شكرا أيها المنصفون .. والمسلمون لم يستوعبوا «المفاجأة» بعد!

د. خليل بن عبد الله الخليل *

TT

الأحداث التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر من عام 2001، على الولايات المتحدة الأميركية صنعت «مناخاً جديداً» يمكن للعرب والمسلمين أن «يستثمروه» للتفاهم والتعاون والبناء.. بدلا من التشنج والتحسر والانكماش والتلاوم. لقد رأينا الكثير وقرأنا الكثير وسمعنا الكثير في وسائل الإعلام العربية والغربية بشأن هجمات نيويورك وواشنطن أو «غزوات منهاتن»، كما يحلو للبعض أن يسميها، ولقد بدأت الأمور تأخذ في «التهدئة» والتعقل والتفكير المتزن بعد أن أخذت الصورة تتضح بعض الشيء. الغربيون قيادات ومؤسسات فكرية وسياسية ودينية وعلمية استوعبوا الحدث أو لنقل «الصدمة» وتعلموا منه، وتوجهوا لصياغة المستقبل.

الخطاب تغير والبرامج تغيرت والخطط تغيرت والحياة تغيرت للتعايش مع الصدمة بأسلوب منهجي، فماذا فعل العرب والمسلمون؟ من الأمور التي تم اتخاذها على سبيل المثال أن جامعة كنتاكي في شرق أميركا أوجدت معهداً لتدريب المعلمين في التعليم العام لتعريفهم بالإسلام نظراً لأنهم سيواجهون أسئلة كثيرة من الطلبة والطالبات بعد هجمات 11 سبتمبر. وجامعة شمال كارولاينا قررت كتاباً للتعريف بالقرآن من ضمن المواد الإلزامية بالرغم من رفض بعض المسيحيين الملتزمين ذلك وأخذهم الجامعة للمحكمة، ومع ذلك دافعت الجامعة عن موقفها وحكمت المحكمة لصالحها. جامعة كاليفورنيا في غرب أميركا أحدثت أكثر من 60 برنامجاً للتعريف بالإسلام وللتعامل مع الإرهاب. المراكز الإسلامية المنتشرة في أميركا تعج بالزوار والضيوف من المدارس والجامعات والمواطنين الأميركيين يسألون عن الإسلام. الكنائس تدعو الأئمة والمختصين المسلمين لإلقاء المحاضرات على منسوبيهم عن الإسلام. البرامج الإعلامية المكثفة والمقالات المركزة تنشر بزيادة %400 عما كان قبل الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر.

المجتمع الغربي عامة وأميركا خاصة، متوجه نحو المعرفة والاستزادة بالمعلومات عن الحضارة الإسلامية وعن القضايا التي «ربما» تسبّبت في الدفع بـ 19 عربياً مسلماً للهجوم على المنشآت الأميركية من دون سابق إنذار، والكثير منهم يتطلع للمعرفة الحقيقية للوقوف على الإعداد والكيفية والأطراف المشاركة والدوافع والأسباب والحلول ووسائل الوقاية ووسائل العلاج.

رئيس وزراء كندا ـ على سبيل المثال ـ ذكر في مقابلة في محطة ABC الأميركية، أن لدى الغرب غطرسة، وأن هناك ثراء فاحشاً على حساب الشعوب الأخرى تسبّب في تنامي مشاعر الكره للحضارة الغربية، والكتابات والتحليلات التي بدأت في الظهور بعد استيعاب الصدمة، تنتقد الكثير من السياسات الأميركية، وتدعو إلى أهمية الحفاظ على مستوى من التفاهم مع العرب والمسلمين، وترى أن القضية الفلسطينية يجب أن تحل لصالح الطرفين المتنازعين بدلا من الانحياز للإسرائيليين على حساب الفلسطينيين. هناك بوادر إيجابية بعد أحداث 11 سبتمبر، وهي تحتاج إلى «استثمار» ومتابعة واعية متواصلة تستطيع أن تخفف أو توظف تداعيات الحوادث والكوارث الناجمة من ذلك الحدث التاريخي. إن الذي حدث هو أن «منظمة القاعدة» الإرهابية فرضت الحرب على أميركا في سابقة فريدة، وزجت بالعرب والمسلمين شعوباً ودولاً وحضارة في معركة خطيرة لا يستطيعون التنصل من تبعاتها، وهم، شعوباً ودولاً، قادرون على تحمل مسؤولياتهم، وقادرون على احتواء المخاطر الناجمة من تلك الحرب المفروضة التي قلبت موازين القوى وألغت مفعول ما يسمى بـ «أسلحة الردع»، وتخطت الحدود، وصنعت ساحات وأسلحة جديدة لحروب المستقبل، وأوضحت للغربيين أنهم غير آمنين في حصونهم، وأن «التصادم» مع العرب والمسلمين لا يحكمه ما اخترعوه من نظريات حديثة وآليات متقدمة.

تلك الحرب صنعت «مناخاً جديداً» تعامل معه «الآخرون»، بما يستحق من إدراك وتعايش ومتابعة وخطط: معاهد أنشئت، وبرامج نفذت، وقرارات اتخذت، وإجراءات وأنظمة سنّت، ودراسات تجرى، وأفلام وخرائط تخطط، وحروب تشن، باختصار استوعب الغرب «الصدمة» وتهيأ للتعبئة على كل المستويات، لحماية مبادئه ومجتمعاته وأوطانه ومصالحه وأمنه وأسلوب حياته، مستشعرا خطورة العدو وضخامة الحرب، وحساسية الموقف.

فماذا فعل العرب والمسلمون يا ترى؟

إذا أردنا أن نعود بالذاكرة منذ بداية الأحداث إلى العصر الراهن، بالرغم من مرور عام، ما زال العرب والمسلمون يتجادلون في ذلك الحدث! وما زالوا يتبنون نظريات المؤامرة، وينفون تهمة «الإجرام» أو «البطولة» عن أناس لمحوا وصرحوا ونادوا بأعلى أصواتهم أنهم «الغازون» والمجاهدون، وقادتهم يصفونهم بـ «الكوكبة المباركة»، ويصفون الغزاة بالصفاء والنقاء والتقى، ويدعون إلى اقتفاء أثرهم الجهادي. لم نستوعب نحن العرب والمسلمين بعد «المفاجأة» مع أن مرتكبيها منّا، وفكرهم من إنتاجنا وادعاءاتهم تذاع على مسامعنا في الأشرطة والمحاضرات وخطب المساجد على طول العالم العربي والإسلامي وعرضه وبين الأقليات العربية المسلمة في شتى بقاع العالم.

الغرب عاد يراجع نفسه، أما العرب والمسلمون، فإنهم يستيقظون وينامون على التناقضات وإنكار الحقائق، تمادوا بل تفنّنوا في تضخيم دور الصهيونية والمتصهينين، ومضغ القضية الفلسطينية، وإظهار العداوة لأميركا.. بمناسبة وبدون مناسبة. أصبحت هذه الكلمات الثلاث: فلسطين، أميركا، الصهيونية، هي «الثالوث» الذي يتكرر في كل ثانية مما افقد الكلمات ـ مع أهميتها ـ معناها، ومما احدث صداعاً في الرؤوس، وتصدعاً في النفوس، وعقماً في الفكر، واجتراراً في الإعلام. الزعماء، الخطباء، الصحافيون، مقدمو البرامج التلفزيونية، الطلاب في المدارس، يتسابقون للإدانة والشجب والتحسر والنياحة، بدون رابط أو ضابط.

لقد عجبت وأنا استمع إلى خطاب الرئيس الأميركي جورج بوش الابن في ولاية ايوا في احد مصانع شركة سيرز Sears، كما أذاعته محطة «فوكس نيوز» Fox News الأميركية، وكان يدافع عن الإسلام، وقال ما ترجمته «لقد اختطف الإرهابيون الإسلام الذي تعاليمه تدعو إلى التعاطف والمحبة والسلام»، ودعا الأميركيين إلى اليقظة واحترام المبادئ التي قامت عليها أميركا والوقوف صفاً واحداً أمام الإرهاب والدكتاتورية. وأقول لقد صدق الرئيس الأميركي، وكان فهمه أفضل من فهم الكثير من المسلمين الذين ما زالوا في اضطراب وحيرة إزاء موقف الإسلام من تلك الهجمات الإرهابية التي شنت على أميركا تحت شعار «جهاد النصارى واليهود»، والعقلاء يرحبون بكلمة الرئيس الذي فصل بين الإرهاب والإسلام، وذلك أمر مهم لنا ولحضارتنا ولمستقبل العلاقة الأميركية ـ العربية، كما يرحبون بالتصريحات المنصفة من قبل ساسة الغرب وقياداته الثقافية والدينية التي أدانت الإرهاب وفصلت بينه وبين الإسلام.

التصريحات الغربية التي تفصل بين الإسلام والإرهاب وتدعو إلى احترام الإسلام والمسلمين، أصبحت ظاهرة واضحة ومتكررة، إلا أنها ضاعت في الأجواء التي لم تستوعب المفاجأة، وهذا من اخطاء العرب والمسلمين، انهم يستمعون فقط للسلبيات والتصريحات الاستفزازية، ولو اعتذر عنها أصحابها، يستمعون لها وينشغلون بها وكأنما يبحثون عن الأجواء الصعبة المعكرة، وكأنما هم يبحثون عن أعداء جدد.. مع أنهم غير قادرين على فعل الكثير، فقدوا توازنهم وانغمسوا في مخاوفهم وتثبيت نظرياتهم الخاطئة.. فلم يعودوا قادرين على الاستيعاب والاستفادة من الفرص المتاحة.

هناك أجواء إيجابية بالرغم من فظاعة الحدث وتعقيداته، وتلك الأجواء تحتاج إلى بذل الجهود لاستثمارها، لعلنا نستطيع بالإدراك والحنكة والخطط المدروسة أن نحيل «الكوارث» إلى «فرص» تخدم قيمنا ودولنا وشعوبنا وقضايانا وحضارتنا.

لم نقدم إلى الآن «خطاباً إعلامياً» مقنعاً بشأن الأحداث، بل ان «الراديكاليين» السلفيين وأمثالهم من المتطرفين في عالمنا العربي والإسلامي، فرضوا «لغتهم» الاستفزازية وتفسيراتهم المتخلفة، ومزايداتهم المتناقضة على الأمة فحيّروا أبناءها وأجّجوا أعداءها، ولم تتخذ بعد الإجراءات والقرارات الصريحة المعلنة الكفيلة بمواجهة الأزمة واحتواء المخاطر. لم تزل الشعوب تعيش حالة فراغ وحيرة إزاء الأحداث.

عادت الذاكرة إلى بداية عقد التسعينات من القرن الماضي عندما حدث غزو الكويت، لغة الكتاب والسياسيين والإعلاميين والخطباء لم تختلف بالرغم من البعد الشاسع آيديولوجياً وجغرافياً بين الحدثين، فاللغة هي اللغة والثلاثي هو الثلاثي «أميركا ـ فلسطين ـ الصهيونية»، كان يجب علينا من خلال «فكر استراتيجي» أن نؤجل بعض القضايا، ثم لماذا نسمح بأن تكون «القضية الفلسطينية» بالرغم من عدالتها وأهميتها الأداة الفعالة التي تستخدم من الغرب منذ ثلثي قرن لاستنزاف مقدرات الأمة ولإشغال قياداتها، ولقهر شعوبها؟ ونحن نعلم علم اليقين أن النيات سيئة، وأن الحرب خاسرة، وأن الحلول المطروحة فاسدة، وأن العرب والمسلمين لا يملكون الإرادة ولا الإدارة ولا الأدوات والقوى اللازمة لإرغام العالم الغربي «المنحاز» على احترام حقوقهم العادلة المشروعة.

ان العرب والمسلمين إزاء «تحولات» تاريخية يمكن لهم أن يوجهوها لصالحهم إذا ما تخلوا عن انسياقهم وراء المفاهيم والسياسات الخاطئة التي تجردهم من فاعليتهم، وهم حضارياً واستراتيجياً قادرون على تحمل مسؤولياتهم وتوظيف «المناخ الجديد» للتعبير عن أنفسهم، والتعايش مع الآخرين في ضوء الاحترام المتبادل والحفاظ على المكتسبات والمطالبة بالحقوق.

استنفر الغربيون قواهم للتعايش مع المستجدات، وهم يستمعون ويرصدون ويقرأون ويشاهدون بروية وتعقل بعد أن استوعبوا الصدمة ـ مما يوجب على العرب والمسلمين الاستفادة من تلك الأجواء ـ بالرغم من بشاعة أسبابها. ومن الأمور التي يمكن أن تخدم في هذه الظروف تجديد الخطاب الإعلامي العربي، والرصد الواعي، ومخاطبة الغرب بـ «العقلية» التي يفهمها.

المناخ الجديد يتطلب «أنسنة» قضايانا، وتجديد المؤسسات الثقافية والدينية، وإشاعة روح الحوار في المجتمعات العربية والإسلامية، وتفعيل الجامعات التي غيّبت عن التحولات والأحداث، وصياغة أدوار جديدة ومهام محددة للديبلوماسية العربية، ومخاطبة الشعوب العربية والإسلامية بلغة الصدق والمسؤولية.

ربما من المفيد التوجه إلى الأفلام الوثائقية عن الإرهاب وعن القضايا الشائكة التي تسبب التوجس وتبرير التصادم، لم يقدم العرب والمسلمون فيلماً وثائقياً واحداً يثير اهتمامات عموم الغربيين ويظهر الجانب الإنساني لنقاط التوتر والصدام. ان العرب يتحدثون كثيرا، لكنهم لا يوثقون ولا يوصلون قضاياهم بلغة سليمة وعقلية مستنيرة لأصحاب الشأن. لدى الغرب مؤسسات إعلامية وعلمية وبحثية متخصصة في إقناع الرأي العام، والعرب ما زالوا ينددون وينوحون ويتلاومون ويتحدثون مع أنفسهم، ولا صلة لهم بالأقليات والمنظمات الغربية التي تشاركهم في النظرة لبعض المشاكل وتوافقهم في المفاهيم، ولم يمدوا يد العون للمنظمات العربية والإسلامية التي هي امتداد لهم في الغرب، مما حرمهم من الاستفادة من تلك المنظمات. أحداث 11 سبتمبر ليست نهاية المطاف، بل هي ربما بداية لتحولات جديدة يخشى أن تشغل العرب والمسلمين وتتحكم في مسيرة نهضتهم لنصف قرن قادم، لذلك يحتاج العرب والمسلمون إلى التقاط الأنفاس والاستعداد للمستقبل قبل فوات الأوان.

* رئيس مجلس أمناء مؤسسة شيخ الإسلام ابن تيمية في أميركا