المربي الوقور عبد المحسن المنقور

عمل ملحقا ثقافيا في لبنان ووكيلا للحرس الوطني.. وما من سعودي زار بيروت إلا وله معه قصة تروى

صورة التقطها مصور أميركي عام 1944 ويظهر فيها المعلم عبد المحسن المنقور واقفا خلف طلابه في ابتدائية الأحساء
TT

يعد الشيخ عبد المحسن المنقور، أحد أبرز رواد التربية والتعليم في السعودية، من خلال مسيرته العملية التي بدأها عام 1942م معلما ومديرا ومشرفا في منطقة الأحساء شرقي السعودية، ثم ملحقا تعليميا في بيروت ودمشق، وقد حقق شهرة واسعة وصيتا ذائعا خلال عمله في بيروت، إذ تجاوز مهام المنصب الرسمية إلى مسؤوليات وأعباء اجتماعية تجاوزت ما يقوم به كثير من السفراء, فأرهقت الديون كاهله جراء كرمه وسخائه، فصدر أمر الملك عبد الله بن عبد العزيز بتعيينه وكيلا للحرس الوطني بالمنطقة الشرقية تقديرا له. ولد عبد المحسن المنقور، في حوطة سدير في عام 1344هـ، وعاش مع أخويه سعد وناصر (الوزير والسفير لاحقا) في رعاية والدهم الشيخ حمد المنقور في شظف من العيش وقسوة بالغة أرهقت كاهل الأب، الذي دفع بهم إلى كتاب الشيخ صالح النصر الله، فأتموا قراءة القرآن الكريم، بعدها قرر الأب أن يأخذ ابنيه عبد المحسن وسعد إلى مسجد الشيخ، الشهير في حي دخنة بمدينة الرياض، ليدفع بهما إلى حلقات أكبر معلم في المنطقة آنذاك، المفتي الأكبر محمد بن إبراهيم آل الشيخ.

الشيخ عبد المحسن هو أحد وجهاء المجتمع السعودي ورواده في البذل والكرم والإيثار، مما سيتضح بيانه في هذا التحقيق:

على ظهر المطية، ركب حمد المنقور وأردف معه ابنيه عبد المحسن، ذي الثلاثة عشر عاما، وسعد الذي بلغ الحادية عشرة من عمره، ويمم وجهه شطر الرياض، وبعد مسير أربعة أيام، حط الركب في دخنة! وأسلم حمد أبناءه إلى حلقات التدريس في مسجد الشيخ، فانتظما في حلقات التدريس، فحفظا القرآن الكريم كاملا، وتلقيا دروسا في أصول الدين والفقه والنحو.

في ظل هذا الحماس والاندفاع في تلقي العلم من قبل عبد المحسن وسعد، عاش الأب مع ابنيه مسرور الخاطر، متطلعا إلى يوم تخرجهما ليحتفل بهما، غير أن رياحه لم تأت على ما يريد، إذ بدأ يعاني من آلام استدعت ابن أخته عبد العزيز المنيف، كي يبقى إلى جواره، بل ويبيت معه ومع ابنيه في المنزل المستأجر حتى تزول الغمة ويخف المرض.

* لوعة اليتم

* بقي حمد المنقور ممددا على فراش مرضه لأيام معدودات يحاول أن يخفف من آلامه وأوجاعه بتلاوة آيات بينات. وذات مساء، من مساءات الرياض الخانقة، من عام 1937 وبعد أن ارتمت شمسها خلف أسوارها، زادت الحمى لدى حمد المنقور واعتلاه الوجع وبدا أن المنية تكاد تنشب أظفارها وأنه لا بد من الرحيل، رغم الوجع الذي سيتجرعه الأيتام الثلاثة! وما إن عاد المصلون إلى منازلهم بعد أن أدوا صلاة العشاء، وخلد عبد المحسن وسعد إلى فراشيهما، فاضت روح حمد المنقور وعادت إلى خالقها، وانطوت بذلك صفحته وانتهى دوره في الحياة، بعد أن رحل تاركا وراءه ثلاثة من الأيتام أكبرهم قد بلغ لتوه الرابعة عشرة من عمره.

عاد عبد المحسن وسعد إلى حوطة سدير مكلومين، حزينين، وقد تولت أمهم نورة الخميس أولادها بالرعاية والاهتمام، غير أنه لم يمض عام واحد حتى فكر الإخوان الثلاثة بمستقبلهم وتساءلوا: إلى متى سنظل هنا؟! وكيف لنا أن نحقق ما كان ينشده والدنا ويؤمله؟! ما كان حمد المنقور ينشده ويؤمله هو طريق العلم لا غير! غير أن منطقة نجد آنذاك، ومدينة الرياض تحديدا، لاتوجد بها مدرسة ابتدائية نظامية واحدة، ولا يرغب الأولاد في مواصلة دراستهم التقليدية في حلقات مفتي البلاد. والمدارس النظامية لم تكن آنذاك إلا في الحجاز أو الأحساء، التي افتتحت بها أول مدرسة ابتدائية في عام 1356هـ (1937م). وبعد تفكير لم يدم طويلا، قرر عبد المحسن السفر إلى الأحساء، في حين ظل سعد إلى جوار والدته في حوطة سدير، وتوجه ناصر إلى مكة المكرمة لطلب العلم في غربة ستطول زمانا ومكانا لعقود سبعة تالية.

* في الأحساء

* نزل عبد المحسن المنقور الأحساء في عام 1938م وما أن وصلها حتى التحق بمدرستها الابتدائية وتخرج فيها عام 1942م وعمل مدرسا فيها لستة أعوام حتى تعين معاونا لمديرها عام 1948م ثم مديرا لها 1949م، وقد بذل جهودا كبيرة في سبيل رفعة التعليم ونشره وتطويره في الأحساء، وقد تعين في عام 1953م، مديرا لثانوية الأحساء، التي فتحت عام 1947م، والتي كان يشرف عليها الأستاذ عبد العزيز التركي، معتمد المعارف في الأحساء. كما كان عبد المحسن مشرفا على المدرسة الليلية لتعليم اللغة الإنجليزية، التي فتحت عام 1951م.

وخلال عمله في التعليم، في المدرسة الابتدائية أو الثانوية، تخرج على يديه عدد من أبناء الأحساء، من مثقفيها ومسؤوليها، الذين يدينون له بكثير من الفضل والعرفان والامتنان، منهم الدكتور محمد بن عبد اللطيف الملحم، وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء السابق، والأديب الدكتور راشد المبارك، والدكتور علي العبد القادر، والأديب الصحافي عبد الله الشباط، وإبراهيم وعبد الرحمن أبناء عبد اللطيف العيسى، وغيرهم كثير.

وكتثمين للجهود التي بذلها عبد المحسن المنقور في تعليم الأحساء، وبوفاء جميل، يذكر تلميذه الدكتور محمد الملحم بأن المنقور وباعتباره مديرا للمدرسة، فقد أسهم في كل الجهود التي بذلت لنشر التعليم في أحياء مدينتي الهفوف والمبرز وسائر قرى الأحساء قاطبة، واعتادت مدرسة الأحساء الابتدائية في عهده على إقامة مهرجانات أو احتفالات عند اختتام عامها الدراسي، وكانت تفتخر بتخريج طلبة فيها حاملين شهادات دالة على حوزهم للعلم والأدب، وكان يحضر هذه المهرجانات أعيان الأحساء وآباء الطلاب، وكانت هذه المهرجانات بالنسبة للأحساء حدثا عظيما.

ويواصل الملحم حديث الوفاء تجاه أستاذه، فيقول: «لم يقتصر الأستاذ المنقور بعد تخرجه في المدرسة ومواصلة التعليم على حصر نشاطه في التدريس فيها، بل شارك في تأسيس (مكتبة التعاون الثقافي) الشهيرة لبيع الكتب الأدبية والمجلات لطلاب المدرسة وأهالي الأحساء، ممن كانوا يعملون في بعض المرافق الحكومية، مثل المالية والمحكمة والشرطة، ولم يحصر المنقور نشاطه التربوي والتعليمي داخل أروقة المدرسة فحسب، بل كان بمثابة سفير للمدرسة لدى أهالي الأحساء، وبتعبير آخر، كان المنقور على صلات قوية واسعة بكثير من الأسر في الأحساء من موقعه باعتباره مديرا للمدرسة».

من جانب آخر، سجل الدكتور علي العبد القادر شهادته، التي حاول من خلالها أن يبرز شيئا من الصفات الكريمة التي كان يتمتع بها أستاذه، حينما كان طالبا يتلقى العلم على يديه. عن تلك المواقف يقول العبد القادر: «توفى والدي، رحمه الله، وأنا في سن العاشرة، وكنت تواقا للالتحاق بالمدرسة الأميرية (مدرسة الهفوف الأولى) فاصطحبني أخي الأكبر أحمد في عام 1369هـ، إلى المدرسة، وكان الأستاذ عبد المحسن مديرها، وكنت أشعر بالخوف والرهبة قبل الدخول في مكتبه، وسرعان ما زال عني ذلك، حينما قام مصافحا أخي وأنا، وربت على كتفي بحنو واهتمام، وسألني عما إذا كنت أعرف أقرأ وأكتب، فأجبته بنعم، فأعطاني جزء (عم) وكنت قد ختمت قراءة القرآن في مدرسة الشيخ أحمد القرين، في حي الكوت، وتعلمت الكتابة والحساب، فكتبت شيئا من كتاب الهجاء، فسر بذلك وتم قبولي في السنة الأولى، ويعكس هذا الموقف دون تفصيل المهارات التربوية والإدارية والأخلاقية التي كان يتمتع بها الفقيد».

ويتفق العبد القادر مع ما ذهب إليه زميله محمد الملحم في أن المدرسة الابتدائية والثانوية في عهد أستاذهم المنقور، كانت شبيهة بالجامعة، حيث تقام الندوات والحفلات والمناظرات والنشاطات الثقافية ذات المستوى الذي قد يفوق المستوى الجامعي حاليا.

* إلى بيروت

* في عام 1376هـ، الموافق 1956م، تم تعيين عبد المحسن المنقور ملحقا تعليميا في بيروت ودمشق، في مهمة تعليمية وطنية لا تقل أهمية، إن لم تكن أهم، من جهوده في تعليم الأحساء وتخريج أبنائها والدفع بهم قدما. وكانت لبنان في تلك الفترة تمتلئ بالشباب السعودي، الذين التحقوا في عدد من المعاهد والمدارس والجامعات اللبنانية. وسيزداد العدد ويتضاعف بعد وصول عبد المحسن المنقور ولأسباب سياسية، بعد أن تردت العلاقات السعودية - المصرية، فاتجه كثير من السعوديين إلى لبنان لتلقي العلم في جامعاتها.

في بيروت لم يقتصر عمل عبد المحسن المنقور على الإشراف على البعثة التعليمية في لبنان وسوريا فحسب، بل امتد إلى الإشراف على الطلبة السعوديين في الأردن والعراق والكويت وتركيا، حتى تم افتتاح مكاتب ثقافية وتعليمية في هذه الدول في مطلع الستينات. ولقد كان المنقور، طيلة عمله في بيروت، بمثابة المستشار الثقافي لوزارة المعارف، وقد شارك في وفود وزارة المعارف السعودية في مؤتمرات وزارات التربية والتعليم في القاهرة والكويت والعراق وإيران، وفي مؤتمرات اليونسكو. وقد عمل عضوا في مجلس إدارة المركز الإقليمي لتدريب كبار موظفي وزارات التربية والتعليم العرب في الجمهورية اللبنانية. ورافق وزير المعارف في جولات على الطلاب في شمال أفريقيا وأوروبا وأميركا.

وطيلة عمله في بيروت ودمشق، الذي دام لأكثر من ثمانية عشر عاما، حقق عبد المحسن المنقور شهرة وصيتا منقطعي النظر، إذ كان خلال تلك الفترة، الرجل الكريم المعطاء، فقد تجاوز مهام عمله إلى القيام بواجبات وأعباء اجتماعية كبيرة مع عدد من السعوديين، الذين يزورون لبنان في تلك الفترة وما أكثرهم، فلقد كانت بيروت، آنذاك، الرئة التي يتنفس خلالها الوطن العربي، وكانت طيلة الخمسينات والستينات وإلى منتصف السبعينات المصيف العربي الواسع، الذي يهرب إليه أهل الصحاري لينعموا بالماء والسهول الخضراء وبأرغفة الثقافة والصحافة، قبل أن تبتلع حروب الطائفية هذا المصيف وتقضي فيه على الأخضر، وعلى اليابس، الذي كان في لبنان مورقا وإن يبس! في تلك الفترة، كان هناك عدد من السعوديين أمضوا شطرا من حياتهم في لبنان، وهناك من اعتادوا على قضاء إجازاتهم الصيفية في جباله وسهوله، وحينما تجلس إلى أي أحد منهم يشدك حديثه عما كان يفعله عبد المحسن المنقور من نشاطات وأفعال تتجاوز مهامه وأعماله الرسمية، من خلال مناشط اجتماعية متميزة. فعلى خلاف كثير من الدبلوماسيين، كان عبد المحسن صديق الجميع، يودع هذا الزائر ويستقبل ذاك، يستضيف قادما أضناه السفر ويعطف على ضعيف أنهكته الغربة! وليس ثمة سعودي زار بيروت أو أقام فيها في تلك الفترة، إلا وله مع عبد المحسن المنقور قصة تروى.

حينما كان السعوديون يصيفون في لبنان، كان أقرباؤهم في السعودية يبعثون إليهم برسائل على عنوان الملحق الثقافي في بيروت، الذي يأخذ الرسائل والودائع، بكل تواضع وطيبة خاطر، ويدور بها على المصطافين في أماكن سكنهم، واحدا تلو الآخر، وكان يرفض الاستضافة عند أي أحد منهم بحجة أنه على عجل من أمره فلديه عدد من الرسائل التي يريد إيصالها إلى أهلها! وذكر لي الدكتور عبد العزيز الخويطر أن عبد المحسن المنقور كان يقيم مأدبة غداء أو عشاء لعدد من أصدقائه السعوديين في مطعم أحد الفنادق، وفي الوقت نفسه يكون قد دعا مجموعة أخرى في مطعم الفندق المجاور، وكان يباشر ضيوفه هنا وهناك دون أن تشعر أي مجموعة بالأخرى أو يشعر أصدقاؤه بغيابه عنهم، حيث اعتاد على الوقوف على رؤوس ضيوفه ومباشرتهم بالأكل.

في عام 2001م زرته في منزله، مع عدد من المثقفين السعوديين، وسألته عما يتحدث به كثيرون من مواقف له مع عدد من السعوديين، خصوصا مع المثقف عبد الله القصيمي، الذي أرغم على مغادرة مصر إلى لبنان، وعاش فيها في فقر وعوز شديدين. وكان عدد من السعوديين يعرفون الظروف السيئة التي كان عليها، فكانوا يجمعون أموالا ويدفعونها إلى عبد المحسن المنقور ليسلمها له، فكان القصيمي يأخذها لأنها تأتيه من عبد المحسن المنقور، ظانا أنها من الملحقية أو السفارة! وحينما سألت عبد المحسن المنقور عن أسماء السعوديين الذين كانوا يعطفون على القصيمي ويدعمونه ماليا آنذاك، اعتذر عن الإجابة بأدب، قائلا: «ليس من حقي الآن أن أذكر أسماءهم وقد انتقل منهم من انتقل إلى رحمة ربه».

وثمة مواقف شاهدة على كرم عبد المحسن المنقور وفزعته ونخوته ومروءته دونها أصحابها وفاء له. يقول الأستاذ محمد العبد الهادي، الذي كان تلميذا له في مدرسة الأحساء: «كنت ألتقي به يوميا تقريبا عندما أكون موجودا في لبنان في مهمات عمل، ولا أغالي إذا قلت إنني لا أجد مقعدا في مكتبه المكتظ بالزائرين وأصحاب الحاجات أحيانا. لقد كان لا يملك شيئا من وقته لنفسه، فهو إما مستقبلا أو مودعا أو مضيفا أو مشغولا بقضاء حاجات المحتاجين، الذين لا يجد بعضهم غضاضة في الاستعانة به في أمور يمكن قضاؤها دون معونته، إضافة إلى مهمات عمله الرسمي، فلقد كان مرهقا وبشكل يدعو للشفقة. وأجدني صادقا إذا قلت إن شخصيته أكثر بريقا لدى السعوديين واللبنانيين من بعض السفراء العرب هناك».

ويروي الدكتور علي العبد القادر مواقف حصلت له مع المنقور في بيروت، فيقول: «عين الفقيد ملحقا ثقافيا في سفارة المملكة في بيروت، وابتعثت للدراسة في مركز اليونسكو لتخطيط التربية وإدارتها عام 1967م، وحين ذهبت إلى مكتبه في الملحقية لأسلم عليه وأكمل الوثائق المطلوبة، رحب بي ترحيبا أشعرني بمكانتي وقيمتي، وأجلسني عن يمينه، وسألني عن مؤهلي، وكنت قد حصلت على البكالوريوس من جامعة الملك سعود بالرياض، وعن عملي، وكنت أعمل مديرا لثانوية الهفوف، وقد أفرحه أن يصير أحد طلابه مديرا لها. وتذكر المنقور تلك الأيام التي كان فيها أول مدير للمدرسة. واصلت الدراسة بالمركز، وكنا نزوره بين فترة وأخرى للاطلاع على مستوى أعضاء الوفد السعودي، كما كان يتفقد الطلبة السعوديين المبتعثين للجامعات اللبنانية ويرعى شؤونهم الدراسية والاجتماعية والثقافية، وكان للجميع كالأخ والأب والموجه الحريص على رعايتهم وتوفير متطلباتهم. وفي نهاية الدورة طلب إلى عبد العزيز القوصي، مدير المركز، أن أذهب إلى مكتب الملحق الثقافي لمقابلة الشيخ عبد المحسن فوجلت خشية أن أكون قد قصرت في الدراسة، ورأيت في مكتبه الشيخ حمد الجاسر والسفير محمد الخيال وكان الموقف مهيبا. فقدمني إليهما، وكلاهما على علاقة بفضيلة الشيخ محمد العبد القادر، قاضي المبزر ورئيس مجلس المعارف بالأحساء، ثم تحدث عن تقرير مدير مركز اليونسكو المتضمن معلومات عن أعضاء الوفد، وأخبرني بأن المدير أوصى بابتعاثي للحصول على درجة الماجستير، وأنه أي الملحق - يبارك لي ذلك، وسيوصي الوزارة بابتعاثي. وكان منزل الأستاذ عبد المحسن المنقور مقر ضيافة وكرم للوافدين عليه ومقصدا للسفراء والوجهاء والزوار والمثقفين. فكان وجها مشرقا للمملكة العربية السعودية وقد فاق الدبلوماسيين والسفراء في علاقاته العامة وحكمته وحسن استقباله للناس».

* إلى الدمام

* في عام 1393هـ، الموافق 1973م زار الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري، نائب رئيس الحرس الوطني المساعد، لبنان والتقى بصديقه عبد المحسن المنقور، وكان الشيخ التويجري يقدر الجهود والمناشط التي يبذلها عبد المحسن المنقور في بيروت والشام مع السعوديين وغيرهم، وكان يدرك أن على الرجل التزامات كثيرة، وقد أرهقته الديون من جراء كرمه الباذخ، فكتب إلى الأمير عبد الله بن عبد العزيز (الملك لاحقا) فكان أن صدر الأمر في عام 1973 بتعيين عبد المحسن المنقور وكيلا للحرس الوطني بالمنطقة الشرقية، وظل في هذا المنصب إلى أن تمت إحالته على التقاعد عام 1983م فخلفه بوكالة الحرس الوطني الأمير مشاري بن سعود بن عبد العزيز. وبعد تقاعده عن العمل وتحت عنوان «عبد المحسن المنقور» كتب عثمان العمير، الذي كان يعمل آنذاك مديرا لمكتب جريدة الجزيرة في لندن، مقالة في الصحيفة نفسها، قال فيها: «مر خبر إحالة الأستاذ عبد المحسن المنقور من الخدمة مرور الكرام، ودون أن تقرأ في جريدة محلية تعليقا أو ثناء على الخدمات التي قدمها المنقور في المجالات التي عمل بها. وبالطبع فإن للصحافة عذرها، فكثير منهم قد لا يعرف ما قدمه رجل كالمنقور في نطاق عمله، لكن العتب ربما على الذين يعرفونه جيدا وهم كثيرون، فمنهم المسؤول ومنهم المواطن ومنهم رجل الأعمال. فالأستاذ المنقور رجل تربية وتعليم من الطراز الأول، فقد خدم في المنطقة الشرقية، فكان واحدا من أوائل الذين غامروا في تجربة التعليم. وفي بيروت حيث انتقل ملحقا ثقافيا، شهد المكتب في وجوده تألقا ولمعانا ملحوظا. وكان المنقور المواطن الذي لم يكتف بواجباته بصفته ملحقا ثقافيا، بل كان خير سفير لبلاده ولوطنه، وكان مضرب المثل في الكرم والبذل والعطاء، من ماله ونفسه وأخلاقه، ثم انتقلت إليه مسؤولية الحرس الوطني في المنطقة الشرقية فواصل مسيرته وواجبه. إنه ليس أعز من كلمة الوفاء في هذا الزمان! غير أن قولها لرجال مخلصين مثل المنقور يعد فرضا على الجميع، بمعنى أنه إذا قام به البعض فلا يعني أنه يسقط عن الباقين، فلقد كان في مجال عمله نظيفا وخرج من عمله نظيف اليد واللسان، إلا من ثناء الناس وتقديرهم واعتزازهم بشهامته وأريحيته. لقد كان أحد الرجال المجهولين الذين عملوا خلف الأضواء في خدمة هذا الوطن. ولقد وضحت تلك الخدمة أكثر فأكثر في لبنان، لكنه رجل تعود على الصمت وعلى نكران الذات وعلى البعد عن الأضواء، فلم يصل ما فعله إلا لقليل من الناس أو من طالتهم تلك الخدمات وعرفوا بها. إنني من هذا المكان أطالب أن نستفيد من خدمات عبد المحسن المنقور، فما زال في قوة رجولته وعطائه، والوطن يحتاج إلى كل رجل نظيف اليد، نظيف اللسان، فضلا عن الكفاءة والقدرة، مثل عبد المحسن المنقور».

بعد تقاعده اتخذ عبد المحسن المنقور من مدينة الخبر مقاما ومسكنا، وكان طيلة إقامته فيها أحد أبرز وجهائها وفاعليها، من خلال عمله في مجلس إدارة النادي الأدبي في الدمام، وعضويته في مجلس إدارة مؤسسة دار اليوم للصحافة والطباعة والنشر، ومساهمته في تأسيس جريدة الرياضي بالبحرين والمنطقة الشرقية عام 1996م.

وكان خلال مسيرة حياته، وما تحقق فيها من منجزات وإنجازات، منكرا لذاته، عازفا عن الإعلام، كارها للزيف، يرى أن ليس في حياته ما يستحق أن يروى ويدون، وقد أجمع كل الذين عرفوه على أن حياته وسلوكه معهم لم يتغيرا أو يتبدلا مع تغير مناصبه، إذ ظل في كل الأحوال الرجل الوفي الكبير، صاحب الخلق الرفيع، لذلك كان رجلا استثنائيا ومن طراز نادر. وكأني بالمصور الأميركي، الذي التقط صورة له وهو يقف خلف تلامذته في مدرسة الهفوف الأولى على علم بأن الرجل سيكون منكرا لذاته عازفا عن الأضواء، فأراد أن يحفظ للتاريخ نقطة البدء والانطلاق والعطاء لعبد المحسن المنقور.

* الرحيل

* توفي عبد المحسن المنقور في بيروت، المدينة التي أحبها وعشقها، وذلك بتاريخ 31 / 3 / 2007م، وبعد وفاته نعته الصحافة السعودية وكتب عنه عدد من محبيه وتلامذته، من أبرزهم الدكتور محمد بن عبد اللطيف الملحم، كما كتب عنه تلميذه الدكتور علي العبد القادر مقالة بعنوان «عبد المحسن المنقور رجل النبل والكرم»، ثمن فيها جهود المنقور وعرض فيها لمواقف تربوية واجتماعية عايشها معه، وعرض العبد القادر للزمالة التي جمعته مع أستاذه في مجلس إدارة «دار اليوم للصحافة والطباعة والنشر»، حيث تجلت حكمته وأخلاقه الكريمة في حسن التعامل والتصرف الحكيم في معالجة بعض المواقف في قسم التحرير.

ومن الأردن، وتحت عنوان «أبو حمد ذكريات تثيرها ذكراه» كتب الأستاذ جودت البرغوثي مقالة قال فيها: «روى لي فلسطيني مقيم في الأحساء ذات يوم أنه أراد السفر إلى بيروت لإجراء عملية جراحية، فنصحه أحدهم أن يتصل بالملحق الثقافي السعودي في بيروت وكان حينها الأستاذ عبد المحسن المنقور. وصل صاحب الرواية إلى بيروت وقابل أبا حمد، فلم يتوان، رحمه الله، عن إرساله إلى مستشفى الجامعة الأميركية لإجراء العملية اللازمة له. زاره في المستشفى مرتين، وفي كل مرة كان يحمل له هدية، وقبل خروجه معافى جاءه أبو حمد وقال له: «إن مكتب الأمم المتحدة دفع عنك كل تكاليف العملية وتبرع لك بألفي ليرة. وكان ذلك الفلسطيني يروي القصة لي بعفوية وعلى غير انتباه، ولمعرفتي بمعدن أبى حمد الأصيل، قلت له: إن من دفع تكاليف العملية وأعطاك مبلغ المال هو أبو حمد دون سواه، فتنبه الرجل إلى أنه لم ير أيا من موظفي مكتب الأمم المتحدة ولم يوقع على أي إيصال باستلام ألفي ليرة لبنانية. حينها أدرك أن ما قلته هو الصحيح، وأن من الواجب عليه تقديم الشكر الجزيل لهذا الإنسان على عطائه وكرمه».

وفي خطوة نادرة، وفي بادرة وفاء لرجل من رجالات الوفاء، وبعد أن نعى الناعي الشيخ الوقور عبد المحسن المنقور، قام خمسة عشر طالبا سعوديا تلقوا تعليمهم في الجامعات اللبنانية في فترة الستينات الميلادية، بنشر عزاء ومواساة برحيل أستاذهم الكبير، وذلك في صحيفة الرياض وقد عرفوا أنفسهم بـ«خريجي الجامعات اللبنانية السعوديين المقيمين في الرياض» وهم: سعود الغيث، وإبراهيم المديميغ، وعبد الكريم المحيسني، ومحمد الضلعان، وفهد الصالح، وعبد الله الدباغ، وإبراهيم الشامي، ومحمد الضويان، وأحمد السعيدان، وعبد الله الخلف، وعبد العزيز بن غيث، وعثمان التويجري، وعبد الرحمن الثميري، ومحمد المبيريك، وإبراهيم الناصر.

* تزوج عبد المحسن المنقور في عام 1371هـ (1951م) في الأحساء من ابنة ناصر بن إبراهيم المنقور، ورزق منها بابنه حمد وابنته الدكتورة شعاع. وتوفيت زوجته عام 1374هـ، بعد مرض لم يمهلها طويلا، وقد كان وقتها يعالج في لبنان. وبعد أن انتقل عمله إلى بيروت تزوج من فتاة لبنانية أنجبت له ابنيه عادل ونزار، اللذين يعملان الآن في القطاع المصرفي السعودي.