لا غرر في التأمين التجاري ولا جهالة

د. عبد الهادي الحكيم

TT

يذهب القائلون بعدم مشروعية عقد التأمين التجاري الى ان عقد التأمين التجاري من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية المشتملة على الغرر الفاحش، وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن بيع الغرر ولذلك فهو عقد غير مشروع. وقد نوقش دليل القائلين بعدم مشروعية عقد التأمين التجاري لاشتماله على الغرر بمناقشات عدة، اهمها ان القدر المتيقن من نهي النبي صلى الله عليه وسلم في حديث «نهى النبي عن بيع الغرر» هو النهي عن بيع الغرر، لا النهي عن مطلق الغرر والتأمين التجاري ليس بيعا ليشمله النهي المتقدم. يقول محمد بن الحسن الحجوي المالكي «هذا الحديث له مفهوم مخالفة في لفظ بيع، فما كان بيعا، فهو منفي عنه منطوقا، وما كان غير بيع، فهو مباح مفهوما، وهذه المعاملة لا بيع فيها وفيها غرر، فهي مباحة.

ومفهوم المخالفة ما عدا اللقب عند المالكية والشافعية والحنابلة مقدم بشروط على القياس والاستدلال، لانه من باب المسموع الذي هو مقدم على المعقول، ولا نذهب للمعقول الا لضرورة عدم المسموع.. وهذا المفهوم يؤيده المعنى المقصود من تشريع الحكم، وذلك ان الشرع يمنع الغرر في البيع، لانه اضاعة لاحد العوضين على احد المتعاوضين دون الآخر. هذا يجري على اصل مالك والشافعي وابن حنبل من تقديم الكتاب او السنة منطوقا ومفهوما على القياس والاستدلال.

اما اذا ذهبنا مذهب القياسيين الذين لا يرون مفهوم المخالفة دليلا، فاننا ننظر اقرب الاشياء المنصوصة شبها به فنقيس عليها، ولا سبيل لقياسه على البيع. ولو سلمنا بتجاوز النهي عن بيع الغرر في الحديث النبوي الى غيره من المعاوضات الاخرى فان «الغرر المنهي عنه» هو الذي يحوّل عقد البيع من اصله الذي شرع له كطريق لمعاوضة محدودة النتائج والبدلين الى طريق للكسب قائم على المخاطرة، بحيث يكون الربح لواحد والخسارة لآخر. ويظهر ذلك في البيوع التي نهت عنها الشريعة الاسلامية كبيع المضامين والملاقيح. وضربة القائص، وضربة القانص، وبيع الثمار على الاشجار قبل بدو صلاحها، وما هذه البيوع الا تطبيق عملي للغرر الذي تريد الشريعة ان تصان منه العقود. ولذلك قرر الفقهاء عدم انعقاد بيع شيء لا يقدر البائع على تسليمه، كبيع طير في الهواء وسمكة في ماء». ثم انه يظهر من هذه البيوع ايضا ان الغرر فيها غرر فاحش، ولا يجادل في ذلك احد، وانه يجعل العقد كالقمار المحض، وعليه فانه لا يصلح ان يكون اساسا يعتمد عليه في الحياة الاقتصادية وفي المعاملات المالية.

اما اذا كان الغرر دون ذلك، فانه لا يؤثر في العقد ذلك ان عنصر المغامرة والمخاطرة والاحتمال في حدوده الطبيعية قلما تخلو منه اعمال الانسان وتصرفاته المشروعة، وقلما تخلو منه طبيعة الاشياء. ولذلك فان كثيرا من المعاملات التي اقرتها الشريعة منطوية في بعض جوانبها على جهل او مغامرة او مخاطرة لاحتمال عدم تحققها، او عدم تحقق ما من اجله انشئت او ما في احد عوضيها من الجهل بمقداره وان حددت فيه النسبة، كما هو الحال في الشركة والمضاربة والمزارعة واستئجار شخص للحراسة او خدمة الاضياف.. ومع كل ذلك شرعت هذه المعاملات، ولم يضر بصحتها هذا الجهل بعد تعيين الحصة او ما شاكل».

اضافة الى ذلك فان الغرر الذي عدّه الفقهاء مانعا من جواز المعاملة هو ما ادى الى نزاع،يدل على ذلك ما روي عن زيد بن ثابت: كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعون الثمار، فاذا جدها الناس وحل تعاطيهم، قال المبتاع: انه اصاب الثمر عاهات يذكرونها ويحتجون بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كثرت عنده هذه الخصومات: «لا تتبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر» وليس في التأمين التجاري غرر كثير يؤدي الى نزاع، وليس في عمل شركاته سفاهة وجهل مطلق لتمنع لانها لا تقوم اعتباطا ومن دون حساب دقيق وشروط خاصة تضعها، تضمن لها الربح الاكيد والكثير اذا ما قيس ببعض ما قد تخسره لطالبي التأمين عند وقوع الحاديث.

وقد ذهب الشيخان محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي، ومصطفى احمد الزرقاء، وكلاهما من فقهاء المذاهب الاربعة، وهما يناقشان موضوع الغرر في المعاوضات، الى ابعد من ذلك حين قررا ان الغرر هو عدم الاقدام على معاملة التأمين لا في التأمين.

يقول الشيخ الحجوي المالكي: ان الذي افتى بكونها غررا او اضاعة للمال لم يحرر المناط ولا هدى لطريق الاستنباط، بل الغرر كل الغرر في منعها وتركها، وانما صيانة اموال الناس في اباحتها».

ويقول الشيخ مصطفى احمد الزرقاء: «ان عقد التأمين هو الذي يزيل حالة الغرر من الوضع الاقتصادي للاشخاص.. فالغرر هو في عدم التأمين وليس في التأمين بالنسبة الى ثروة الانسان. ولو سلمنا جدلا بان الطريق الذي يسلك لتحقيق هذا الامان على ثروة الانسان. وهو عقد التأمين، فيه شيء من الغرر، لكنه لا يؤدي الى نزاع، وانه غرر اصغر لنفي ذلك الغرر الاكبر».

يقول آية الله السيد علي الحسيني السيستاني من فقاء المذهب الجعفري جوابا عن سؤال وجهته اليه اسأله فيه عن قول بعضهم: ان عقد التأمين التجاري ينطوي على غرر، والغرر منهى عنه فأجاب بقوله: «لم يثبت ان الغرر يخلُ بالصحة في مطلق العقود» علما بان هذا هو مبنى المشهور من فقهاء المذهب الجعفري. كما نفى وجود الغرر في عقد التأمين من فقهاء المذهب الزيدي السيد محمد عبد الله عوض الضحياني، والشيخ صلاح بن احمد، ومن فقهاء المذهب الاباضي: الشيخ بلحاج محمد بن بابه. وخلاصة القول: ان عقد التأمين التجاري ليس فيه من جانب كل من طرفي العقد غرر ليقال بعدم مشروعيته.

فالمؤمن له يحصل على الامان الفعلي نتيجة لتعهد المؤمن والتزامه الفعلي بتحمل الخسارة عنه لو وقع الخطر المؤمن منه. وشركات التأمين التجاري تأخذ قسطا محددا لوقت محدد، وتدفع مبلغا محددا لو وقع ما تعهدت بتدارك خسارته وفق شروط خاصة، متخذة من حساب الاحتمالات وقانون الكثرة وقواعد علم الاحصاء طريقا لضبط الاخطار ومعرفة درجة احتمال حدوثها. وبذلك يتأسس نظام شركات التأمين على قواعد علمية رصينة تنأى بنفسها عن الحظ والصدفة، وتبتعد عن المخاطرة والقمار.

وليس ادلّ على دقة تلك الحسابات من تحول التأمين الى علم يدرس في الجامعات ومراكز البحوث في شتى بقاع العالم. وليس ادل عليه كذلك من تغلغل عقوده الكثير من اوجه النشاطات الاقتصادية في كل مكان حتى اصبح حاجة اقتصادية للشركات الكبرى لا يمكن الاستغناء عنها وضرورة اقتصادية فيما بين الدول. وحسبك ان يقول بعض الاقتصاديين ان ما جنته وتجنيه شركات التأمين التجاري من ارباح طائلة جعلت ميزانيات بعضها تنافس ميزانيات بعض الدول.

فأين هذا كله من الغرر؟ اضافة الى ان هناك حالات من الغرر في عقود اقتصادية قبلها الناس وجروا عليها في معاملاتهم ودخلت في شبكة العلاقات الاقتصادية بحيث ان العرف يغتفر هذا الغرر. ولو نحيت جانبا ما انتهيت اليه من نتيجة، وانسقت مع القائلين بوجود الغرر في عقد التأمين التجاري، وان الغرر المنهى عنه هو الغرر الفاحش المؤدي للنزاع في المعاملات، ثم شككت في شمول ادلة النهي عن بيع الغرر لعقد التأمين التجاري، وعرضت الامر على المباني الثابتة في علم اصول الفقه، لانتهت بي الى ان الغرر المنهى عنه لا يشمل عقد التأمين التجاري، وذلك من خلال التمسك بالعام في الشبهة المفهومية للمخصص المنفصل.

بتقريب ان هناك ادلة عامة او مطلقة تشمل افرادا عديدين من قبيل «اوفرا بالعقود» وهناك ادلة مخصصة لمثل هذه العمومات من قبيل استثناء العقود الغررية من حكم «اوفوا بالعقود». والادلة المخصصة او الادلة الخاصة تارة تكون واضحة المفهوم ومعلومة المصاديق، واخرى تكون هناك شبهة في مفهومها او مصاديقها. فهناك عام يقول: «اوفوا بالعقود»، والمفروض ان المراد هو العقود العرفية، اي التي يؤمن العرف بانها عقود تامة، وهناك خاص يقول بعدم الوفاء بالعقود الغررية، ووقع الشك في مفهوم الغرر، وهو شك بين الاقل والاكثر، اي لا نعلم بان الغرر هل يختص بالغرر الفاحش المؤدي للنزاع عادة، والاكثر هو الاعم منه ومن انواع الجهل الاخرى.

يقول علماء اصول الفقه في مورد كهذا: بان اجمال الخاص لا يسري الى العام، ويصح التمسك بأصالة العموم لادخال المجمل او المشتبه فيه في حكم العام. او بعبارة اخرى: ان العام المخصص بالمنفصل ينعقد له ظهور في العموم، واذا كان يقدم عليه الخاص، فمن باب تقديم اقوى الحجتين، فاذا كان الخاص مجملا في الزائد على القدر المتيقن منه، فلا يكون حجة في الزائد لانه ـ حسب الفرض ـ مجمل لا ظهور له فيه، وانما تنحصر حجيته في القدر المتيقن، وهو الاقل، فكيف يزاحم العام المنعقد ظهوره في الشمول لجميع افراده التي منها القدر المتيقن من الخاص، ومنها القدر الزائد عليه المشكوك دخوله في الخاص، فاذا خرج القدر المتيقين بحجة اقوى من العام، يبقى القدر الزائد لا مزاحم لحجية العام وظهوره فيه.

وبناء على ذلك فلو شككنا في مفهوم الغرر، وترددنا فيه بين الاقل والاكثر امكننا التمسك بعموم قوله تعالى: «يا ا يها الذين آمنوا اوفوا بالعقود». وغيره من العمومات والاطلاقات المصححة للعقود العرفية لتشمل موردنا هذا من دون معارضة الدليل الذي اكتفته شبهة مفهومية، لما تقدم من بيان علماء اصول الفقه. وبموجب ذلك وما سبقه فليس في عقد التأمين التجاري غرر يخل بصحته ويدعو الى التوقف منه.