من المسؤول عن 11 سبتمبر؟.. رواية بعض ما جرى

علي العميم

TT

تنازعت الدولة السعودية عبر أطوارها الحديثة وهيمنت عليها فكريات ثلاث، هي: الفكرية الدينية السلفية ـ وهي فكرية الدولة الأساسية والأصلية ـ والفكرية اليمينية المحافظة، وفكرية الإخوان المسلمين. وكان يُعمل بكل من هذه الفكريات الثلاث حيناً على نحو متواز، وحيناً بتغليب واحدة على الأخرى. وذلك وفق التحديات التاريخية الموضوعية المفروضة على السعودية، إما من داخلها المحلي، وإما من خارجها الإقليمي.

الفكرية اليمينية المحافظة، وإن كانت مختلفة وفكرية الإخوان المسلمين في المنطلقات والأسس وأكثر تقدمية منها في بعض النواحي، إلا أنها كانت متداخلة معها ـ إلى حد ـ أن فكرية الاخوان المسلمين كانت مصدر استلهامها الايديولوجي. وهذا ما كان يجعل السعودية ايديولوجياً في بعض مراحل تاريخها تبدو للآخرين وكأنها دولة إسلامية أكثر منها دولة عربية! ولا شك أن هاتين الايديولوجيتين الوافدتين على السعودية من جوارها العربي، واللتين استعانت بهما الحكومة أفادتهما على نحو مزدوج، إذ كانتا من ناحية ندا مكافئا لاستهدافها السياسي والايديولوجي من قبل الأنظمة القومية العربية الاشتراكية والحركيات العربية اليسارية، ومن ناحية أخرى كانتا «خاصة فكر الإخوان المسلمين» وسيلتها الناجعة ـ على مستوى الحجاج والسجال الديني ـ في التغلب على المعارضة الدينية المحلية السلفية، لإدخال أي شكل من أشكال التحديث والتطوير للمجتمع السعودي.

والسجال بين هؤلاء وأولئك ـ كما هو معروف ـ ليس قاصراً على السعودية ذات الإرث السلفي القار، وإنما يشمل بلدانا عربية وإسلامية عديدة.

فالسجال كان يثور بينهم «حتى بين السلفيين أنفسهم!» لأسباب لاهوتية ومدرسية. ولسبب آخر يتعلق بالوعي الحديث والمعاصر، إذ أن الحركيات الايديولوجية المحدثة «ومنها الإخوان المسلمون» ـ على محافظتها وأصوليتها ـ هي أشد وثاقة وأمتن صلة بالوعي الحديث والمعاصر من السلفيين الخلّص الذين يعيشون في تلك البلدان.

ولم يكن للسعودية، نظاماً سياسياً، بدٌ من تبني فكر الاخوان المسلمين، بوصفه فكراً متمماً ومكملاً لفكرها الديني السلفي، وذلك لأن فكرها الديني السلفي، ينطوي على فراغات هائلة، ويعتريه نقص فادح في ما يتصل بتحديات الحياة الحديثة في مختلف مناحيها.

وفكر الإخوان المسلمين ـ وظيفياً ـ كان يتكفل بانجاز مهمة ملء الفراغ وسد النقص الذي يعتور النسق السلفي المحلي.

ففكر الإخوان المسلمين فكر اسلامي حالي وآني مهجوس بالشيوعية والاشتراكية والقومية والليبرالية وكل التيارات الوافدة من الغرب في علم اللغة والأدب والثقافة والفن والفلسفة والاجتماع والاقتصاد الخ.. فهو، فكراً وايديولوجيا، نشأ بوصفه ردة فعل اسلامية محافظة على التغريب والعلمنة اللذين كان لهما حضور بارز في مصر ابان عشرينيات القرن الماضي، بينما النسق السلفي المحلي ـ في الفترة التي أتحدث عنها ـ كان فكراً تليداً، يعيش في الماضي، وللماضي.

في فترة سعودية لاحقة، وهي فترة سبعينيات القرن الماضي، نظراً للتجاور والتساكن والتعايش والخلطة بالحسنى بين الفكرين: الاخواني والسلفي، اكتسب الفكر السلفي حيوية الفكر الإخواني وفاعليته من ناحية تفعيل دوره الاجتماعي والثقافي والتربوي، وعدم الاقتصار على الدور المسجدي العبادي والعلمي والوعظي المحدود.

في تلك الآونة إلى ما بعد منتصف العقد الذي يليها، كان الاخوان المسلمون، سواء أكانوا سعوديين أم غير سعوديين، يميلون إلى سياسة احتواء الفكر السلفي ورموزه في السعودية وفي خارجها، وكانوا يعاملونهم بمنتهى التبجيل وغاية اللطف والرفق واللين، وذلك لجذبهم الى صف سياساتهم وإلى جانب فكرويتهم، إن لم يكن تأييداً على الأقل تحييدهم سكوتاً، بحيث يضمنون أنهم لن يشددوا على اختلافاتهم وخلافهم معهم دينياً.

لأن تشديداً كهذا سينجم عنه التأكيد على عدم سوّية واستقامة وصراطية عقيدة الإخوان المسلمين.

والإخوان المسلمون من سجيتهم الايديولوجية وسم نهجهم الحزبي عدم الايغال في متاهة التشقيقات العقدية.

وكانت تقف وراء سياسة الاحتواء المُلاينة هذه التي اتبعوها مع الفكر السلفي ومشايخه، مجموعة من الأسباب، هي:

1 ـ أن فكرهم في نسخته القطبية والمودودية هو المعمول به في مناهج تدريس العلوم الدينية، وفي مناهج الثقافة الإسلامية وفي قراءة التاريخ الإسلامي، كما أن جمعيات التوعية الدينية والمناشط اللامنهجية والمراكز الصيفية كانت تصاغ العقليات، عقائدياً وثقافياً وتربوياً، فيها وفق رؤيتهم الحزبية والايديولوجية. وهذ مكسب كبير يجب العض عليه بالنواجذ.

2 ـ أن الفكر السلفي بمشايخه كان يشهد ذروة صعوده الجماهيري سعودياً، وأي انزلاق إلى سجال واضح وجدل صريح معه سيـؤثر على شعبيته وجماهيريته التي كانت هي الأخرى في ذروتها لدى السعوديين.

3 ـ إن الحكومة السعودية في تلك الآونة استحضرت الفكروية الدينية السلفية بكثافة وقوة، وعلى هذا لم يكن من الحذاقة السياسية فتح ملف اختلافاتهم وخلافهم مع نموذجها السلفي.

والسعودية في تلك الآونة، حكومة وبلداً وشعباً وأفراداً ومؤسسات، داعم سياسي ومالي واجتماعي وثقافي وفكري لهم.

ولعل من أسباب استحضار الحكومة السعودية، الفكروية الدينية السلفية، بكثافة وقوة أنها واجهت في عامي 1978 و1979، تحديين سياسيين من لون جديد، وهي المعتادة من عقود طويلة على التحدي السياسي الذي يصطبغ بالعلمانية.

التحدي السياسي الأول يتمثل في الثورة الايرانية التي طرحت اسلاماً راديكالياً ثورياً معادياً لأميركا ولأصدقائها في منطقة الشرق الأوسط، فبادأت السعودية بالعداء.

والتحدي السياسي الآخر كان داخلياً، وذلك حين احتل الحرم المكي احتلالاً عسكرياً مسلحاً من قبل جماعة جهيمان العتيبي ـ وهي جماعة أصولية سلفية حديثة ـ متكئة في ذلك على عقيدة المهدي المنتظر لتسويغ خروجها على طاعة ولي الأمر، وكان من بين حيثيات خروجها ذكر شكليات سلفية! الحكومة السعودية عالجت عداء ايران القومي المذهبي السافر لها بالاستحضار القوي والمكثف للفكروية الدينية السلفية والتي تقوم من بين ما تقوم على المفاصلة المذهبية التي لا لبس فيها ولا مداجاة، وذلك لتطويق الغواية الفارسية المتلفّعة بأممية الاسلام.

وعالجت التحدي الديني المتزمت والمتطرف الذي واجهها في الداخل بزيادة الجرعة السلفية وترسيخ شكلياتها.

وفي سنة 1980 غزا الاتحاد السوفياتي أفغانستان. فأحييت شعيرة الجهاد الاسلامي في وسط اجتماعي مُعبأ دينياً وثقافياً وايديولوجياً بركام نظري ممنهج في المناهج الدراسية وخارجها، أن اسلام دولته ومجتمعه اسلام طقسي وشعائري وليس هو الاسلام في كليته وشموليته! وأن اللوائح والأنظمة ـ والتي هي تفاصيل اجرائية حديثة وليس فيها افتئات على سلطان الشريعة الاسلامية ـ ياسق جديد! ومظاهر عادية وبسيطة في دولته ومجتمعه وبلدته وبيته ومكتبه، يعتبرها جاهلية جديدة وضلالا مبينا وخروجا صريحا على الإسلام! هؤلاء هم الذين شكلتهم ثقافة ومحاضن دينية بشقيها السلفي والإخواني كانوا مجتمعاً داخل المجتمع. ومجتمعهم هذا هو المجتمع الاسلامي الصحيح، لكن ما ينقصه هو دولة الاسلام التي طال انتظارها! وكان الجدل في ما بينهم حول أيهما أولى: الخروج والجهاد في الداخل، أم الخروج والجهاد في افغانستان؟ وجدلهم هذا ليس ترفاً أكاديمياً، إنما قضية عملية اسلامية حارقة! وكانت أي محاولة لتفسير الجهاد الأفغاني وفق التحليل السياسي والمعلوماتي المباشر، بأنها حرب بين أميركا والاتحاد السوفياتي، كفرا بواحا، ولم يكونوا وحدهم في هذا، بل تشترك معهم غالبية السعوديين. حتى ومفهوم الجهاد الأفغاني يتفكك ويتحلّل ويتفسخ لا أحد يريد أن يعقل ماذا كان يجري في افغانستان.

فأساطير ومعجزات وغرائبيات وعجائبيات الجهاد الأفغاني التي حتى لم تجترح في الجهاد النبوي، يجب أن تظل في صلابتها وتماسكها أقوى من الحقائق المادية الصادمة! وقبيل ذلك الجهاد بسنوات عدة، أسفر اللقاء بين الفكر الإخواني والفكر السلفي ـ والذي كان يحظى برعاية رسمية ـ عن نشوء اسلام سعودي حركي غير رسمي ذي طبيعة اجتماعية وتربوية وثقافية، وكان اسلاماً مسيساً ومؤدلجاً، وكانت بؤرة وميادين نشاطه الحافل المساجد ومكتباتها والمدارس والجامعات والمراكز الصيفية والمكتبات العامة.

وكان الاسم العام لهذا الاسلام هو الصحوة الدينية أو الاسلامية.

وكانت هذه الصحوة تحمل في داخلها تيارات واتجاهات غير متصالحة في ما بينها الى حد النفرة والصراع العقدي السافر. وكان منها ما هو من نبت هذه الأرض، ومنها ما هو مستزرع فيها.

أما أهمها وأعظمها وأدقها خطراً، فكان تيار السرورية، نسبة إلى محمد سرور بن نايف زين العابدين، وهو اخواني سوري، والذي هو بكلام عام: فكر توليفي يجمع ما بين الوهابية التيمية الحنبلية «دون الأخذ بمعتقدها السياسي»، والفكر الاخواني في نسخته القطبية «مع الافتراق عنه في نظرته لخلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة بني أمية»، ومحازبة سياسية للفكر الجهادي الذي ولد في سجون الناصرية وبزغ نشاطه في مصر السادات، أوائل سبعينيات القرن الماضي.

قلت عنه انه أعظمها شأناً وأدقها خطراً لأنه هو التيار الأعرض جماهيرية وشعبية في تلك السنوات، وكان له مشايخه الكبار ومثقفوه المؤثرون.

وسيرة هذا التيار ذي الشعبية العريضة، قائمة خطاباً وعملاً، على تعبئة وتحشيد وتجييش في مواجهة المجتمع والدولة سعودياً وعربياً. وذلك على أساس أن المجتمع والدولة سعودياً وعربياً يتراوح واقعهما بين اللاإسلامية والنقص الفادح والخطير في تجسيد الاسلام وتطبيقه.

وكان هذا التقويم وهذه النظرة للمجتمع والدولة ـ السعودية مثلاً ـ يجري وفق محاكمة نواح سياسية واجتماعية وثقافية ـ هي باعتقادهم ـ لا تتطابق والرؤية الدينية الحنبلية السلفية، ولا تتماشى والرؤية الايديولوجية الشمولية «التوتاليتارية» لمن يصطلح على تسميتهم: بـ«الاسلاميين».

وحين جرت مواجهة أمنية بينهم والسلطة السعودية كانوا هم المتسببين بها، أسفرت هذه المواجهة عن حملة اعتقالات لهم ولمنتمين لتيارات دينية أخرى. وقد نشأت عن اعتقالهم شبه انفراجة اجتماعية وثقافية في المجتمع السعودي.

وبعد اطلاق سراحهم، خفف بعض قادتهم وأشياعهم النشطين من غلوائهم وتزمتهم. لكن هدم دولة طالبان الاسلامية المظفرة لتمثال بوذا، وعملية 11 سبتمبر الانتحارية التي نفذها تنظيم القاعدة والتي قادت اميركا إلى ازالة دولة طالبان وتنظيم القاعدة، أعادا في الروح الخامدة لفترة لدى طائفة كبرى من السعوديين، ذلك الوهج عن الجهاد الذي لم يكن.

وما أمر على الناس من إلغاء أساطيرها التي تعتقد أنها تمشي على قدمين! وهدم تمثال بوذا كان الهدف المباشر منه الاحراج السياسي للسعودية والاحراج العقدي لعلمائها. فالأصنام والأنصاب والأزلام والتماثيل حتى لو كانت لغرض أثري وفني جمالي تستدعي ذاكرة البدء الاسلامي، وتستحضر عوداً دعوياً إسلامياً آخر يحس ناحيتها بالمقت، وفي أحسن الحالات باللامبالاة.

إني أسألكم في خاتمة هذه الثرثرة: يا ترى من كان المسؤول؟! أم أنكم مثلي لا تجرؤون على تسديد سباباتكم إليه، وذلك لأن في افواهكم ـ كما في فمي ـ ماء.