الحب.. لغز الحياة

TT

زوجان في منتصف العمر يلتحفان ببطانية على أحد المقاعد في المتنزه.. ما أروعهما! كل منهما يميل على الآخر ليدفئه وهما يتحدثان بصوت خافت في إحدى أمسيات الشتاء الباردة، ويغمرهما إحساس بالراحة وكل منهما يتوحد مع الآخر لحمايته.. نكرر مرة أخرى أنهما في منتصف العمر. هذه هي الصورة المثلى للحب الدائم الذي يحلم به كل إنسان.. القصة الخيالية التي يمكن أن تصبح حقيقة.

لغز الحياة

* إن الحب هو أكبر لغز في الحياة، فأنت لا تستطيع أن تعرف ما يدور في رؤوس الآخرين، أو أن تشق عن قلوبهم، حسب التعبير القديم، وكل ما يمكنك معرفته هو أفكارك أنت عنهم.

الحب خدَّاع ومحير.. يجرح ويداوي، بل ويمكن أن يُذهب العقل. وكما تنصح الكاتبة الصحافية كارولين هاكس: «لا تقم بتشغيل الماكينات الثقيلة وأنت تحت تأثير هذه الحالة».

ولكن مع ذلك، ما زال الناس يحاولون أن يفسروا الحب وأن يقيسوه ويحللوه وأن يصوروه بالأجهزة الطبية المتقدمة. وما زال علم الحب في بدايته، والعلماء يسعون لكشف الكيمياء العصبية للحب. ويتحدث خبراء الحب عن الدوبامين والأوكسيتوسين والفاسوبريسين والأوبيويدات، ويقومون بدراسة صور الأشعة على المخ لأناس يمرون بمختلف آلام الحب وتغيراته، ويقولون أشياء مثل: «لقد وجدنا نشاطا في جزء ضئيل للغاية من المخ يسمى المنطقة الغشائية الجوفية» (كما قالت هيلين فيشر إحدى الرائدات في هذا المجال والأستاذة بجامعة روتجرز).

ولكن عندما تكون في حالة حب، لا يبدو أن السبب هو المنطقة الغشائية الجوفية، بل تبدو الأهمية الأكبر للعينين مثلا أو اليدين.. إلخ.

المرأة ورائحة الرجل

* وتشير دراسة صدرت مؤخرا وحظيت بانتشار واسع أن المرأة تفضل رائحة الرجل الذي يفرز مجموعة من المولدات المضادة المقاومة للأمراض تختلف عن المجموعة التي تفرزها هي؛ فالأمر يبدو وكأن الحامض النووي DNA هو ما يحدد لنا نصفنا الآخر. ولكن هل نحن حيوانات؟ في الحقيقة لا، بل نحن أقرب إلى الروبوتات.

إن طريقة البشر في التعارف والارتباط تختلف من شخص إلى آخر، ولكننا على وجه العموم نمتثل لأوامر الطبيعة، فنحن نسير وفق استراتيجيات إنجابية لا ندري عنها شيئا، فالرجل لديه مليارات الحيوانات المنوية، في حين أن المرأة لا تفرز سوى نحو 400 بويضة، ومن هذا الفارق ينشأ مليون سيناريو للتزاوج.

ولكن عندما تقلل من شأن الحب أكثر من اللازم، فإنك تفقد جوهره وملمسه، ناهيك بأنك تخسر جمهورك الذي يستمع إليك. ربما يكون الأمر أن الحب يبين حدود البحث التجريبي. إن ما يداعب الخيال في مصطلح «علم الحب» هو ما به من تناقض لفظي، فالحب ظاهرة طارئة مثل الوعي، وبالتالي فهو إلى حد ما أمر وجداني مبهم لا يمكن قياسه، فالماء يتكون من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين، وبالتالي فهو قابل للاندماج مع الجزيئات الأخرى المشابهة من خلال الروابط الموجودة في ذرتي الهيدروجين؛ لكن هذا لا يخبرنا إطلاقا عما يبدو عليه إحساس التعرض للبلل.

الحب الكبير

* نحن ننظر إلى صورة لأم وأب وطفل رضيع، وهي تقبل الرضيع. لقد أصبح الاثنان ثلاثة، وأصبح يربط بينهما رباط أبدي وهو هذا الطفل الذي تسري في عروقه دماء الأب والأم. أعط لهذا المشهد أي اسم متخصص تريده؛ هذه إحدى صور الحب الكثيرة.

ويقدم الصحافي ديفيد بروكس في كتابه «الحيوان الاجتماعي» تحليلا رائعا لشخصيتين خياليتين تقعان في الحب، وهو يصف تفاعلاتهما على مستوى اللاوعي قائلا: «وحينما اقترب كل من جوليا وروب من العناق، كان كل منهما يمتص في صمت هرمونات الجاذبية الجنسية لدى الآخر، وانخفض منسوب الكورتيزول لديهما.. وفي مرحلة لاحقة من العلاقة، تذوق روب وجوليا لعاب كليهما ثم قاما بجمع المعلومات الوراثية.. لقد قاما بفك شفرة الإيماءات الصامتة - ابتسامة، نظرة، دعابة، لحظة صمت مليئة بالمشاعر».

صحيح أن هذا الوصف يتسم بالذكاء، ولكنه ليس مثيرا بما يكفي، فهو يقتل الحماس، تماما كأن تشرح نكتة، فبعض النكات لا تصلح للشرح.

وقد وضع اليونانيون مفردات جميلة للتعبير عن الحب، مثل «agape» (وتعني الحب غير المشروط) و«eros» (وهي تلك العاطفة التي قد يصحبها تهيج في الأعضاء التناسلية) و«philia» (وهو حب الصداقة) و«storge» (وهذه الكلمة نحتاج إلى البحث عن معناها)، فالكتاب المعاصرون صار لديهم جميع أشكال الكلمات التي تصف ظلال معنى الحب، كما نرى في ملف PDF تلقيناه عبر البريد الإلكتروني: «فمثلا يقول ستيرنبرغ (1988) إن أنواع الحب تتحدد بمزيج متنوع من العاطفة والحميمية والالتزام، وتتفاوت نتائج هذا المزيج بين الحب الرومانسي، والولع، وحب الزمالة، والإعجاب، والحب الأحمق، والحب الفارغ، والحب الكامل».

كل هذا جميل، ولكن ماذا تسمي الحب الذي تشعر به حينما توافق زوجتك أخيرا - بعد كثير من الرفض - على الاستيقاظ فجرا لإسكات الطفل الذي انفجر في البكاء؟

إن الناس يتحدثون عن «الولع»، ولكن حتى هذا له درجات تتفاوت من الاهتمام المحكوم بعناية إلى الهوس المجنون، ومن الإعجاب النظري (الذي لا يكون مناسبا وبالتالي يجعل المرء يكبح نفسه ويشعر بالذنب بسببه) إلى الإحساس المتفجر بأنك غير قادر على التحكم في نفسك كريشة في مهب الريح.

بعد كل هذه السنوات، لا أحد يعرف معنى عيد الحب أو «الفالنتاين»، فهي تبدو كلمة ملطفة للتعبير عن معنى سيئ أو خبيث. إن هدايا عيد الحب تأخذ في الغالب شكل القلب، ولكن الغريب أنه لا يشبه القلب البشري على الإطلاق، فقلوب عيد الحب تبدو كلها متطابقة، حيث تتكون من نصفين يلتصقان بصورة متطابقة عند المنتصف.

وقد ألف ريموند كارفر قصة اسمها «ما نتحدث عنه حينما نتحدث عن الحب»، وفيها تجتمع الشخصيات الأربعة حول طاولة المطبخ ويتحدثون عن الحب من منطلق الغيرة، والغضب، والألم، وسوء المعاملة، والانتحار، والحاجة الملحة للتواصل.. وظلوا يتحدثون حتى غربت الشمس، وفي النهاية جلسوا في الظلام دون أن يقولوا شيئا، وكانوا يسمعون صوت ضربات قلوبهم.

ربما ينبغي تعريف الحب على أنه الشيء الذي تكتب حوله الأغاني، فلا أحد يكتب أغنية عن أصل المادة مثلا أو عن مدربي كرة القدم، فعلى الأقل هذه الموضوعات كلها لن تكون مناسبة لوضعها في نغمات موسيقية.

أغنية القلب

* عندما يشعر الناس بأغنية في قلبهم، فهذا يعني أنهم في حالة حب أو حالة متقدمة من الإعجاب. وقد تساءل مؤلف الأغاني كول بورتر ذات مرة:

ما هذا الشيء الذي يسمى الحب؟

ما هذا الشيء المضحك الذي يسمى الحب؟

من يستطيع أن يفك أسراره؟

لماذا ينبغي أن يجعلني أبدو أحمقا؟

إن الحمقى الذين يقعون في الحب يتحدثون كالفئران أو كالأطفال الصغار، ويطارد بعضهم بعضا أينما ذهبوا.. يتوددون وينشغل بعضهم ببعض ويداعبون أنوف بعضهم بعضا ويلاغي كلاهما الآخر وينتحبون ويتنهدون، مما يجعلهم مثيرين للاشمئزاز تماما في نظر كل من يراهم. ولكن في خضم الانفجار المفاجئ للمشاعر، ومع ذلك الزخم في بداية العلاقة.. لا يهم أي أحد آخر.

والحب له عناصر فطرية، فبعض من غريزة الحب يعود إلى ما قبل الإنسان البدائي، فصورة الإنسان البدائي الذي يخور بشهوانية وفظاظة وهو يلوح بهراوة، تعتبر في الحقيقة متحضرة نسبيا مقارنة بالصورة التي كانت موجودة بالفعل في الماضي قبل أن نصبح أناسا بالمعنى الحقيقي. وتعتبر الجملة التالية حجة جيدة للرجل الذي يريد أن يتنصل من علاقة ما: «حبيبتي، لا يوجد ما يضاهي العرف السائد بين السحالي».

وليس من الواضح تماما متى يمكن إدخال الجنس في نقاش حول الحب، فالإنسان قد يحب من دون أن يمارس الجنس والعكس بالعكس. ويخبرنا الخبراء أن المرأة تقع في الحب أولا ثم ترغب في الجنس، أما الرجل فيرغب في الجنس أولا ثم يقع في الحب، ولكن على المدى البعيد يفترض أن الاثنين يتكاملان بشكل أو بآخر من أجل بقاء النوع، فنحن نتدبر الأمر لأننا من خلال التباين في الحاجات الارتقائية نصبح في النهاية شركاء في مهمة واحدة.

ولكن هناك اختلافات واستثناءات وطفرات وانحرافات وتجاوزات، فلولا التجاوزات لما أصبح لدينا أدب على الإطلاق: لا «آنا كارنينا» ولا «هستر براين» أو «مدام بوفاري» أو أي من الشخصيات الأخرى.

تقول مارييتا أندروز ساكس، وهي متخصصة في علاج الاضطرابات الزوجية، من واشنطن، إن الحياة الحديثة قد تقسو على الرومانسية لأن الناس يعملون لساعات طويلة للغاية وتلهيهم تماما تكنولوجيا الاتصالات. وتضيف: «أنا أرى أزواجا في سن الشباب مشغولين في عملهم لدرجة أنهم لا يمارسون الجنس. أليس هذا جنونا؟» أما الأزواج الأكبر سنا، فهم حتى لا ينظر كلاهما للآخر.

وتضيف مارييتا: «إن الأزواج يضبطون بعضهم بعضا عصبيا عن طريق نظرات العينين». في بداية العلاقة يكون للعينين دور أساسي في المغازلة والمتعة والاتصال. «ومع مرور سنوات الزواج يبدأ الانشغال بإدارة شؤون الحياة ولا يعود الناس يشعرون بالمتعة أو يتواصلون بالنظرات».

ولهذا، فقد أعجبتنا هذه الصورة للزوجين الكبيرين الجالسين على الأريكة، فقد كانت أيديهما متشابكة، وكانا ينظران مباشرة كلاهما للآخر. لقد ظلا معا لأربع وسبعين سنة. أرأيت؟ إنها تحدث. هذا ليس شيئا تخيلناه أو توقعناه.

ونحن نجرؤ على الاعتقاد بأن هذه الصورة ستستمر.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»