الأطفال.. وبداية إدراك المشاعر الحقيقية

يميزون في عمر 18 شهرا التعابير السلبية والإيجابية لوجوه آبائهم

TT

يسود الاعتقاد في العالم كله أن الأطفال لا يمكنهم التفرقة بين المشاعر الحقيقة والمزيفة، إلا حينما يبدأون في الوصول إلى المرحلة الدراسية ويمكن إقناعهم بمشاعر سواء الحزن أو السعادة بشكل غير حقيقي، وهو الأمر الذي يبدو منطقيا خاصة أن الطفل في مرحلة ما قبل الدراسة لا يمكنه التعبير الكامل عن إدراكه للمتغيرات النفسية من حوله (على الرغم من إحساسه بها). ولكن يبدو أن علماء الطب النفسي كان لهم رأي آخر، وهو ما أشارت إليه دراسة قام بها علماء من جامعة كونكورديا Concordia University بكندا التي أوضحت أن الأطفال يمكنهم التمييز بين المشاعر المختلفة في وقت مبكر جد من العمر في سن 18 شهرا.

* ربط المشاعر والحركات وكانت الدراسة التي تم نشرها في المجلة الرسمية للمجتمع الدولي لطب الأطفال The Official Journal of the International Society on Infant في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري، قد حاولت الإجابة على السؤال: هل يستطيع الأطفال التمييز بين عدم توافق المشاعر مع الحركة؟ وعلى سبيل المثال فإن من السهل على الطفل أن يدرك بسهولة أن الشخص المسرور يصفق بيديه لأن في هذه الحالة تتوافق المشاعر (السرور) مع الحركة (التصفيق بالأيدي). كما طرح السؤال: وهل تصرفات الشخص تسير في نفس السياق وتصرفاته مبررة تبعا لأحاسيسه؟ وقامت الدراسة بإثبات أن الأطفال يمكنهم تفهم كيف أن ما تعنيه الخبرة النفسية مرتبط بشكل مباشر بتعبير الوجه.

وهذا الاكتشاف يعتبر بالغ الأهمية خاصة للأطباء والمتعاملين مع الأطفال مثل الممرضات وكذلك الآباء، إذ أوضحت هذه الدراسة أن الأطفال لا يمكن خداعهم بأن ما يمكن بعض الإجراءات الطبية مثل وخز الحقن يمكن أن يؤدي إلى السعادة أو الضحك أو ما إلى ذلك حتى ولو تم التظاهر بذلك أمامهم. وعلى سبيل المثال اعتاد بعض الآباء أن يجنبوا أطفالهم مشاعرهم السلبية برسم ابتسامة مزيفة على الوجه حينما يقابلون طفلهم، ولكن الدراسة أكدت أن الطفل يدرك حقيقة المشاعر السلبية من توتر أو غضب أو خلافه، حتى ولو تعارضت مع المظهر في عمر 18 شهرا.

* التمييز بين المشاعر وقد قام الباحثون بإجراء التجربة على 92 طفلا، أعمارهم بين 15 و18 شهرا، تمت ملاحظتهم من خلال أداء تمثيلي للكثير من السيناريوهات، إذ قامت الباحثة بإظهار تعبير الحزن عن طريق الوجه في حين كانت تحمل لعبة جميلة للطفل وفي هذه الحالة (كان تعبير الوجه هنا مختلفا عن الحالة المزاجية). وفي المرة الثانية كان تعبير الحزن في الوجه متزامنا مع تظاهر الباحثة بأنها تقوم إيذاء إصبع يدها (في هذه الحالة يتوافق تعبير الوجه مع الحالة المزاجية). وعند عمر 15 شهرا لم يلاحظ الأطفال الفرق بين اختلاف المشاعر وتعبير الوجوه.

ولكن عند إجراء التجربة على أطفال في عمر 18 شهرا ظهر بوضوح أن الأطفال يستطيعون التمييز بين المشاعر وتعبير الوجوه من خلال إطالتهم النظر لفترة، نحو وجه الباحثة، حينما اختلفت تعبيرات وجهها عن عواطفها الحقيقية. وليس ذلك فحسب بل إن الأطفال نظروا أيضا إلى الممرضة التي كانت معهم في الحجرة للتحقق من رد فعل شخص آخر! كما أن الأطفال أظهروا التعاطف فقط حينما توافقت تعبيرات الوجه مع الحالة العاطفية والمزاجية فعلا، بمعنى أنهم أظهروا التعاطف في المرات التي كان يبدو فيها الألم على وجه الباحثة أثناء تظاهرها بإيذاء أصبعها. وأشارت الدراسة إلى أن التعاطف مع أي وجوه حزينة هو سلوك تكيفي للطفل، أما القدرة على اكتشاف الحزن والتفاعل معه فهو سلوك مكتسب بمعنى أن التطور النفسي للأطفال هو الذي يمكنهم من فهم سلوكيات الآخرين والتفاعل معها.

وفي نفس السياق أشارت دراسة أميركية حديثه نشرت في منتصف يونيو (حزيران) من العام الحالي في المجلة الأكاديمية للطفولة academic journal Infancy قام بها أطباء نفسيون من جامعة بريغهام يونغ بالولايات المتحدة، إلى جانب قد يبدو مدهشا جدا للبالغين وهو أن الأطفال يمكنهم معرفة الحالة المزاجية لبعضهم البعض من دون كلام في عمر مبكر جدا نحو 5 شهور، ودلل الباحثون على ذلك أن الطفل في بداية حياته لا يمكنه التعبير بالكلام عن الإحساس بالجوع أو التعب، ولكن التعبير يكون من خلال العواطف المختلفة وهي في الأغلب البكاء.

ووجدت الدراسة أن الرضع يمكنهم معرفة نبرة الصوت لأقرانهم سواء كانت إيجابية أو سلبية ومدى توافقها مع تعبيرات الوجه، وفي التجربة جلس الأطفال أمام شاشتين تعرض كل منهما فيديو، الأولى لطفل سعيد ومبتسم الوجه، والأخرى لطفل غاضب وحزين. وعندما تم تشغيل تسجيل صوتي لطفل سعيد قام الأطفال المشاركين في التجربة بالنظر طويلا إلى الفيديو الذي يعرض صورة الطفل السعيد، وهو ما يعني أن الأطفال في هذا العمر استطاعوا الربط بين الصوت المبتهج وتعبيرات الوجه. وحدث نفس التفاعل مع تسجيل صوتي لطفل يبكي، ونظر الأطفال إلى الطفل الذي يحمل وجها عابسا مع العلم بأن التسجيل الصوتي كان لطفل ثالث ولم تكن الأصوات متطابقة مع حركة الشفاه في الطفلين الموجودين في الفيديو.

وهذه التجارب بالغة الأهمية حيث إنها تثبت بوضوح أن الأطفال يتفهمون العواطف المختلفة في سن مبكرة جدا خلافا للاعتقاد السائد، وأن الأطفال يكتسبون الكثير من الخبرات العاطفية والإدراكية في أول سنتين من الحياة.

* اختصاصي طب الأطفال