ليس في عقد التأمين التجاري ربا فضل ولا نَسَاء

د. عبد الهادي الحكيم

TT

ذكر القائلون بعدم مشروعية عقد التأمين التجاري انه يشتمل على الربا بنوعيه: ربا الفضل وربا النَسَاء، وذلك من خلال الامور التالية: الأمر الأول: «ان ما تدفعه شركة التأمين، إما ان يكون أقل او أكثر او مساويا لما قبضته منه بدل التأمين، وهذا الدفع لا يكون إلا بعد فترة من قبض المؤمن لبدل التأمين او قسط منه، فإن كان التعويض اكثر من بدل التأمين كان فيه ربا الفضل من جهة، وربا النساء من جهة اخرى. وان كان مساويا ففيه ربا النساء، وعلى ذلك فإن التأمين فيه ربا الفضل، او ربا النساء، او كلاهما معا، ومعلوم ان كل ذلك حرام بلا جدال»، وهو ما ذهب اليه قسم ممن بحث موضوع التأمين حين قرروا منعه بقولهم: «ان عقد التأمين التجاري يشتمل ربا الفضل والنساء، فإن الشركة اذا دفعت للمستأمن او لورثته او للمستفيد اكثر مما دخله من النقود لها فهو ربا فضل، والمؤمن يدفع ذلك للمستأمن بعد مدة فيكون ربا نساء، واذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما دفعه لها يكون ربا نساء فقط، وكلاهما محرم بالنص والاجماع».

الأمر الثاني: ان عقد التأمين التجاري من عقود الصرف، لأن مبلغ التأمين وهو نقد تأخر دفعه عن دفع العوض النقدي الآخر، وهو الاقساط، مع انه يشترط لصحة مبادلة النقد بالنقد (عقد الصرف)، ان يتم التقابض في مجلس العقد، فإن اجل احد العوضين تحقق ربا النسيئة، وان تساوى العوضان.

الامر الثالث: تستثمر شركات التأمين التجاري الاموال المدفوعة اليها من قبل المؤمن لهم في معاملات ربوية محرمة، فهي تستثمر اموالها في سندات بفائدة، وتقرض منها بضمان وثيقة التأمين بفائدة، وتشترط على تأخير دفع المؤمن له اقساطه فائدة، وان القول بتجويز التأمين التجاري تشجيع لها على سلوك الطرق المنافية للشريعة الاسلامية وقد يعد مشاركة في عمل ربوي.

الأمر الرابع: ان عقد التأمين على الحياة لحالة البقاء يتضمن تعهد الشركة، بأن ترد للمستأمن في حالة بقائه حيا الى المدة المحددة في العقد، الاقساط التي دفعها مدة العقد مضافا اليها فائدة ربوية فيكون ربا. ويرى الناظر في هذه الامور الاربعة: انها انطوت على اشكالات غير تامة، فعقد التأمين عقد خال من الربا والصرف كما يقول الشيخ علي الخفيف من فقهاء المذاهب الاربعة، «لأن المعاوضة فيه معاوضة بين نقود تدفع اقساطا للمؤمن ومنفعة هي تحمله تبعة الكارثة وضمانة رفع اضرارها وتخفيف ويلاتها، وعلى ذلك يرى ان احد البدلين منفعة، وهي ليست من الاصناف الستة، ولا مما ألحق بها، واذن فلا يتحقق معها ربا النساء، وكذلك لا يتحقق معها ربا الفضل لاختلاف جنس البدلين.

كما لا يتحقق كذلك معنى الصرف فيه، وما قد يدفعه المؤمن للمستأمن من مال ليس بدلا عن الاقساط، بدليل انه لا يدفع اكثر احوال التأمين، ولا يدفع إلا حيث يقع الخطر.. ولو كان بدلا لدفع في جميع الاحوال، واذا دفع فإنما يدفع للضمان وتحمل التبعة، وحينئذ يتقدر بقدر ما يندفع به الضرر، ولا يزيد عليه .. وما ابعد ذلك عن الربا والصرف».

ويؤكد الشيخ محمد مهدي شمس الدين من فقهاء المذهب الجعفري بعد التأمين عن الصرف، لأن الصرف هو مبادلة مال بمال، والواقع ان ما نحن فيه هو ليس مبادلة مال بمال، بينما هو مبادلة مال بتعهد من المؤمن (الشركة) يحقق الأمان للمستأمن، ويؤكدون بأن «الصرف لا يكون الا في مبادلة الذهب بالذهب او الفضة او احدهما بالآخر»، واين هذا من عقد التأمين؟

اما القول بأن عقد التأمين التجاري عقد ربوي، لأن شركات التأمين تستثمر اموالها في عقود ربوية، وان القول بتجويز التأمين تشجيع لها واعانة على الاثم، فهو واضح البطلان، لأنه امر غير مقطوع به، «لأننا نرى التأمين يستثمر امواله في معاملات تجارية وصناعية مما لا ربا فيه، وقد يعطي هذه الاموال لاستثمارها في اقامة المنشآت والمصانع وما يشبههما من الاغراض». كما ان الحديث هو عن مشروعية التأمين كنظام وقانون وعقد لا عن مشروعية ما تقوم به شركات التأمين من عقود، ثم ان اكثر ما يمكن ان يتصور فيه على تقدير القول بأن شركات التأمين تستثمر اموالها في عقود ربوية، انه عقد بين طرفين احدهما (الشركة) له عقود ربوية مع اطراف اخرى وهو امر لا علاقة له بما يجريه المؤمن من عقد مع المؤمن له، واين هذا من محل النزاع؟ اما دعوى ان تجويز التأمين التجاري تشجيع لشركات التأمين على الاستمرار بأعمالها المتضمنة للربا فهي لا يحول عقد التأمين معها الى عقد ربوي، وهو المدعي، لما هو واضح.

بقي الامر الرابع: وهو عقد التأمين على الحياة لحالة البقاء المتضمن لشرط الربا، وهو على تقدير القول بأنه عقد تأمين متضمن لشرط ربوي فاسد، فلا مانع من صحته وبطلان الشرط فقط لأن بطلان الشرط لا يقتضي بطلان المشروط، كما حقق في محله، وهو الحق، فلو باع مثلا زيتا بشرط ان يشرب المشتري خمرا بطل الشرط، وصح العقد، ولو اشترط المقرض الزيادة على قرضه بطل الشرط لأنه من الربا المحرم، ولا يبطل عقد القرض فيملك المقترض المال وليس عليه الزيادة كما تقدم، ذلك ان الشرط لا يجعل البيع المتضمن له من وجوه الاكل بالباطل فيتمحض البيع في العنوان الذي انضم اليه الشرط الفاسد، من دون ان ينطبق عليه عنوان محكوم بالفساد.. وتدل على ما ذكرته جملة من النصوص، حيث دلت صريحا على نفوذ العقد وبطلان الشرط كالتي وردت في قضية عائشة مع بريرة حين اشترط اولياؤها عليها الاحتفاظ بولائها، وصحيحة محمد بن قيس، «عن ابي جعفر رضي الله عنه المتضمنة لقضاء علي رضي الله عنه في رجل تزوج امرأة واصدقها، واشترطت بيدها الجماع والطلاق، قال: خالفت السنة، وولت الحق من ليس بأهله، قال: فقضى علي رضي الله عنه: ان على الرجل النفقة وبيده الجماع والطلاق، وذلك السنة»، وكذلك هو حال عقد التأمين التجاري المتضمن لشرط ربوي فاسد، فإن مقتضى القاعدة عدم سراية الفساد من الشرط الى العقد المتضمن له، ما لم يستلزم انطباق عنوان محكوم بالفساد عليه، فإن الخروج عنها يحتاج الى الدليل وهو مفقود، بل وقد عرفت دلالة جملة من النصوص المعتبرة على الصحة لا يسع المجال لاستعراضها تقضي بعدم سراية الفساد الى العقد، ولتوضيح الصورة اكثر اقول: لا إشكال ان الشرط الفاسد لا يجب الوفاء به، ولا الزام بفعله شرعا، لأن معنى الفساد في مقابل الصحة والالزام، فمعنى انه فاسد لا الزام بفعله، ولا يجب على المكلف ان يفي به، فالشرط الفاسد بما انه شرط لا حكم له، وانما الكلام في ان الشرط الفاسد اذا لم يقم دليل على فساد العقد معه او صحته معه، ولا يوجب فقد شرط من شروط صحة العقد تكوينا، فالكلام يقع في انه هل يوجب سراية الفساد الى المشروط او لا. الصحيح: ان الشرط الفاسد لا يوجب فساد المشروط ابدا، وفاقا للمحققين من المتأخرين من فقهاء المذهب الجعفري، ثم ان الشيخ علي الخفيف من فقهاء المذاهب الاربعة، ذهب الى ان هذا النوع من عقد التأمين التجاري وهو التأمين على الحياة لحالة البقاء، يقوم على أمرين: احدهما: دفع الضرر ان وقع الخطر المؤمن عليه،. وثانيهما: الادخار ان لم يقع الخطر المؤمن عليه على تفصيل ذكره، وانتهى به الى عدم تحقق الربا في هذا النوع من عقد التأمين، وهو تحليل متكلف، ويكفي لدفع الاشكال في الامر الرابع ما ذكرته من ان بطلان الشرط لا يقتضي بطلان المشروط.

ولو سلمنا فرضا بما يقول مدعي وجود الربا في هذا النوع من العقود فسيكون هذا العقد عقدا ربويا ولا يكون التأمين التجاري بشتى صوره واشكاله ربويا، هذا وان الربا الاقرب للتصور في عقد التأمين التجاري هو ربا القرض الذي يشترط المقرض فيه زيادة في الدين على المقترض ومع ذلك فلا يتصور وقوع الربا فيه، ذلك ان القسط المدفوع ليس قرضا، ومبلغ التأمين الذي يقبضه المستأمن ليس وفاء لقرض ربوي، فهو لا يعتمد على المدة الزمنية ولا على مجموع ما دفع المستأمن من اقساط حتى وقوع الحادث، بل يعتمد المبلغ في الواقع على حجم الخسارة المالية التي لحقت بالمستأمن نتيجة الحادث، اضافة الى ان طرف العقد في مقابل التعهد ولو لم تقع حادثة، ولا علاقة للقرض في هذا كله كما هو واضح، ومما يؤكد كون عقد التأمين ليس قرضا ربويا ان اصل المبلغ المدفوع في القرض الربوي مضمون الارجاع، وفي عقد التأمين التجاري ليس هناك ضمان برجوع شيء لأن وقوع الخطر المستلزم لدفع المبلغ من المؤمن الى المؤمن له غير مؤكد الحدوث، ومجرد تعليق الارجاع الى المؤمن له عند تحقق الخطر المؤمن منه لا يجعله قرضا ربويا.

يقول بعض فقهاء المذهب الجعفري مؤكدا هذه الحقيقة: «ان المال الذي يدفعه المستأمن الى الشركة لا يدفعه باعتباره دينا عليها، بل مقابل تعهدها له بتدارك الخطر وتحصيل الامان، والمال الذي يأخذه المستأمن من الشركة في حالة وقوع المحذور لا يأخذه باعتباره قضاء ووفاء لدين له على الشركة، فعقد التأمين خارج عن الربا خروجا موضوعيا، فلا نتعقل وجود الربا في المعاملة التأمينية».

وعلى كل حال فإن من يدعي مشروعية عقد التأمين التجاري يدعيه من حيث كونه نظاما قانونيا في ذاته ومن زاوية فكرته الاصلية، أي من حيث هو هو. ولا يعني ذلك اقرارا لجميع العقود والشروط التي قد تقوم بها شركاته او يقوم بها المستأمنون فلكل عقد خصوصياته وبموجبها يحكم له او عليه. وهذا واضح.