الواقع الفكري المعاصر في المجتمعات الإسلامية يعاني من الجمود وغياب عناصر الإبداع والتجديد

د. نجاح كاظم *

TT

يتميز الواقع الفكري المعاصر في عموم البلاد الاسلامية بحالة من الجمود والركود وغياب عناصر الابداع والخلق والتجديد في هذا الجانب المهم مما يجعل حركة المجتمعات في هذه البلدان تتراوح في مكانها لا تتقدم بل احيانا نلاحظ تراجعها الى الوراء. ويتضح هذا الأمر جلياً في النواحي الثقافية والحضارية وانعكاساتها على التطورات الاجتماعية والتركيبات السياسية والفعالية الاقتصادية والانتاجات العلمية ويجعل الهوة تكبر ولا تصغر مع الدول المتقدمة التي تسير حثيثاً نحو الأمام. فهناك تفاوت واضح مع المجتمعات المتطورة في درجة الابداع والابتكار التي تمكنها من الانتاج الفكري المتواصل والضروري لفعالياتها المختلفة وفي عالم سريع الحركة ومتجدد الفكر. مجتمعاتنا لا تنتج فكراً ولا تعيش حالة حركة التجديد المتوقعة والمتناغمة مع متغيرات الوقت ومتطلبات العصر، ومعظم انتاجاتها الفكرية الزاخرة والمتنوعة تحققت في فترة معينة. ولا نجد اليوم تغيراً كبيراً أو انعطافاً جدياً في الجانب الفكري لاحداث النقلة النوعية المطلوبة. والذي نلمسه هو ترقيعات او تحسينات تمس القشرة الخارجية اذا صح التعبير ولا تتوغل الى العمق في تحقيق التغيير الجوهري في قلب عملية التفكير وهو العقل وانعكاساته على الأبعاد الواسعة للذهنية. العقل هو العمق الداخلي للانسان ومحور الذهنية وقوة الدافع الاساسية لعملية التفكير وانتاج الافكار بالطريقة البناءة والمرجوة والتفاعل ايجابياً مع محيطه الخارجي. السبات العقلي الذي يميز حالة شعوبنا اليوم يغلق الذهنية ويقوقع التصورات والآفاق ولا يسخر عملية التفكير بطبيعتها اليقظة والنافعة.

التفكير وعمليته المعقدة هو الصفة الاساسية التي ترقي الانسان عن باقي الحيوانات والمخلوقات، كما انها عملية غير مرئية أو مسموعة وانما تتجلى من خلال انعكاساتها على الانشطة البشرية.

عملية التفكير معقدة وغامضة ولحد الآن لم يفهم ميكانيكيتها أو آلياتها في العمل، وهناك كثير من النظريات والتفاسير لشرح ما يسمى بالعقل. اعطى العقل الانسان القابلية على تمييز الأمور ومكنه من الادراك والسعة في فهم القضايا وممارسة التعليل والمنطق والأسباب وانضجه كثيراً في جوانب المعرفة والعلم الذي ادى الى ارتفاعه عالياً وفي خط تصاعدي منذ بداية مسيرته جاعلاً منه السيد على هذه الارض. هذا معناه ان التفكير وافراز الافكار عملية ذهنية تتطور عند الجهد والممارسة الصحيحة وتعطي ثمارا كبيرة في انتاج افكار عالية تغير الواقع وتتحدى الخيال. وقد تكون احد الاسباب التي ميزت العظماء والفلاسفة عن باقي الناس خلال التاريخ وهذا السبب هو الاهتمام بعملية التفكير وادراكهم بأن الأفكار الكبيرة لا تأتي الا من المعاناة والجهد وعن طريق كثرة الاسئلة واعتبار وتقييم الاجوبة التي تمكن هذه العملية في نهاية المطاف من فرز الايجابيات عن السلبيات.

كما ان عملية التفكير وافراز الافكار هي تأكيد لذات الانسان وفي حالة وقوفها أو غيابها معناها الغاء وجود الانسان. وهذا هو الذي جعل ديكارت الفيلسوف والرياضي الفرنسي في القرن السابع عشر في استنتاج مقولته المشهورة «انا افكر انا موجود». اي اكد له الشك وجوده. والفكر حاجة ضرورية للانسان ومجتمعه وعند اشباع هذه الحاجة فإنها تمثل تحديا لنشأة الواقع أو كما يضعها توبينبي الفيلسوف والمفكر البريطاني «الفكر استجابة وتحد». ثم ان الأفكار وانعكاساتها انتجت الحضارات الكبرى وافرزت مواقع جديدة وتطورا هائلا وخبرة عميقة للحضارة الانسانية، يقول الكاتب نورمان كزنس «ان الفكر هو الطاقة الأساسية لتاريخ الانسان وتم بناء الحضارات والمدنيات بالافكار وليس بالمكائن والآلات».

يركز كتاب الله القرآن الحكيم على أهمية الفكر والتفكير وهبة الله عز وجل العقل للانسان، وبهذا نرى ان آياته تكثر من ذكر «افلا تتفكرون»،«افلا تعقلون» والأهم من ذلك يذكرها بصفة الجمع «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون». لأن الأفكار لا تنمو ولا تنضج إلا من خلال التلاقح والتفاعل مع بعضها بعضا. وهذا يعني ان الفكر مسؤولية المجتمع بكامله وان حاله لا يتجدد إلا اذا كان العقل يقظاً والمجتمع في حركة متواصلة ومستمرة.

الانسان نواة المجتمع واذا اصابه خلل أو نجاح فإنه سينعكس على مجتمعه «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» وأول آثار الخلل أو النجاح تكون ملموسة في عملية التفكير وطبيعتها. تراجع أو تقدم الانسان في عملية التفكير وطبيعته تؤثر في وضعه الخارجي أي بيئته أو محيطه الصغير الذي يعيش فيه. هذه البيئات الصغيرة أو الشبكات الاجتماعية هي الوحدات الصغيرة المؤلفة لنسيج المجتمع العام.

والترابط والتفاعل بين هذه الوحدات هي التي تخلق الحركة المطلوبة في المجتمع للتجاوب مع متطلبات الواقع ومتغيرات الوقت وتخلق المحفزات الضرورية للشعور بالحاجة الماسة للفكر. كما ان الممارسة والتجديد يمثلان قوة الشد والربط بين وحدات النسيج الاجتماعي وعاملا ديناميكيا لحركة المجتمع وتطوره.

كما تعمل التكنولوجيا الرفيعة جراء تعقيد المجتمع وبلوغ حركته درجة من النضوج في احداث الشد المطلوب بين شبكاته في تطوير ذات التقنية وبالتالي بلورتها بالشكل الذي نعهده الآن. وهذا ما يجعل التكنولوجيا العالية ذات صيغة جماعية وتمثل قيمها الجماعية كما هو واضح في الانترنت التي تعكس المساواة للجميع في الوصول الى منابعها ومصادرها للحصول على المعلومات والمعارف والاتصالات كميزة اخرى، للتقنية العالية أو الانترنت، هي ايصال المعلومات والافكار الى الاعضاء الآخرين في المجتمع. وهذا ما يسمح للعموم بمشاركة المعلومات والمعارف والخبرات وان تصبح المعرفة القاسم المشترك لاعضاء المجتمع مما يكثف عملية وعي الواحد بالآخر وتفاعل نتيجة الاتصال، الواحد بالآخر، التي تزيد في نهاية المطاف الحركة وانعكاس الفائدة على المجتمع ككل. سرعة تطور ونفوذ التكنولوجيا العالية تعتمد على ترابط الشبكات وقوة تماسكها لخلق التناسق المطلوب في نسيج المجتمع العصري. والتفاعل هنا متبادل بين المجتمع والتكنولوجيا المتطورة حيث الواحد يؤثر في الاخر والعكس صحيح فكلما ازداد الشد والربط، نتيجة المعلومات والمعارف والاتصالات، بين وحدات نسيج المجتمع وخلق الحركة المطلوبة للتناسق مع الترتيبات الافقية لمجتمع المعلومات والمعرفة تعمقت التكنولوجيا في تفاصيل المجتمع وازداد تعقيدها وتطورها مع مرور الوقت.

والشفافية السياسية، كالحرية أو الديمقراطية، هي انعكاس للترتيبات الافقية التي تفرزها التكنولوجيا العالية في المجتمع نتيجة غياب السلطة المركزية في تنظيمات الانترنت المتوازية (الافقية)، مما توفر للمعلومات والاتصالات احداث التفاعل أو التداخل المطلوب بين الوحدات الاجتماعية لتزيد من اواصر القوة في تماسك النسيج الاجتماعي. والتكنولوجيا عموماً والمتطورة خصوصاً هي غير سلبية أو ايجابية بحد ذاتها عند وصولها أو دخولها مجتمعاً معيناً وانما تأخذ حركة اتجاه ذلك المجتمع..

أين البداية؟ من الصعب تحديد نقطة البداية وفي مجتمعات تعاني من عدة مشاكل وقد يكون الانطلاق في خلق حالة من الشفافية السياسية التي تتوجه الى نشر ثقافة العلم وتطويرها كحالة سائدة تنعكس في ما بعد على الحالة الثقافية العامة للمجتمع التي تتضمن ثقافة التسامح وقبول الرأي الآخر. وردم الفجوة الثقافية بين وعي القلة وتخلف الكثرة. ودور المثقفين بالمبادرة والابداع وارساء القواعد الأساسية لاثراء الحياة الاجتماعية واحداث الحالة الثقافية العامة في المجتمع. ودور الحالة الثقافية في الانتاج الفكري والبحوث العملية التي تعنى بالواقع وتحدياته الكبيرة، واغناء المجتمع من خلال عقد الندوات الثقافية في ترشيد الحالة العامة للمجتمع، وزيادة المؤسسات المتخصصة ذات الآثار البالغة في المجاميع المثقفة وبالتالي ترك بصماتها على المجتمع. انعكاسات الواقعان الفكري والثقافي مع نضج المجتمع وحركته الافقية هي التي تطور فعاليات الانسان الاخرى في المجالات السياسية والاقتصادية والحضارية اضافة الى جانب التعليم والتدريب وأثرهما في تطور ونفوذ التكنولوجيا في تفاصيل مجتمع المعرفة.

* الأستاذ في جامعة لستر البريطانية