الطفولة التعيسة ومخاطر أمراض القلب

تترك آثارا نفسية سلبية بالغة تلازم الإنسان فترات طويلة

TT

تترك الطفولة التعيسة آثارا نفسية سلبية بالغة تلازم الإنسان فترات طويلة وأحيانا بقية حياته، وتجعله يعاني من كثير من اضطرابات السلوك النفسية والاجتماعية، بل والعقلية على حد سواء. وقد اهتم علماء الطب النفسي بدراسة تأثير مرحلة الطفولة على صحة الإنسان النفسية؛ إذ إن من المعروف أن معظم الأمراض النفسية تنشأ في العقد الأول من حياة الطفل. وهناك العديد من الدراسات في هذا الصدد، ولكن وجد أن الطفولة البائسة قد تنعكس على اعتلال الجسد أيضا، ليس فقط في فتره الطفولة، ولكن تمتد آثارها لمرحلة النضج.

الطفولة وأمراض القلب

* في دراسة نشرت في شهر يوليو (تموز) الماضي في «مجلة طب النفس والجسد» Journal Psychosomatic Medicine، أشار الخبراء إلى أن الطفولة البائسة وغير السعيدة لا تؤثر فقط على الصحة النفسية، ولكن قد تكون السبب في زيادة مخاطر التعرض للأمراض المزمنة، خاصة أمراض القلب والشرايين التاجية Coronary Heart Disease في مرحله أواسط العمر.

وتأتي أهمية هذه الدراسة بشكل خاص لأطباء القلب، حيث قد بدأ اهتمام أطباء القلب بدراسة تأثير فترة الطفولة على أمراض القلب. وأوضحت هذه الدراسة أن التعرض لأزمات نفسية في الطفولة يمثل عاملا من عوامل الخطورة لاحتمالية الإصابة بأمراض الشريان التاجي، مثله في ذلك مثل التدخين وزيادة الكولسترول وارتفاع الضغط، وإن كان بدرجة أقل.

وفي الدراسة التي أجريت على 3500 رجل وامرأة يعانون من مخاطر التعرض لقصور الشريان التاجي والذبحة الصدرية، تبين أن نسبة التعرض لأمراض الشريان التاجي تزيد مع الأشخاص اللذين قضوا طفولة غير سعيدة وتعرضوا لأزمات نفسية في فتره الطفولة.

وقد تم سؤال المتطوعين اللذين أجريت عليهم الدراسة عن طفولتهم والخبرات السيئة التي تعرضوا لها وعن تعرضهم للإيذاء سواء البدني أو اللفظي أو عدم التشجيع أو التهكم المستمر أو التحقير من شأنهم، وكذلك ظروف الأسرة الاجتماعية من حيث الدخل ومستوى المعيشة أو الحرمان من التعليم، كعوامل تجعل من الطفولة التعيسة عاملا من بين عوامل الخطورة التي تؤدي لأمراض الشريان التاجي.

وتبين أن النساء أكثر تأثرا بالإيذاء البدني أو اللفظي وسوء العلاقة بين الوالدين وغياب الرقابة والمساءلة المنزلية، وبالنسبة للرجال لم يكن عامل الإيذاء البدني أو اللفظي مؤثرا قويا، ولكن في المقابل كان عامل التجاهل والتحقير من الشأن الأكثر تأثيرا.

وتساوى الرجال والنساء في تأثير غياب الرقابة المنزلية وسوء العلاقة بين الوالدين، وكذلك تبين تأثر النساء بعدم إتمام التعليم أو الحرمان التام منه، بالإضافة إلى انخفاض دخل الأسرة والإيذاء النفسي والغضب. أما بالنسبة للرجال، فكان عدم إتمام الدراسة فقط هو العامل المؤثر. وظهر الاختلاف بين الجنسيين أيضا في تزامن الطفولة التعيسة مع عوامل الخطورة الأخرى، وبالنسبة للنساء كان عامل التدخين وزيادة الكولسترول، أما بالنسبة للرجال فكان التدخين فقط.

جوانب الصحة النفسية

* تأتي أهمية هذه الدراسة من أن الفحص الروتيني العادي الذي يجريه الطبيب، لا يتطرق فيه غالبا إلى هذه النقاط في أخذ التاريخ المرضى من المريض، فغالبا ما تدور الأسئلة حتى لو تطرقت لمرحلة الطفولة حول تاريخ الإصابة بأي من أمراض القلب العضوية، والمريض بدوره لا يدرك أن الخبرات النفسية السيئة في مرحلة الطفولة يمكن أن تكون لها علاقة بأمراض القلب. فضلا عن أن طبيعة الأسئلة عن الخبرات النفسية السيئة في مرحلة الطفولة غالبا ما تكون محرجة ولا تحمل منطقا قويا يربط بينها وبين الأمراض المزمنة، مثل أمراض القلب والشرايين التاجية أو مرض السكري، خاصة لرجل أو امرأة في الخمسين من العمر.. ولكن لا شك أن اكتشاف العامل النفسي ومحاولة علاجه تجعل المريض يستجيب للعلاج بشكل أفضل.

وتبين أيضا ازدياد فرص الإصابة بأمراض القلب كلما كان هناك أكثر من عامل من عوامل الطفولة السيئة، بمعنى اجتماع عده عوامل معا مثل الإيذاء البدني مع الحرمان من التعليم وغياب الرقابة.

وأشارت الدراسة إلى أهمية دور الوالدين بالنسبة للطفولة السوية، ليس فقط بالمعاملة الجيدة أو عدم الإيذاء، ولكن شددت على الرقابة والمتابعة المستمرة للطفل والمراهق، حيث وجد أن الكثير من الذين شملتهم الدراسة مروا بتجارب التدخين في وقت مبكر من حياتهم نتيجة لغياب الرقابة من الآباء وعدم المتابعة، وهو الأمر الذي جعلهم يعتادوا التدخين في وقت مبكر من الحياة، بما يعرضهم لأحد العوامل بالغة الخطورة في احتماليه الإصابة بأمراض القلب.

وكان الاهتمام بدراسة تأثير الصحة النفسية للأطفال وتأثيرها على الجانب العضوي قد بدأ في الثمانينات من القرن الماضي واستمر حتى الآن، حيث بدأ مشروع بحثي كبير لدراسة الطفولة التعيسة Adverse Childhood Experiences أو اختصارا «ACE» في قسم الطب الوقائي في سان دييغو بكاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية.

وكان الهدف من هذا البحث هو محاولة الإجابة عن سؤال: «هل تؤثر الطفولة التعيسة على صحة الإنسان بعد عدة عقود؟»، وإذا كانت الإجابة بـ«نعم»، فالسؤال الآخر هو: «كيف يتم ذلك؟». وقد أوضحت الدراسة وجود علاقة قوية بين ما نتعرض له من آلام نفسية في الطفولة وما نعاني منه كأعراض عضوية بعد البلوغ، وأن بعض الآلام النفسية لا يتم التغلب عليها حتى بعد مرور عدة عقود عليها. وتم تحديد 10 أسئلة لقياس الخبرات النفسية السيئة في الطفولة تحت اسم «Score ACE»، وهذه الأسئلة تدور حول الإيذاء البدني المتكرر، أو الإيذاء النفسي المتكرر، أو الاعتداء الجنسي، أو إدمان المخدرات، أو غياب أحد الوالدين أو كليهما سواء بالموت أو الطلاق، أو ضرب الأم باستمرار أمام الأبناء، أو التجاهل والإهمال، أو إصابة أحد الوالدين بأمراض نفسية أو عقليه مزمنة.

وتم إعطاء كل إجابة درجة واحدة مهما كانت درجة تكرار الحدث، فمثلا يتساوى الاعتداء الجنسي على الطفل إذا تم مرة واحدة أو إذا تم عدة مرات، وكلما زادت درجات القياس، زادت فرص الإصابة بالأمراض العضوية في فترة البلوغ. وهذا القياس بالغ الأهمية، ويكفي أن الأشخاص الذين يحصلون على نتيجة 4 درجات في هذا القياس تزيد فرصهم في الإصابة بأمراض ضيق الجهاز التنفسي المزمن إلى نسبة نحو 260% مقارنة بغيرهم، وكذلك التهابات الكبد إلى 240% عن الأشخاص الحاصلين على نتيجة «0» أو الذين قضوا فترة طفولة طبيعية.

اضطرابات سلوكية

* ويمكن تفسير الطريقة التي تؤثر بها المشكلات النفسية في فترة الطفولة على البالغين من خلال تسلسل منطقي، حيث إن الطفولة التعيسة قد تؤدي إلى اضطراب في نمو الأعصاب وتكوينها، وبالتالي ينعكس ذلك في تغير سلوكي ومجتمعي يؤدي إلى إدمان أي شيء تعويضي، مثل المخدرات أو السجائر أو حتى الطعام، مما يؤدي بالضرورة إلى زيادة احتمالية الإصابة بالأمراض المزمنة نتيجة للإفراط في تناول هذه المواد.

ويحتاج الأمر بطبيعة الحال لمزيد من الدراسات التي تدرس العلاقة التي تربط بين الطفولة التعيسة والأمراض المزمنة، ومحاوله التوعية بدور الوالدين؛ ليس في التأثير في صحة أطفالهم النفسية فقط، بل والعضوية أيضا. لذلك يجب على الوالدين محاولة حل مشكلاتهم الاجتماعية أو النفسية، وتحمل المسؤولية تجاه أبنائهم.