الشيخ الراحل عبد الله البسام التقى جمال عبد الناصر واهتم بمسألة التقريب بين فئات المسلمين

بعد محادثة قصيرة مع بن مانع ترك عنيزة واستوطن في مكة المكرمة حتى مات * زملاؤه ابن عثيمين وعبد الله العلي النعيم وأشياخه ابن سعدي والشعراوي * خاض معارك من أجل كتابه «علماء نجد خلال ثمانية قرون»

TT

عن عمر يناهز السادسة والسبعين رحل القاضي والفقيه والمؤرخ السعودي عبد الله بن عبد الرحمن البسام يوم الخميس 30 يناير (كانون الثاني) الماضي، واديت صلاة الميت عليه عقب صلاة الجمعة في المسجد الحرام بمكة المكرمة. يطول الحديث عن الشيخ البسام لأنه متعدد الأوجه ومتشعب الاهتمامات.. فصحيح انه كان من الناحية الرسمية قاضيا عتيدا، حيث امضى قرابة نصف قرن في سلك القضاء منذ اول منصب قضائي تولاه عام 1952 قاضيا في افواج المجاهدين (القوات السعودية شبه النظامية) الى ان تقاعد عن رئاسة محكمة التمييز في مكة المكرمة عام 1997، لكنه كان ضالع الاهتمام بمسائل التاريخ السعودي (والنجدي منه على وجه الخصوص) فضلا عن اشتغالاته الادبية والشعرية.

البسام كان من رواد العمل الخيري في منطقة مكة المكرمة فقد كان هو المشرف والموجه لانشطة «المستودع الخيري» في مكة المكرمة التي اخذت على عاتقها اعانة واعالة المحتاجين والفقراء .وادخل اساليب حديثة مثل الاستفادة من الكومبيوتر في حصر وادراج اسماء المستفيدين من خدمات هذه الجهة الخيرية التي حرص على وجود اسماء لامعة ضمن لجنتها المسماة «لجنة المستودع الخيري» مثل الشيخ صالح بن حميد رئيس مجلس الشورى السعودي وامام المسجد الحرام والدكتور احمد محمد علي رئيس البنك الاسلامي للتنمية.

الشيء اللافت للنظر في شخصية الشيخ عبد الله البسام رحمه الله كان مقدار الليونة والتسامح اللذين يتمتع بهما، كما تجلى ذلك في موقفه من علماء المدارس الفقهية الأخرى. بل حتى الطوائف الاسلامية الأخرى، فنحن نعرف ان الشيخ البسام كان قد التقى احد رؤساء الحكومات الايرانية السابقة عباس هويدي، وتباحث معه في سبل حل الخلاف بين السنة والشيعة. كما يلفت المتابع ان احد شيوخ البسام الذين درس عليهم هو الشيخ المفسر المصري الشهير محمد متولي الشعراوي.

ووجه الغرابة في المثال الاخير ان الشيخ عبد الله البسام يتحدر من مدينة عنيزة المدينة الرئيسية الثانية في منطقة القصيم القابعة في العمق النجدي والمجاورة لمدينة بريدة! ونعلم الصورة النمطية عن أهالي هذه المنطقة لدى كثير من المتابعين ومدى حساسيتها من الآخر، خصوصا في مجال تلقي الثقافة الدينية، ومع هذا نجد في قائمة شيوخ واساتذة عبد الله البسام اسماء مصرية كثيرة من علماء الازهر المنتمين الى مدارس فقهية ومذهبية أخرى، وحتى نفهم سر هذه السماحة والانفتاح لدى البسام يحسن بنا ان نعود الى الجذور التاريخية والثقافية التي ينتمي اليها الشيخ عبد الله البسام.

ولد البسام عام 1927 في مدينة عنيزة في القصيم من اسرة موسرة وذات ادوار سياسية واجتماعية وتجارية معروفة، كما انها ذات تفرعات ممتدة في العراق والشام وبلدان الخليج. وينتمي من جهة الأم الى اسرة ابا الخيل، حيث ان امه ابنة الشيخ منصور ابا الخيل وهي اسرة كبيرة ايضا منها اسرة آل مهنا حكام بريدة القدماء.

اما مدينة عنيزة موطن اسرة البسام فهي مدينة متميزة ومتفردة بحق بين سائر مدن نجد، فقد كانت منفتحة على الآخر ومتسامحة ـ نوعا ما ـ قياسا بالمدن النجدية الأخرى، كما كانت مسرحا لكثير من الحوارات والسجالات العلمية. وتتميز البيئة العلمية في عنيزة بالمرونة والترحيب بالطريقة الحوارية واثارة الاسئلة حتى في القضايا الفقهية الصغيرة، مما انعكس على طريقة علمائها في التدريس، كما يتضح لنا مع الشيخ عبد الرحمن بن سعدي ـ شيخ البسام وشيخ محمد بن عثيمين ايضا ـ الذي كان لا يمرر اي مسألة في دروسه دون بحث وتوقف وتكليف لطلابه في المسجد باعداد الابحاث والتقارير عنها لعرضها مجددا للنقاش والنظر، وهذه الطريقة في المساءلة والبحث لم تكن مألوفة لدى علماء نجد الآخرين الذين كانوا مشهورين بطريقة «سم بركة» المشهورة والقائمة على التلقين والحفظ وقلة الاسئلة.

وربما يعزى هذا النفس المميز عند علماء عنيزة الى عدة اسباب من بينها: اقامة داود بن سليمان البغدادي الذي ولد وتوفي في بغداد 1881 في عنيزة للدراسة على عالم نجد الكبير الشيخ عبد الله ابي بطين وكان داود الذي اشتهر باسم «ابن جرجيس» عند علماء نجد على خصام مع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولذلك انتقد بعض علماء الدعوة الوهابية اهل عنيزة على ايوائه. وايضا يعزى هذا النفس الى الصلات التجارية التي كانت عنيزة تتمتع بها مع بلدان الهلال الخصيب ومع موانئ الخليج والهند، ولذلك فقد كانت صورتها لدى الرحالة من الاجانب والعرب صورة ايجابية. يقول الكاتب العربي امين الريحاني الذي زار عنيزة مبكرا: «عنيزة ملكة القصيم، حصن الحرية، محط ابناء الامصار، عنيزة قطب الذوق والادب، باريس نجد، وهي اجمل من باريس. فليس لباريس نخيل وليس لباريس منطقة من ذهب النفود». ويقول ايضا عن اهالي عنيزة: «ساح ابناؤها في البلدان القصية والامصار شرقا وغربا.. والغريب ينسى في هذه البلدة كونه غريبا، فهو يشعر انه بين اناس الفوا مثله».

واما عن اسرة البسام نفسها فيحدثنا بعض ابناء هذه الاسرة انه لم يكن غريبا ان يتحدث اجداد هذه الاسرة اكثر من لغة بحكم التطواف والسفر وانفتاحهم على الثقافات الاخرى، وكذلك الشأن مع اسر اخرى في عنيزة، اذن في هذه الاجواء ولد الشيخ عبد الله البسام وتلقى مع اخيه الآخر ابجديات العلم على يد والده عبد الرحمن الصالح البسام، الذي كان مهتما بالسيرة النبوية والاخبار العربية كثيرا، بيد ان البداية الحقيقية للبسام كانت على يد عالم عنيزة الكبير والمؤثر عبد الرحمن بن سعدي الذي لازمه ثماني سنوات، وقرأ عليه بتمعن وتركيز الوان العلوم الشرعية. فقرأ عليه في التفسير، مثل تفسير الجلالين وتفسير السعدي نفسه وقرأ عليه في الحديث البخاري وشروحاته وكتاب المنتقى للمجدد ابن تيمية وبلوغ المرام للحافظ بن حجر وقرأ عليه في العقائد كتاب الواسطية لابن تيمية وكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب. كما قرأ في اصول الفقه والنحو وغير ذلك من العلوم الشرعية والمساعدة.

في هذه الفترة من حياته في عنيزة زامله في طلب العلم عدة شخصيات اهمها الشيخ الراحل محمد بن صالح بن عثيمين وشخصية اخرى ربما تكون مفاجأة للبعض وهو امين مدينة الرياض السابق عبد الله العلي النعيم، الذي ظل على صلة به حتى اسس معه النادي الادبي في عنيزة لاحقا. الانعطافة الاخرى التي حدثت في حياة الشيخ البسام كانت عندما رحل للحج سنة 1946 وهناك زار الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع رئيس دار التوحيد الشهيرة حينها، وتباحث معه فاعجب الشيخ بن مانع به وطلب منه الالتحاق بدار التوحيد في الطائف التي مر بها الملك عبد العزيز وجلب لها علماء من الاقطار الاسلامية الاخرى، فالتحق البسام بها وهناك وجد علوما اخرى غير التي اعتاد اهل نجد على تلقيها، حيث درس المنطق والادب والمناظرة والبلاغة والعلوم الرياضية وكان فيها علماء مصريون من الازهر مثل العالم المصري الشهير محمد حسين الذهبي «اغتالته جماعة التكفير والهجرة لاحقا». والشيخ رياض هلال وايضا كان هناك علماء سعوديون مثل الشيخ عبد الله السليمان المسعري رئيس ديوان المظالم سابقا. ولا شك ان الاستعداد العائلي للترحال والبيئة «العنيزاوية» المنفتحة لدى البسام هي التي جعلته يستفيد اكثر من هذه الاجواء الجديدة وربما الصادمة لغيره من النجديين.

تخرج الشيخ من دار التوحيد عام 1951 والتحق بكلية الشريعة وكلية اللغة العربية بمكة المكرمة وقد ضمتا الى بعضهما البعض، وهناك تلقى العلوم على اساتذة مشاهير في النحو واللغة العربية مثل محمد ابو شهبة وعبد الخالق عظيمة كما درس البلاغة على الداعية والمفسر المصري الشهير محمد متولي الشعراوي. تعتبر وظيفة مراقب اعلامي هي اول وظيفة عمل بها الشيخ عبد الله البسام، حيث كان يعمل يومين في الاسبوع في ميناء جدة قادما من مكة لهذا الغرض، وهو الرقابة على الكتب الوافدة للبلد وإجازة أو منع الكتب المخالفة، من وجهة النظر الدينية. ثم بدأ التدريس في الحرم المكي ـ باشارة من الشيخ ابن مانع مرة أخرى، حيث باشر ذلك ابتداء من عام 1952 ولم ينقطع الى عام 1997 الا في فترة عمله في الطائف رئيسا لمحكمتها 3 سنوات. كان الشيخ البسام يجلس للتدريس من المغرب للعشاء ودرس في الفقه اكثر الاحيان وتحضر دروسه فئات متنوعة من الناس وكانت الاذاعة السعودية تبث دروسه.

وحينما نريد الوقوف عند تلاميذ الشيخ فإن الامر يصعب حصره كما يقول ابنه خالد البسام في ترجمته لابيه، لأن الشيخ اثناء عمله في الطائف كان له تلاميذ، وفي الحرم المكي كان له تلاميذ ومن طلبة الدراسات العليا الجامعية كان له تلاميذ، وغير ذلك من القنوات المتعددة. لكن يمكن ان نعدد بعض تلاميذه مثل الداعية السعودي صاحب البرنامج التلفزيوني الشهير «منكم واليكم» عبد العزيز المسند وامام وخطيب الحرم المكي سعود الشريم، وهاني احمد عبد الشكور واحمد عاشور. اما مشوار الشيخ الطويل مع القضاء في السعودية فبدأ عام 1954 قاضيا في المحكمة المستعجلة وقوات المجاهدين «شبه النظامية» ثم رئيسا لمحكمة الطائف 1967 ثم عضوا في محكمة التمييز في مكة المكرمة 1971 ومن ثم نائبا لرئيسها، واخيرا رئيسا لمحكمة التمييز في مكة المكرمة من عام 1980 الى حين تقاعده 1997. ولا شك انه مشوار حافل يجعل الشيخ البسام من الرعيل الاول من القضاة في السعودية ويجعله ايضا شاهدا على مسيرة القضاء في السعودية. ولكن هذا العنوان القضائي للبسام لا يجوز له ان يغفلنا عن البسام المؤلف والبسام الفقيه.. والبسام المؤرخ والمدون لسير العلماء النجديين. لنا ان نقول ان مؤلفات البسام كانت تتميز بسهولة العبارة ووضوح الاسلوب حتى الفقهية منها، لقد كان كتابه الذي وضعه لشرح المتن الحديثي «عمدة الاحكام» وسماه «تيسير العلام شرح عمدة الاحكام »ابرز مثال على سهولة الشيخ في التأليف مع وفرة وجودة المادة العلمية، فقد راعى في شرحه هذا الايجاز وطرح الخلافات الفقهية الكثيرة ولم يعول الا على المشهور منها ولم يلتزم بالمذهب الحنبلي في اختياراته الفقهية ـ مع انه حنبلي المذهب في الاساس، وكان حريصا على شرح الكلمات الغامضة بمقابلاتها في العربية المعاصرة، كما حرص على تقديم مقاييس الاوزان والاكيال كما تستخدم في العصر الحديث فاعتمد «الكيلوغرام بدل الصاع.. وهكذا اثناء نقله لكلام الفقهاء في مقادير زكاة الاطعمة وغيرها». ولذلك حظي مؤلفه بإقبال واسع وطبع عدة مرات ودرِّس للطلبة في المعاهد العلمية الشرعية وترجم الى عدة لغات، ونفس السنة تبعها في كتابه الآخر «توضيح الاحكام في شرح بلوغ المرام» وان كان قد توسع كثيرا في كتابه هذا. غير ان كتابه الاهم من ناحية الشهرة الذي عرفه بشرائح اخرى من القراء كان كتابه الموسوعي «علماء نجد خلال ستة قرون» في ثلاثة اجزاء ثم طوره تطويرا كبيرا ومهما فاصدره مرة أخرى تحت عنوان «علماء نجد خلال ثمانية قرون» وصدر في ستة مجلدات كبار.

وكتابه الاخير هذا يعد مرجعا تاريخيا وعلميا مهما للتعرف على الحالة الدينية والاجتماعية والسياسية في فترة تمتد من القرن العاشر أو التاسع الى وقتنا المعاصر وقد اودع البسام فيه آراءه وافكاره في الأنساب والتاريخ والاحداث السياسية التي مرت بها نجد، مع تسجيلنا ان الشيخ البسام وان كان غزيرا ومفيدا في معلوماته وامينا وحريصا على الحقيقة الموضوعية، الا انه كان «ذكيا» ايضا في تحاشي بعض النقاط المتوترة، كما ترى في ترجمته للشيخ ابراهيم الجاسر الذي كان يملك وجهات نظر مختلفة حول بعض التفسيرات العقدية السائدة محليا، وبسببها دخل في بعض السجالات مع مخالفيه. هذا الكتاب الذي قرظه الملك خالد رحمه الله والشيخ عبد العزيز بن باز والعلامة حمد الجاسر رحمهما الله وغيرهم كثير، سبب للشيخ البسام بعض المتاعب فقد دخل بسببه معركة ادبية شهيرة مع الدكتور بكر ابو زيد عضو هيئة كبار العلماء في السعودية والمؤلف المعروف، حيث اتهم ابو زيد البسام بأنه اطلع على مؤلف للمؤرخ النجدي الشهير ابراهيم بن عيسى واستفاد منه جدا دون ان يشير اليه، مما دفع الشيخ البسام الى ان يكتب في مقدمة كتابه علماء نجد خلال ثمانية قرون ردا على بكر ابو زيد نافيا اطلاعه على هذا الكتاب بل ونافيا وجوده اصلا، وكان لهذه المعركة اصداؤها في الصحف السعودية وكتب فيها كثير ابرزهم العلامة حمد الجاسر.

وللشيخ البسام مؤلفان ضخمان لم يظهرا للعلن بعد، هما الموسوعة الفقهية ومجموعة تواريخ نجد وانسابها. وتعود ثقافة الشيخ البسام التاريخية والاخبارية والثقافة الشعبية عموما الى البيئة التي نشأ فيها، حيث عنيزة ومجالسها ومسامراتها وتعود ايضا الى حرص البسام المضاعف على الاستزادة والتبحر فقد كان حريصا على الاخذ عن الرواة والاخباريين النجديين مثل محمد العلي العبيد ومحمد بن معتق وغيرهما.

الشيخ البسام الذي كان مستغرقا في الثقافة المحلية ورموزها وشجونها كان في نفس الوقت شديد الاهتمام بالمسلمين في انحاء العالم وذا سعي دؤوب للم الشمل وجمع الكلمة، فقد كان عضوا في رابطة العالم الاسلامي وعضوا في المجمع الفقهي الاسلامي التابع للرابطة ومجمع الفقه الاسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي، كما كان عضوا في العديد من الجمعيات العلمية والخيرية والدعوية. ومثل السعودية في مؤتمرات خارجية، والتقى بشخصيات سياسية كثيرة مثل جمال عبد الناصر والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الامارات العربية المتحدة، والرئيس عيدي أمين رئيس جمهورية أوغندا الاسبق الذي منحه طائرة خاصة تتجول به في اوغندا.

بقي ان نشير الى ان الشيخ البسام رغم انفتاحه وتيسيره في كثير من فتاواه وارائه الفقهية، التي سببت له بعض المتاعب ربما، الا انه كان متحفظا ايضا في الجانب الآخر فقد كان رافضا لفكرة تقنين القضاء في السعودية وظل على رأيه هذا الى أواخر عمره، مع ان تقنين القضاء الشرعي (اي صوغه على هيئة مواد وفقرات قانونية ملزمة) هو الاتجاه الذي تبناه غالبية الفقهاء في العالم الاسلامي الا ان الشيخ رفض هذه الفكرة بحجة الخوف من تسلل القوانين الوضعية الى القضاء الشرعي وبحجة انه لا يجوز منع القاضي من الاجتهاد.

ونتساءل: بعدما رحل البسام من مربع صباه عنيزة واستوطن مكة المكرمة التي احبه اهلها واحبهم كما يؤكد الشيخ الدكتور عبد الوهاب ابو سليمان، هل زال شوقه عن عنيزة ونسيها؟

يجيب البسام بهذه الابيات الشعرية المؤثرة:

ألا هل لأيام «القصيم» رجوع فإني بها ـ مهما أنست ـ ولوع وهل لي بأيام مضين بأوبة تخفف من هم طوته ضلوع فما طلعت شمس ولا لاح بارق من الشرق الا تستفيض دموع