اكتشافات جديدة حول الأسباب الجينية للتوحد

تغيرات عشوائية في الجينات تؤدي إلى إصابات منفردة داخل الأسر

TT

* خلل جيني

* التغيرات العشوائية في الجينات، وليست التغيرات المتوارثة عن الوالدين، ربما تكون هي المسؤولة عن بعض حالات مرض التوحد، حسبما ذكر علماء وضعوا ثلاث دراسات جديدة تمثل نقلة كبرى نحو تفهم مكمن هذه التغيرات الجينية.

وتوحي النتائج بأن التوحد في حقيقته هو خلل جيني معقد، يتضمن ربما مئات التحولات الفجائية في الجينات. ومن شأن هذه الاكتشافات المساعدة في وضع صورة أفضل للجوانب البيولوجية لهذا الخلل والتوصل لعلاجات أفضل. وتعد الدراسات الثلاث الأحدث في سيل من الأنباء العلمية السارة الوافدة من باحثين متخصصين في مرض التوحد، الذين أشاروا إلى توصلهم إلى سبل مبتكرة لتشخيص الخلل الجيني المسبب للتوحد مبكرا وجينات جديدة تسهم في المرض.

في إطار الدراسات الجديدة التي نشرت في دورية «نيورون» للعلوم العصبية، ركز الباحثون على قرابة 1.000 أسرة يعاني فيها طفل واحد من التوحد. وقد اهتم الكثير من الأبحاث القديمة حول الجذور الجينية للتوحد، بالأسر التي تضم شقيقين مصابين بالمرض، وربما تمثل هذه الأسر حالات قد تلعب خلالها تحورات جينية متوارثة دورا أكبر في إحداث الخلل الجيني المسبب للمرض.

* توحد أسري «منفرد»

* إلا أن الباحثين رغبوا في تفهم العوامل الجينية المرتبطة بأطفال لا يمكن اقتفاء أثر حدوث الحالة التي يعانونها، إلى الوالدين. والملاحظ أن معظم حالات التوحد يعاني منها أطفال، يبقى الأطفال الآخرون من أسرهم خارج دائرة المرض.

وركزت مجموعتان من العلماء، عملت كل منهما بصورة مستقلة، على هذه النوعية من الأسر، وقارنت الاختلافات الجينية بين الأعضاء المصابين بالتوحد والآخرين غير المصابين من كل أسرة. وتوصل العلماء إلى أن الأطفال المصابين بالتوحد أكثر احتمالا بمقدار أربعة أضعاف عن أشقائهم غير المصابين لأن يعانوا من تنوعات في عدد النسخ (سي إن في CNV) copy number variants وهو نمط من التحور الجيني يجري خلاله نسخ جزء من الجينوم مجددا أو حذفه. كما أن تنوعات عدد النسخ في الأطفال المصابين بالتوحد كانت أكبر واحتوت على كثافة أكبر من الجينات عن نظيراتها لدى الأشقاء غير المصابين. وتشكل هذه التباينات نسبة تتراوح ما بين 5 في المائة و10 في المائة من التوحد داخل الأسر التي يوجد لديها طفل واحد فقط يعاني من المرض، حسبما أشار الباحثون.

من ناحيته، علق الدكتور ماثيو ستيت، بروفسور طب نفس الأطفال والجينات بكلية الطب في جامعة ييل وأحد المشاركين بالدراسات، بقوله: «تفتح هذه الدراسات الجينية الباب أمام تفهم الجانب البيولوجي للخلل الجيني المسبب للمرض»، مضيفا أن الدراسة الأخيرة «ترسي أساسا مهما للخطوة التالية، وهي تحديد العلاجات الأمثل للمصابين بالتوحد».

يذكر أن وجود تنوعات في عدد النسخ في حالات التوحد أمر نادر. وقد وقع الكثير منها في طفل واحد. لكن البعض الآخر وقعت به هذه الحالات بصورة أكثر تكرارا. وتوصلت المجموعة التي يترأسها ستيت إلى أربع مناطق من الجينوم يحدث بها تنوعات في عدد النسخ في الأطفال المصابين بالتوحد، وليس في الأطفال غير المصابين. من بين هذه المناطق الكروموسوم 7 الذي يتسم بأهمية خاصة بالنسبة لأنماط الخلل المرتبطة بالسلوك والتطور. ومن المعروف أن الأشخاص الذين يعانون من حذف في هذا الجزء من الجينوم يعانون من مرض يطلق عليه «عرض ويليامز»، الذي يدفع المرضى لأن يكونوا ذوي شخصيات شديدة الاجتماعية والتعاطف ومفرط في ارتباطه بالآخرين. ووجود قدر مفرط من الحامض النووي في المنطقة ذاتها يدفع الأفراد لأن يكونوا أكثر انعزالا وغير اجتماعيين وعاجزين عن تفهم الإشارات الاجتماعية.

* دور الجينات

* وربما تطرح معرفة المزيد عن تأثيرات التنوعات الجينية في هذه المنطقة من الجينوم معلومات مهمة حول طبيعة مرض التوحد، حسبما أوضح ستيت. وأضاف أن الدراسة توحي بأن «واحدا من بين الجينات قليلة العدد نسبيا في هذا الجزء تضطلع بدور محوري في تطوير الصلات والقدرات الاجتماعية. وربما يوفر هذا الأمر معلومات مهمة تفيد في تفهم الآليات الكامنة وراء التوحد».

في دراسة أخرى من الدراسات الثلاث الجديدة، بقيادة دينيس فيتكب من جامعة كولومبيا، توصل العلماء إلى دلائل حول السبب وراء احتمالات إصابة الصبية بالتوحد بدرجة أكبر عن البنات. وتوصل الباحثون إلى أن أجسام البنات المصابات بالتوحد تحتوي على عدد أكبر من تنوعات في عدد النسخ تتعلق بعدد أكبر من الجينات، مقارنة بالصبية المصابين بالتوحد. ويوحي ذلك بأن البنات ربما تتوافر أمامهن مساحة أكبر للتغلب على تنوع عدد النسخ في الجينوم عن الصبية - بمعنى أن البنات بحاجة إلى عدد أكبر من التغيرات الجينية كي تظهر لديهن أعراض التوحد. ويسلط ذلك الضوء على السبب وراء أن اضطرابات التوحد تظهر لدى الصبية بمعدل يفوق البنات بأربعة أضعاف.

وتشكل هذه النتائج تقدما مهما نحو تفهم العوامل المحركة وراء اضطرابات التوحد. وبينما لا يقدم الباحثون على استغلال المعلومات الجديدة وترجمتها إلى أنماط علاج فاعلة لهذا الخلل سوى بعد سنوات طويلة، فإنها تبقى خطوة أولى مهمة. وفي هذا الصدد، قال ستيت إن «القفزات والمعلومات الجديدة تتدفق بقوة وسرعة هذه الأيام». وهذا أمر جيد بالتأكيد.