المسلمون في حيرة من الجدل الفقهي حول العمليات الفدائية ضد الإسرائيليين

TT

هل الإسلام، يدعم التفجيرات الانتحارية، على المستويين السياسي والوجودي؟ يعتقد الكثيرون في الغرب، أن العالم الإسلامي اجاب على هذا السؤال، حينما وضع المهاجمين الانتحاريين في موضع الشهداء، ويساند هذا الرأي العديد من الأصوات في العالم الاسلامي.

يفترض البعض مثل البرلماني الكويتي أحمد الربعي أنه إذا كان قتل ألف إسرائيلي مدني، بواسطة التفجيرات الانتحارية، سيؤدي إلى إنهاء النزاع، فانها ستكون مبررة على أساس أنها ستساعد على إنقاذ حياة آخرين مستقبلا.

أما بالنسبة للرئيس الإيراني السابق، هاشمي رفسنجاني، فإنه على استعداد لقبول انتحار عشرة في المائة من المسلمين (وهذا يساوي 120 مليون نسمة) في حرب نووية، إذا كانت المحصلة النهائية إزالة إسرائيل من الخريطة. لكن الفيض الهائل من الرسائل الالكترونية والمكالمات الهاتفية، التي تسلمناها، والمتعلقة بهذا الموضوع، تكشف أن الأغلبية الساحقة ضد الهجمات الانتحارية وقتل المدنيين المتعمد. ربما يكون ذلك محض صدفة، لكن الكثير من أولئك الذين اتصلوا بنا، استخدموا ما يمكن تسميته بـ«خيار شمشون»، لدعم وجهات نظرهم المناصرة للقتل المتعمد للمدنيين ومن بينهم النساء والأطفال. وتستند وجهة نظرهم إلى الحجة التالية: الفلسطينيون دفعوا إلى اليأس الكامل نتيجة لسياسات آرييل شارون، وجرّاء ذلك قرروا تدمير كل شيء، مع أنفسهم أيضا.

ويذهب بعض المبررين للهجمات الانتحارية، إلى حد القول إن «أعمال شارون الشريرة قد دفعت باتجاه ظهور التفاني الإسلامي بأجلى صوره».

لنقف عند شارون كعامل وراء العمليات أولا، ثم نتناول «خيار شمشون». إذا كانت الهجمات المعنية، ناجمة عن تصرفات شارون، يكون آنذاك هو الدافع الاول لها، لذلك فنحن حينما نعظم العمليات الانتحارية، فإننا نعظم شارون. لكن، إذا كانت الهجمات الانتحارية، ظاهرة قائمة بذاتها ومستقلة عن سياسات شارون، فسنرجع انذاك الى نقطة الصفر: هل العمليات الانتحارية وقتل المدنيين مبرر إسلاميا؟

يقول البعض إن الفلسطينيين يمتلكون التبرير للقيام بالهجمات الانتحارية لأن إسرائيل تقوم بأعمال شريرة ضدهم، بل هم ملزمون بالقيام بردود فعل، بشكل مماثل أو أقوى منها. لكن هذا الموقف غريب على القيم الإسلامية. فحسب الإسلام لا يمكن محاربة الشر بوسائل شريرة. فباتباع هذا الأسلوب سيتم إزالة الخير أيضا، إضافة إلى تكوين تماثل بين شكلين من الأفعال الشريرة. وهذا لن تسمح به سوى منظومات القيم الزائلة، التي تسمح بمثل هذا التماثل. فإذا أصبحنا مثل شارون، فان شارون لن يكون حقق الانتصار فقط بل أصبح سلطة تقرر كيف يكون تصرفنا.

ملاحظة أخرى: الفلسطينيون لم يبدعوا الهجمات الانتحارية بعد وصول شارون الى الحكم. فقد استخدم التكتيك في اماكن اخرى: في لبنان في الثمانينات وفي كل من ايران والعراق في الثمانينات والتسعينات على يد الجماعات المعادية للحكومة، ومن اعضاء القاعدة في كينيا وتنزانيا واخيرا في واشنطن.

واستخدمت الهجمات الانتحارية ايضا في الهند الصينية في السبعينات عندما احرق الكهنة البوذيون انفسهم او قادوا سيارات ملغمة نحو مواقع الجيش. ووقعت عمليات مماثلة في كولومبيا. ولكن لم يحدث ان استهدف الانتحاريون المدنيين. كما استخدم المتعصبون الطائفيون الهجمات الانتحارية ضد بعضهم البعض في باكستان، وكان اخرها في الاسبوع الماضي حيث استخدمت لقتل 11 مهندسا في الاسطول الفرنسي.

ولنعد مرة اخرى الى خيار شمشون. ان اختيار قصة عبرانية لدعم موقف سياسي باسم الاسلام ليس بالشيء الغريب. وعلى كل حال فان قصة شمشون نفسها مقتبسة من قصة من ملحمة جلجامش السومرية اقدم ملحمة في العالم. فكل من انكيدو في جلجاميش وشمشون في القصة العبرية، ينتميان الى «الشعب المختار». وكل منهما شخص قوي ذو بأس وقوته البدنية اقوى من قوته الذهنية، وضعفت قوتهما عندما خضعا لسحر المرأة. وفي الحالتين حرم كل من البطلين المخدوعين من قوته، التي رمز اليها بقص شعره، وحرمانه من البصر. وهذا يدفع البطل الى الغضب والهياج الذي يؤدي به فيما بعد الى تدمير كل شيء في طريقه.

ولكن ما هو المفهوم الاخلاقي من هذه القصة؟ النقطة الاساسية هي ان قوة البطل هبة من الله. ويحرم من هذه الهبة عندما يبتعد عن طريق الله بمرافقة البغايا، وهن رمز الشيطان. ويصاب البطل بالعمى وهو ما يرمز لفقدان قوة التمييز. ولم يعد يفرق بين الخير والشر، ويتصرف مثل الوحش. والدمار والموت الذي يتسبب فيهما نتاج مباشر لتخلي الله عنه. وبكلمة اخرى: الشر يولد الشر. ولذا فإن خيار شمشون هو تحذير وليس مثالا يحتذى.

أما الذين يؤيدون الهجمات الانتحارية من منطلق سياسي لا يمكنهم تبريرها من المنطلق الديني. وهو امر ليس بالمدهش لانه لايوجد شيء في القرآن الكريم او الحديث او الفقة الاسلامي والتشريع عبر 14 قرنا يؤيد الانتحار في عمل متعمد لقتل المدنيين. توجد قواعد اسلامية، او على الاقل في الاحاديث والسنة، تتعلق بأكثر تفاصيل الامور الدنيوية. ولكن لا يوجد اي شيء، على الاطلاق، بخصوص قتل المدنيين عمدا والموت خلال ذلك. ان قضية بمثل هذه الاهمية لا يمكن التعامل معها عبر عدة خطب ومقالات، وفي اطار الرد على مشكلة معينة في وقت معين وزمان معين. ان الاسلام يحرم بوضوح الانتحار لاي سبب. وهؤلاء الذين ينتحرون يدفنون عادة في منطقة خاصة من المقابر الاسلامية لتحديد ما لحق بهم من عقاب.

ان المبادئ الاسلامية تحدد «خمسة ذنوب غير مغفورة»: اكل لحم البشر، والقتل، والانتحار، ومعاشرة المحارم، والاغتصاب. والمنطق وراء ذلك هو ان تلك الجرائم هي افعال شريرة لا يمكن ان تغتفر.

والافعال الجيدة في المبادئ الاسلامية هي الافعال التي يمكن للجميع ممارستها بسهولة نسبية. فعلى سبيل المثال، كونك طيبا وخيرا، هو امر في قدرات اي شخص.

عمل الخير يفيد الجميع في نهاية الامر. الشر، من الناحية الاخرى، ممارسته صعبة ويؤذي كل الناس بمن في ذلك من يمارسه.

ماذا يحدث على سبيل المثال اذا اقدم الجميع على الانتحار؟ لتفادي مثل هذه الاسئلة، تخلى المدافعون عن الارهاب عن كلمة «انتحاري» التي اطلقت في بداية الامر على «القنابل البشرية» عندما ظهرت اولا في لبنان عام 1983 واستخدمت حتى وقت قريب. ويدرك المدافعون انه ليس بوسعهم استخدام كلمة «شهيد» للقنابل البشرية، ذلك ان الشهيد مصطلح معقد لا يجب ان يخلط بمفهوم الشهادة في المسيحية. ففي الاسلام يعتبر الله «شهيدا» بمعنى شاهد على وحدة الخلق. الافراد لا يمكن ان يقرروا ان يصبحوا شهداء، فتحديد هذا الشأن من الله سبحانه وتعالى. هذا هو السبب في ان لقب «الشهيد» يحمله بضعة اشخاص فقط في تاريخ الاسلام وهم الاشخاص الذين سقطوا في معركة الدفاع عن العقيدة وليس سعيا لتحقيق اهداف سياسية.

ولتجنب هذه النقطة يستخدم المدافعون عن تكتيكات القنابل البشرية كلمة «استشهاد» من المصدر الاصلي «شهيد». كلفظة جديدة تعني «تنفيذ عمليات استشهادية»، لذا يستخدم لفظ «استشهادي» للتغلب على استحالة اعتبار منفذي الهجمات الانتحارية شهداء في الاسلام. ويدرك المدافعون عن القنابل البشرية انه ليس بوسعهم ان يهرّبوا خلسة مفهوما جديدا بادخاله الى المبادئ الاخلاقية في الاسلام حيث ينقسم النشاط البشري الى ست مجموعات: من الواجب الفردي او الجماعي في ناحية الى المحظور مطلقا في الناحية الاخرى. معظم النشاطات الانسانية تقع في منطقة رمادية يوصف نصفها بأنه «مباح» ونصفها الآخر بأنه «مكروه». من الواضح ان العمليات الانتحارية تقع في خانة المحرم. ولتغيير وضعها كمفهوم، يجب على المدافعين عنها التقدم بتعريف مع تحديد الاحكام وتثبيت الحدود وايجاد مكانها في الشرع والعرف وفي القرآن نفسه والحديث. مثل هذا الفهم يتطلب قدرا كبيرا من الاجماع بين المؤمنين وهذا ما لا يستطيع قادة الارهاب ضمانه. ولم يحدث ان اقر أي فقيه معروف في الاسلام كلمة «استشهاد» المراوغة رغم ان البعض تحدث على نحو متشعب. الكثيرون، في واقع الامر، ادانوا هذا التكتيك بأنه غير اسلامي. مفتي كل من الازهر ومكة اصدروا فتاوى واضحة ومباشرة ضد كل اشكال الارهاب، كما صدرت فتاوى مماثلة من كل من النجف وقم، أي من مركزي الدراسات الفقهية الشيعية. اعلنت وجهة نظر قم من جانب آية الله العظمى حسين علي منتظري. ففي فتوى نشرت في 28 ابريل (نيسان) الماضي قال منتظري: «قتل المدنيين بأي طريقة ولأي سبب يحرمه الاسلام»، كما ادان منتظري على وجه الخصوص «التفجيرات الانتحارية» لانها تقضي على حياة منفذها وحياة مدنيين ابرياء. رؤية السبب في ذلك ليست امرا صعبا. فالاسلام يحرم التضحية البشرية لاي سبب من الاسباب، اذ ان اكبر احتفال اسلامي يمثل ذروة شعائر الحج هو عيد الاضحى المبارك وهو يمثل اليوم الذي رفض فيه الله سبحانه وتعالى عرض سيدنا ابراهيم عليه السلام بالتضحية بابنه والاستعاضة عن ذلك بالاضحية التي تذبح في هذه المناسبة. فطالما رفض الله سبحانه وتعالى التضحية بالبشر من اجله لا يمكن ان يبيح ذات الشيء لتطوير استراتيجيات هذا الزعيم السياسي او ذاك. ويرفض الاسلام كذلك صلب المسيح لأن الله لا يقبل التضحية بالبشر كوسيلة لتكفير الذنوب. من محاسن الاسلام انه وضع نهاية محددة للتضحية بالبشر باسم الدين وهذه ممارسة ميزت غالبية الاديان منذ فجر التاريخ. ويصور البعض التفجيرات الانتحارية كعمل بدافع اليأس من جانب بعض الافراد، الا ان هذا يعتبر موقفا مخادعا.

الفتاة الانتحارية التي فجرت نفسها وسط ما يزيد على عشرة اسرائيليين في احتفال بعيد ميلاد، جندت وهي في سن 14 عاما وخضعت لعملية غسيل مخ على مدى عامين تقريبا. المراهق ربما يكون يشعر باليأس، ولكن تنفيذ هجوم انتحاري يتطلب التخطيط والحركة والمراقبة والادوات المستخدمة في صنع المتفجرات الى جانب المال، اي التنظيم بصورة عامة. حتى اذا اعتبرنا ان الفتيان والفتيات يعانون من اليأس، من الواجب على الاشخاص الراشدين علاجهم من حالة اليأس التي يعانون منها بمساعدة الوالدين. ولكن في حالة الانتحاريين يظل الوالدان خارج الصورة تماما. لا يستخدم المسؤولون عن تجنيد الانتحاريين اطفالهم، اذ ان اطفال الآخرين فقط هم الذين يموتون. شعار «الغاية تبرر الوسيلة»، ليس اسلاميا وانما ميكيافيلي. لم يكن الغرض من المبادئ الاخلاقية في الاسلام تطبيق القواعد عندما تكون مراعاتها والالتزام بها امرا سهلا، وانما وضعت خصيصا للاوقات التي يكون من الصعب فيها التمسك بالقواعد والالتزام بها.