و(1918) و(1957 - 1958) و(1968 - 1969). وقد تسبب الانتشار الوبائي العالمي الذي حدث عام 1918 في موت 20 إلى 40 مليون شخص على مستوى العالم. بعد هذه الكارثة العالمية نشطت البحوث وتم اكتشاف الفيروس عام 1933.

وفي شهر مايو (أيار) عام 1997 في هونغ كونغ، مات طفل أصيب بالتهاب رئوي (ذات الرئة) بسبب فيروس الإنفلونزا، وإصابة 17 شخصا في نهاية العام نفسه مات منهم 6 أشخاص بنفس الفيروس الذي كان مصدره الدجاج وما سمي حينها بـ«إنفلونزا الدجاج» أو «إنفلونزا الطيور».

إن التحور يحدث عندما يتضاعف فيروس من سلالة حيوانية وآخر من سلالة إنسانية في نفس الخلية، حيث تتكاثر قطع من الحامض النووي (RNA) من كلا الفيروسين داخل نفس الخلية، ويحدث تبادل لقطع «RNA» بين الفيروسين وتعبأ قطع «RNA» الخاصة بأحدهما ضمن الآخر، وحينئذ تكون النتيجة فيروس إنفلونزا إنسانيا يحوي «HA» أو «NA» حيواني بأنماط أنتيجينية جديدة لم يتعرض لها أي جهاز مناعي بشري من قبل. وتكون البشرية جمعاء فاقدة للمناعة ضد هذه السلالة الجديدة، مما يؤدي إلى حدوث وباء. وهذه العملية تتطلب فيروسا يصيب البشر والحيوانات معا، أي النمط المصلي «إيه»، وتتميز الأنماط الأنتيجينية المختلفة لـ«HA» و«NA» حيث ترقم بأرقام مختلفة كما هو موضح: 1889: H2N2، 1900: H3N2، 1918: H1N1، 1947: H1N1، 1957: H2N2، 1968: H3N2، 1977: H1N1.

في وباء عام 1918 أطلقت تسمية «الإنفلونزا الإسبانية» (Spanish Fl)، وكانت سلالة شديدة المرضية، حيث أودت بنحو 20 إلى 40 مليون حالة وفاة حول العالم، وكان سببها التحور في «HA» الذي كان مصدره فيروس إنفلونزا خنزيري سمي «HSW»، أما عن سبب تكرر وقوع هذا الوباء بنفس السلالة، فهو نمو أجيال جديدة من البشر لم تتعرض له من قبل. وفي عام 1997 ظهرت في هونغ كونغ سلالة جديدة من إنفلونزا الطيور «H5N1» هذه السلالة تحوي «HA» ذا قدرة إمراضية شبيهة بتلك التي ظهرت عام 1918. وقس على ذلك ما حدث مؤخرا من انتشار وبائي لسلالات جديدة.