رحم الله الشيخ نحناح فقيد الجزائر والإسلام

محمد الهاشمي الحامدي *

TT

انتقل الزعيم الإسلامي الجزائري المعروف الشيخ محفوظ نحناح ظهر الخميس 19 يونيو (حزيران) الحالي الى رحمة الله الواسعة. الموت حق، وكل نفس ذائفة الموت، ولكن مصاب الجزائريين وكثير من المسلمين في فقد الشيخ محفوظ مصاب جلل. ففي بلد عانى من الاقتتال والتناحر، وهان فيه دم المخالف في الرأي على كثير من محترفي العنف والقتل والفوضى، وتفنن المجرمون في أساليب ذبح الضحايا الأبرياء، واختلط الحابل بالنابل سياسيا وفكريا، وأصبح الإسلام ذاته موضع نزاع واستقطاب بين أبناء الجزائر الذين وحدتهم الراية الاسلامية من قبل لمواجهة الاستعمار.. في خضم هذه الفتنة الهوجاء، الزم الشيخ محفوظ نفسه بألا يتورط من قريب أو من بعيد في كل ما من شأنه أن يؤدي لإراقة الدم الجزائري، ورفض العنف منهجا لخدمة الدين أو السياسة، ودافع عن خيار الوحدة الوطنية الجزائرية في كل آن وحين.

كان هذا هو الاختبار الأهم لأي سياسي جزائري في حقبة التسعينات، إذ برز في الساحة كثيرون ممن نظروا للعنف ودافعوا عنه أو تستروا عليه لحساب السلطة أو لحساب الجبهة الاسلامية للانقاذ والجماعات المتفرعة عنها. وقد نجح الشيخ محفوظ في الاختبار نجاحا باهرا حينما حرم الاقتتال جملة، وحرم الدم الجزائري على جميع المختصمين، وألزم أنصاره في حركة مجتمع السلم بأن يصبروا ويلتزموا نهج السلم مهما واجهوا من ضغوط واستفزازات. ونجح الشيخ مرة اخرى عندما صبر على هذا النهج في مواجهة منتقديه داخل الجزائر وخارجها، علما بأن صفوف منتقديه ضمت وجوها بارزة من الاسلاميين العرب. سمع الشيخ نحناح تلك الانتقادات، وواجه الذين اتهموه بالجبن والخيانة، وتمسك بمقتضيات الأدب والأخلاق في الرد عليهم، ولم يساوم أبدا على موقفه المعارض للعنف والاقتتال بين بني وطنه.

على الصعيد الحركي الإسلامي، برز الشيخ محفوظ نحناح رمزا للاعتدال، ومد يده على الدوام للحوار مع الحكام وقادة التيارات الفكرية والاحزاب السياسية العربية والاسلامية. وحاضر في المنابر الدولية المختلفة مدافعا عن نهج الاصلاح المتدرج الذي يستوعب حقيقة الاختلافات الكبيرة التي تشق مجتمعاتنا المعاصرة، لكنه لم يحد عن التزامه بالمرجعية الاسلامية ولم يفتر في الدعوة إليها اساسا لتطوير أوضاع بلاده وبلدان العرب والمسلمين.

في السياق التونسي، كان الشيخ محفوظ نحناح منزعجا أشد الانزعاج من حالة المواجهة والقطيعة التامة التي حكمت العلاقة بين حكومة الرئيس زين العابدين بن علي وحركة النهضة.

وأذكر أنني عندما سعيت عامي 1998 و1999 لتحريك ملف المعتقلين الإسلاميين وملف حركة النهضة، ضمن ملفات اخرى متعلقة بتوسيع المجال الديمقراطي في تونس، والتقيت بالرئيس زين العابدين بن علي ودافعت عن فكرة العفو الخاص والتطبيع المتدرج لهذا الملف، واجهت معارضة قوية من طرف شخصيات كثيرة في السلطة وفي النهضة، ولكنني وجدت التشجيع الكامل من الشيخ محفوظ نحناح ، وكان يرى دائماً ان جمع كلمة أبناء الوطن الواحد من أفضل اعمال البر والخير ومن أجل وجوه خدمة الدين والوطن. وقد حرص الشيخ نحناح على زيارة تونس، وحاول أن يقدم بالقدوة العملية وبالنصيحة الأدلة القاطعة على أن التعايش بين الحكام والإسلاميين ممكن إذا توفرت النية الصالحة والإرادة الفاعلة.

وقد أحسن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وأجاد وتفوق على كل كاتب وأديب في ما تضمنته برقية العزاء التي بعث بها الى آل الفقيد. وهو عدد مناقب الشيخ محفوظ نحناح وسوابقه في خدمة الجزائر وشعبها ووحدتها الوطنية، فقدم بهذه التعزية ذاتها مثالا نادرا على سمو السياسة في لحظات الصدق.

رحم الله فقيد الجزائر والإسلام، وأدخله بفضله وكرمه فسيح جناته، مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. وأحسن الله عزاء أهله ومحبيه ومواطنيه، و«إنا لله وإنا إليه راجعون».

* كاتب تونسي