«إذا المسلم يوما أراد الحياة...»

زكي نجيب محمود وتجديد الفكر الديني محمد صلاح عبود

TT

لا أعرف كاتباً من كتاب التنوير والاصلاح الديني عندنا صور محنة الاسلام كما صورها الدكتور زكي نجيب محمود، ولك ان تقول محنة الاسلام او محنة المسلم حسبما يحلو لك من رغبة في التجريد الفلسفي أو التخصيص الانساني، وهي محنة العالم الاسلامي الذي أصابه التخلف حتى أصبح في مؤخرة الركب الحضاري في عصرنا هذا بعد ان كانت له ذات حين قيادة وريادة. هذا هو السؤال الذي كان يلح دائماً وأبداً على مفكرنا الراحل، ليتساءل بعد ذلك ـ كيف يعود العالم الاسلامي الى قوته؟.

ويرد زكي نجيب محمود على السؤال الأول فيقول ان الذي انتهى بنا الى موقف المتسول المحروم في دنيا العلم والابتكار اننا اخطأنا منزلة العلم بأسرار الكون في العقيدة الاسلامية. ان اكذوبة الأكاذيب ـ يقول ـ هي ذلك الباطل الذي شاع وذاع حتى ملأ القلوب والأسماع بأنه إما الاسلام وإما هذا العصر بعلومه وفنونه. في حين ليست هناك خاصة واحدة من الخواص التي على دعائمها قام هذا العصر بحضارته الجديدة ألا وهي خاصة حضنا عليها الاسلام. أم ان في الاسلام ما يصدنا عن العلم؟ بل ان القرآن الكريم لم يرد للانسان علماً مجرد العلم بل أراد له رسوخاً فيه كما هداه الى وجوب التفرقة بين العلم والظن أي العلم الذي لا يعرف الهوى.

فلدى المسلم كتابان: القرآن الكريم ومنه يستمد المسلم المبادئ والقواعد التي يقيم عليها حياته السلوكية، وكتاب الكون يستمد منه المسلم (وغير المسلم) قوانين العلم. ونحن الآن نفخر ونفاخر بما فعله المسلمون في القرون العشرة الأوائل من تاريخ الاسلام، وعلى وجه الخصوص القرون الأربعة الأولى منها في مجالات الطب والكيمياء والرياضيات والفلك والرحلات والتاريخ، فضلاً عن الشعر والنقد والفلسفة. فكيف تحقق لهم كل ذلك؟ لأنهم وجهوا جهودهم بالعناية بالكتابين معاً. وجهوا جهودهم نحو علوم القرآن، ووجهوها في نفس الوقت نحو الكون يقرأون ظواهره ليصفوها ويحللوها وليستخرجوا قوانينها. فكان اسلافنا المسلمون هم وحدهم فرسان الميدان. ثم تحول الموقف تحولاً حاداً منذ القرن الخامس عشر الميلادي حيث اتجهت أوروبا بكل عقولها وقلوبها لدراسة طبيعة الظواهر الكونية يدرسونها ووقفنا نحن وقفة الأشل.

إذن فالرد على السؤال عن الوسيلة التي ننهي بها محنتنا او مأساتنا هو ان نجعل اسلامنا على نحو ما كان اسلام الأسبقين عندما كان عالم الرياضيات او عالم الطب او عالم الكيمياء مسلماً عالماً لا (مسلماً وعالماً) بمعنى ان العبادة عنده كانت ذات وجهين، بالوجه الأول منهما يعبد الله بالأركان الخمسة والوجه الثاني يبحث في خلق السماوات والأرض وما بينهما كما أمره القرآن الكريم.

انه لا يرى ان تكون العبادة في قوله سبحانه وتعالى «وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون» مجرد أركان الاسلام المعروفة وانما بذل الجهد الدؤوب الذي لا يفتر لحظة على طول الحياة الواعية، محاولاً ان يعرف الى آخر نفس يلفظه الانسان المجتهد، أي يكون المسلم عابداً ايضاً بعلمه واستخدامه لذلك العلم. كذلك فالقراءة في «اقرأ باسم ربك» هي من الأوامر الالهية الاولى نزولاً. فهل نخطئ اذا قلنا عن القراءة انها عبادة؟ والمقصود ليست القراءة الآلية وانما القراءة التي تفك بها الرموز فتكشف عن الكنوز المكنونة. فهي قراءة مزدوجة، فرع منها يقرأ الكلمات وفرع آخر يقرأ مخلوقات الله، والفرعان كلاهما يستهدفان هدفاً واحداً وهو المعرفة بعد فك الرموز والكشف عما تعنيه.

وقد يقول البعض: أي علم والعلماء عندنا يعدون بعشرات الألوف، والدكاترة وحدهم من هؤلاء العلماء يبلغون عشرات الألوف؟ ويرد زكي نجيب محمود بأنه رغم فضل هؤلاء وتحصيلهم ومؤهلاتهم ومؤلفاتهم فهم لم يحققوا أمرين بغيرهما يتعذر علينا الوصول الى ما نبتغيه: الامر الأول انهم في اكثر الحالات حافظون لما صنعه سواهم ينقلونه من مراجعه نقلاً أقرب الى التكديس والتجميع منه الى التفكير المبتكر الأصيل، ولا فرق بين ان يكون المنقول عنهم هم اجدادنا نحن او أبناء الغرب وثقافته وحضارته. والأمر الثاني انهم يحفظون ما يحفظونه وينقلون ما ينقلونه من دون ان تتغير عند اكثريتهم الغالبة ذرة من حيث منهج التفكير العلمي فيظلون ينظرون الى الدنيا كما كانوا ينظرون.

وقد سئل رحمه الله مرة: ألا يكفينا اسلامنا ويغنينا عن الغرب؟ ورد: نعم يكفينا شريطة ان ننفذ خلال كلماته الى ما ترشد اليه هذه الكلمات. فلنحفظ تلك الآيات الكريمة ولنعلم اطفالنا ان يحفظوها ولنتلها تلاوة لا تنقطع بالليل او بالنهار، لكن كل ذلك لا يجعلنا من «العلماء» الذين عرفوا شيئاً عن خلق السماوات والأرض، الا اذا أضفنا الى الكلمة ما وراءها. فاذا اتجه المسلمون بايمان راسخ وارادة واعية كاملة نحو دراسة العلوم لا من حيث هي مذكرات تحفظ بل من حيث هي ضرب من عباد الله عز وجل لأنها نظر في خلق الله لاستطاعوا لا ان يقفوا عى خط واحد مع الغرب فقط وانما لاستطاعوا ان يتميزوا في هذا المجال عليه. لماذا؟ لأنهم بحكم اسلامهم موجودون نحو «التوحيد» بكل معنى من معانيه وهذا يستتبع عند المسلم توحيداً لشخصيته هو وتوحيداً للكثرة الظاهرة من كائنات الكون، وهو ما ينقص العالم الغربي.

ويذكرنا بان عقيدة المسلم هي ان الاسلام دين لكل زمان ومكان. والأساس هو استناد الاسلام الى «العقل» أي الحقيقة العلمية، ولهذا كان الاسلام آخر الرسالات الدينية. اقراره لعقل الانسان واحكام ذلك العقل في استدلالاته اذا ما التزم فيها بمنهج العلم في كل ما يطرأ من قضايا ومشكلات العصر الذي يعيشه والمكان الذي يحيا فيه. فالمطلوب من المسلم الجديد هو علم بمعناه الحديث، علم مبتكر لا منقول، علم محصته المناهج العلمية، ومزيد من هذا العلم ثم مزيد من المزيد.

لقد قرأت بشيء من الحسرة حديثاً قريبا للدكتور احمد زويل الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء ويقول فيه انه في دول عربية كثيرة ينظر الى التقدم العلمي على انه نوع الرفاهية. وان الطريق الى حل عادل للقضية الفلسطينية مفتاحه انتفاضة علمية للعرب، وللأسف لا أرى ارادة عربية قوية لتغيير هذا الوضع من خلال خمس او عشر سنوات. ان التفكير العلمي الذي ينتج لنا علماً اصيلاً هو فريضة اسلامية، لكنها فريضة لا تؤدي ـ كما يقول زكي نجيب محمود ـ وانت متربع على مقعدك شاخصا ببصرك الى فراغ سارحاً بخواطرك الى غير هدف. كلا ولا هي فريضة تؤدي بتكرار الآيات الكريمة.

من أين اذن نبدأ او الى أين ننتهي؟ يجيب زكي نجيب محمود قائلا: ان الخطوة الأولى من طريق سيرنا هي ان نضع اصابعنا على مفتاح العصر الذي سميناه القرن العشرين، إذ كم نخدع انفسنا بما نحن فيه فنتوهم او نوهم الناس اننا قد بلغنا الأوج، والعلة هنا هي اننا نخلط بين ما هو مجد قديم وبين ما كان ينبغي ان يكون مجداً جديداً. على ان هناك فوق تلك العلة علة أخرى أشد استعصاء، وهي ان عدداً ضخماً من أولي الرأي فينا لا يعرفون عن روح عصرنا لا قليلاً ولا كثيراً. والى جانب العلتين علة ثالثة تؤدي بنا الى حالة خداع النفس التي نعيش فيها، وهي اننا ننظر الى حياتنا فنجد على ساحتها كل صنوف الآلات والأجهزة التي عرف بها عصرنا فنظن اننا دخلنا العصر من أوسع ابوابه ونظن اننا من أبناء القرن العشرين حقاً، حضارة وعلماً وثقافة، وما نحن كذلك.

كذلك يشير الدكتور الى هؤلاء الذين يسيطر عليهم شبح بشع مخيف اسمه الغزو الثقافي، يظنون بكل ثقافة تأتي من الخارج غزوا يجب ايقافه ومنعه. وحقيقة الأمر ان الثقافة العصرية بعلومها وفنونها وآدابها هي بالفعل خطر عليهم لأنها تحمل من العلم ما لا يعلمون ومن الفن ما لا يقدرون ومن الأدب ما لا يتذوقون. فالأمر في حقيقته لا يزيد ولا يقل عن دفاع غريزي عن النفس. انها حالة تنتاب الرؤوس في مراحل الضعف، لكنها تختفي اختفاء تاماً في مراحل القوة. انظر الى العرب الأوائل عندما بلغوا من القوة ما بلغوا في صدر الاسلام، لقد فتحوا ثغورهم جميعاً لكل ثقافة تأتي من خارج حدودهم، أياً ما كان مصدرها. وهي إن لم تأتهم من تلقاء نفسها أتوا بها عامدين. جاءتهم ثقافة وأرسلوا رسلهم ليجيئوا لهم بثقافة ولم يخطر لأحد منهم ـ الا نادراً ـ ان يقول قائل منهم انه «غزو ثقافي»، وذلك لأنهم كانوا اصحاء اشداء لا يخشون على انفسهم لفحة البرد او حتى ضربات الصقيع. فهم فتحوا صدورهم وقلوبهم وعقولهم، من غير خوف، فلا بارك الله أنفس الجبناء.

=