الشوكاني الإمام المجدد في كتاب جديد لباحثة جزائرية

TT

شهدت نهايات القرن الثامن عشر الميلادي وحتى نهاية القرن التاسع عشر معالم نهضة اسلامية تمثلت في المجددين الذين ظهروا في الجزيرة العربية ومصر والشام وليبيا والمغرب العربي، ففي الجزيرة ظهر الشيخ محمد بن عبد الوهاب كصاحب مدرسة جديدة في التوحيد، ونبذ الشركيات وتنقية اصول وفروع الاسلام مما علق به من شوائب، كذلك بدأت معالم النهضة جلية في مصر، حيث ظهر كل من الشيخ محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا، كذلك كان لدور محمد أحمد المهدي في السودان، والسنوسي في ليبيا اثر واضح تمثل في العودة الى اصول الاسلام الصحيح، وقيادة شعوب تلك المنطقة لطرد الدخلاء، بعد تنقية ما شاب العقيدة من رواسب علقت بها، بيد ان الامام محمد بن علي الشوكاني 1760 ـ 1834، الذي ولد بالقرب من العاصمة اليمنية صنعاء بزّ اهل عصره، حيث قاد ثورة فقهية شعارها «الدعوة الى الاجتهاد ونبذ التقليد» في فترة استحكمت فيها عوامل الضعف والتخلف والاضطراب في جميع مجالات الحياة الاسلامية، السياسية ـ الفكرية ـ الدينية.

وقد صدر حديثا مبحث جديد للكاتبة الجزائرية حليمة بو كروشة بعنوان «معالم تجديد المنهج الفقهي ـ أنموذج الشوكاني» تنشره سلسلة كتاب الامة التي تصدر عن وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية القطرية يتناول حياة الشوكاني وثورته الفقهية، وتجديده للمنهج الفقهي، ودعوته لتحرير العقل الفقهي من القيود، ونبذه للتقليد.

ليست حليمة بو كروشة اول من تناول شخصية الامام الشوكاني فقد سبقها محمد الغماري باطروحته للدكتوراه التي قدمها في عام 1980 من القرن الماضي بعنوان «الإمام الشوكاني مفسرا» كما قدم عبد السلام ابو المعاطي اطروحته لنيل الدكتوراه بعنوان «الشوكاني وجهوده في الحديث» كذلك كانت رسالة الدكتوراه لعبد الغني الشرجي تحت اسم «الآراء التربوية عند الإمام الشوكاني» التي قدمها في عام 1985، كذلك ألف الدكتور عادل محمد علي كتابه «الإمام الشوكاني.. سيرته وفكره» تناول من خلاله مصادر المعرفة ومناهج البحث فيها عند الشوكاني، وأخيرا اصدر الدكتور حسن العمري كتابا بعنوان «الامام الشوكاني رائد عصره: دراسة في فقهه وفكره» يتكون من ستة اجزاء تناول فيه سيرته وعلمه مع اجتهاده وفقهه، وتفسيره وغيرها، اذن نحن امام شخصية عبقرية ليست سهلة، بل مؤثرة وملهمة ومجددة. قسمت الكاتبة مبحثها الى خمسة فصول، تناولت في الفصل الاول بصفة عامة الاطار المعرفي والمقدمات المنهجية مع ابراز الخلفية التاريخية لواقع الفقه الاسلامي التي استثنت منها الكاتبة عصر البعثة النبوية لأنه عصر بناء وتأسيس التشريع الاسلامي، حيث ركزت على عصر الصحابة الذي تطور فيه الفقه، خاصة بعد انتشار الاسلام في بلاد مختلفة الثقافات والعادات، فيما عرجت على عصر التابعين الذي شهد حركة حضارية ودعوية ما كان له الاثر البالغ في تطور الحياة الفقهية التي ساعدها اجواء الاحتكاك الحضاري بين المسلمين والشعوب التي دخلت الاسلام آنذاك، واخيرا عصر نشأة المذاهب الاسلامية، حيث جدت في العالم الاسلامي بعد منتصف القرن الرابع الهجري عوامل سياسية وعلمية واجتماعية جعلت مبدأ التقليد، يحل محل الاجتهاد في المنظومة الفقهية، فيما خصصت بو كروشة الفصل الثاني لدراسة الاطار التاريخي والاجتماعي لنشأة الشوكاني، قسمتها الى ثلاثة مباحث تناولت فيها التعريف بالامام الشوكاني وعصره، والعوامل المحددة لظاهرة التجديد عنده، ومشاركة الشوكاني في الحياة العامة.

أما الفصل الثالث من الكتاب فقد لمحت فيه الكاتبة الى أسس التجديد المنهجي الفقهي لدى الشوكاني، وتحريمه للتقليد ودعوته للاجتهاد، فيما كان الفصل الرابع خصص لمظاهر التجديد الفقهي عند الشوكاني، مع اعطاء لمحة وتقويم عام لنظرية التجديد الفقهي عند الامام. واما الفصل الخامس والاخير من الكتاب فقد أوردت الباحثة فيه المحددات المنهجية للبحث في تجديد المنهج الفقهي التي قسمتها الى خمسة ابواب وهي الفصل في مفهوم تجديد المنهج الاصولي، وضبط اشكالية تعليل الاحكام، واستحداث أطر جديدة في التصنيف الفقهي، مع ايراد الموضوع الفقهي، ودراسة اشكالية انفصال مؤسسة الاجتهاد عن سلطة التشريع في الدولة الحديثة.

وخلصت حليمة بو كروش الى ان اهمية دراسة نموذج الشوكاني في التجديد الفقهي تنبع من كونه نشأ في عصر استحكم فيه التقليد على التفكير الفقهي، والاثر الذي تركته الحركات الاصلاحية الحديثة في المشرق مثل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومحمد عبده، والمغرب مثل السنوسي وغيرهم، كما خلصت الى ان شخصية الشوكاني التجديدية ما هي إلا نتاج حياة علمية مغايرة للانماط الفكرية السائدة في عصره، وان نظريته في التجديد قامت على أسس منهجية ثلاثة هي: تحريم التقليد والدعوة الى الاجتهاد، وتحقيق علم اصول الفقه، وتجديد منهجية الدراسات الفقهية، واوضحت الكاتبة ان تقييمها لنموذج الشوكاني الفقهي التجديدي ضمن اطاره التاريخي، وكذلك ضمن أطر المحددات الزمانية والمكانية التي عاشها يعود في رأيها الى ادراكه لطبيعة الازمة التي عاشها التفكير الفقهي في عصره.

واختارت الكاتبة هذا الموضوع المنهجي لبحثها، رغم دقته وصعوبته من حيث الاحاطة بجميع جوانبه، واستطاعت ان تتقدم به خطوات، ويعد الكتاب محاولة جادة من الباحثة لدراسة منهج الشوكاني الفقهي الذي استطاع الى حد بعيد تحريك العقول واختراق الحواجز النفسية لثقافة التقليد والجمود.