ابن باز والقضية الفلسطينية

مفتي السعودية الراحل كان يتميز بتطبيق القواعد والأصول الكلية عند الاجتهاد

TT

لست في حاجة إلى التأكيد على ان احدى ابرز الصفات التي تميز بها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله هي قدرته على استنباط الاحكام الشرعية استنباطا شرعيا سليما يقوم على تطبيق دقيق للقواعد والاصول الكلية التي تحكم عملية الاجتهاد، هذه الميزة التي يقر بها لسماحته رحمه الله جميع معاصريه من كبار العلماء سواء منهم من اتفق أو اختلف معه في الرأي، ولست في حاجة كذلك الى التأكيد على ما عرف عن سماحته من حيادية وموضوعية في الطرح ومجافاة للهوى والتحزب خاصة فيما يتعلق بالقضايا المعاصرة التي يستشكل فهم أبعادها الواقعية وأطرها الموضوعية واثارها الايجابية والسلبية على حاضر الامة ومستقبلها، وفي ظل ما اعتادت عليه الامة في العقود الاخيرة من التعامل مع هذا النوع من القضايا المعاصرة ـ ومن أبرزها القضايا السياسية والاستراتيجية وقضايا العلاقات الدولية ـ تعاملا عاطفيا انفعاليا مصدره الانتماءات الحزبية والتوجهات السياسية، الأمر الذي يؤدي الى فقدان النظرة الموضوعية القائمة على مراعاة المصالح العليا للأمة، والاندفاع الى توظيف النصوص توظيفا تعسفيا يهدف الى اضفاء الصبغة الشرعية على بعض الآراء التي لا تراعي حقيقة المصلحة الشرعية والمقاصد المعتبرة للأمة بأكملها.

وفي هذا الاطار نلحظ ان هناك العديد من الفتاوى المهمة التي تناول فيها سماحته رحمه الله العديد من القضايا الاسلامية المعاصرة برؤية موضوعية وتجرد وحيادية واستدلال فقهي محكم، وقد تناولت هذه المجموعة من الفتاوى أهم القضايا الاسلامية الكبرى المعاصرة ومن أهمها فتواه في (جواز الصلح مع اليهود في فلسطين) التي جاءت في اطار فهم دقيق للواقع السياسي والعسكري والاستراتيجي الذي تعيشه الأمة الاسلامية، ومنسجمة مع ثبات رؤية سماحته لتطورات القضية الفلسطينية والتي تناولها على مدى أكثر من ثلاثة عقود انطلقت فيها فتاواه بشأنها من فهمه الدقيق للواقع وتغليبه لمصالح الأمة على المواقف العاطفية التي تستجيب لانفعالات العامة ومظاهرات الشوارع بعيدا عن تقصي المصلحة الحقيقية، واذا كان سماحته قد اجاز في فتواه هذه إبرام الصلح مع اليهود في اسرائيل في هدنة مطلقة تتضمن التبادل التجاري والمنافع الاقتصادية وتبادل السفراء فقد حددها سماحته بأنها لا تعني بأي حال محبتهم أو موالاتهم أو الركون اليهم كما حدد مقاصدها بأنها تهدف الى التغلب على الواقع العسكري والسياسي الضعيف للأمة والعمل على الاستقواء حتى يتمكن المسلمون من استعادة حقوقهم المغتصبة.

إن هذه الفتوى وغيرها من الفتاوى التي تصدت للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمسلمين تفتقد الاهتمام المناسب الذي ينبع من قيمتها العلمية ومحتواها الفقهي ومن مكانة الشيخ رحمه الله وما عرف عنه من قوة في الطرح وترتيب في الفكر وتجرد في الفتوى، حيث تحاط بسياج من فتاوى أخرى ذات طبيعة سياسية وحزبية ويحملها اصحابها على نصوص موظفة توظيفا يخالف في الكثير من الاحيان القواعد الاساسية لعلم اصول الفقه وأحكام الاستدلال واستنباط الاحكام، وذلك تحت شعارات تبريرية غير مقنعة باسم (عدم اعطاء الدنية في الدين) أو باسم (عدم التفريط في قضايا الامة) أو باسم (فقه الواقع) وغير ذلك من المصطلحات «الصوتية» التي لا نزال نعاني من آثارها المدمرة والتي ترضي (الغوغاء) من الشارع العربي والاسلامي الذي تربى على الصراخ والعويل حتى ولو ضاعت الحقوق وزهقت الانفس، في الوقت الذي كانت فيه رؤية الشيخ رحمه الله تعتمد على التعرف الدقيق على الواقع قبل اصدار الفتوى، ولذلك كانت فتاواه دائما ترتبط بالمصالح الواقعية للأمة وتدور معها حيث دارت (يمكن مراجعة فتاواه ـ رحمه الله ـ في مجموع الفتاوى أو موقعه على الإنترنت).

ولدينا في موقف الشيخ رحمه الله من القضية الفلسطينية نموذج واضح للكيفية التي نظر بها للقضايا المعاصرة نظرة فقهية تقوم على الموضوعية والتجرد والاستنباط الدقيق للحكم الشرعي، وهو ما يجعل كل يوم يمر علينا يشعرنا بالواقعية الشديدة لتلك الفتوى وبالندم عليها، بينما نجد أنفسنا نفقد كل يوم قطعة من أرض المسلمين وقبل ذلك نفقد الكثير من أرواحهم.