اتساع دائرة الشيخ «المرجعية» لتشمل المعارف الدنيوية يقف حائلا دون تقدم المجتمع

عبد العزيز القاسم

TT

تتداخل أحكام الدنيا مع احكام الدين بما تفسحه الشريعة كتابا وسنة من دوائر الاباحة والاذن، ففي مجال المعرفة تحيل النصوص الى مصادر المعرفة البشرية والكونية، تفكرا واستقراء واستنباطا، تأتي الاحالة الى هذه المصادر لتحقيق المعارف الايمانية والتاريخية.. كما يحيل الكتاب المسلمين الى مشورة الامة، واوامر السلطة التي لا تنقض الشرع، ويسند القرآن الكريم الى العقود انشاء الالزام ما لم تنقض الشرع ايضا.. وهكذا تتوالى اسباب التداخل بين الدين والدنيا، بين النص وفكر الانسان، بين حكم الشرع واتفاقات البشر، وهنا يبرز الاشكال القديم الجديد: أين دور الشيخ أو الفقيه؟ هل دوره بيان الواجب والمباح؟ وعلى هذا الاساس تتحول الامة الى مترقب لتوجيهات الفقيه ليفتي في كل صغير وكبير، وهنا يتعثر الفقيه لأنه ببساطة لا يستطيع طوي المعارف، والمهارات التي تضخها البشرية في ارجاء الحياة. ومع العجز عن التقاط هذه المعارف يرتبك دور الفقيه فتتداخل العناصر الشرعية التي يعرفها بالعناصر البشرية التي لم يحط بها خبرا لتشوش موقفه، فيخبط في الدين والدنيا، وقد يصل الى درجة الاساءة الى المجتمع فيهما وتختزل اصول الارتباك في تحليل الحرام أو تحريم الحلال وكلاهما عدوان على الدين والدنيا، وعلى الإنسان والدين.

وقد يتخذ الشيخ دوره ببيان الواجب والمحظور، وهنا يجمع على نفسه علمه ويتبع مواطن قدراته فيستمسك بما يعلم ويفوض الى غيره ما لا يعلم، ثم ينطلق ملاحقا نقاط الالتقاء بين علمه وعلوم الآخرين، ومع تشعب علوم الدنيا يسمح الشيخ والفقيه بتشعب علوم الدين لينطلق الفقه ملاحقا مناطق التماس بحذر واستيعاب لا يفوت معه مباح، ولا يمنع به مأذون فيه، وفي الوقت نفسه لا ننتهك لله حرمات يجب صونها من شرائعه وهديه.

إن هذا الدور يستلزم تقسيما جديدا للفقه، وتوصيفا جديدا للفقيه، فبهذا المعيار يصبح الفقيه جزءاً من كل معرفة بشرية، لكنه الجزء المرتبط بالحظر والوجوب في الشريعة، وهذه التجزئة الفقهية ستتصدى لدور يشبه الدور الذي وكل الى الاخلاقيات التطبيقية ـ كما تسمى في فلسفة الاخلاق المعاصرة ـ ويقتضي في هذا الدور تشكيلا جديدا لهيكلية الفقه بحيث يكون لدينا الفقه الاداري، وفقه الصنائع، وفقه المعلومات، وفقه الخصوصية الشخصية، ولهذا الفقه سمات جديدة أهمها العودة للكليات والمقاصد العامة لتكون دليلا ارشاديا يعصم من الانجراف خلف الجزئيات التي مركزها كليات معاصرة ومرجعها الفكر الوضعي المخالف في مقاصده الكلية مقاصد الشرع. ومن سمات هذا الفقه اعادة صياغته ليكون متاحا للمتخصصين في العلوم المختلفة بحيث يقدم لكل قطاع ما يهمه من الفقه فللطبيب فقهه، وللمهندس فقهه، وللبيولوجي فقهه، وهكذا، ومن سمات هذا الفقه ايضا الحركة الدائبة. ذلك انه فقه يحكم واقعا سريع التحول والتبدل فهو بحاجة الى قدرة قوية على التثبت بالاصول، وقدرة مماثلة على تجاوز القيود التي لم يثبت لزومها من الله برهان. ومن سمات هذا الفقه ايضا القدرة العالية على ملاحظة تطورات فروع المعرفة وتطبيقاتها التي ينظمها هذا الفرع العملي أو العلمي أو ذاك، بحيث يكون الفقه حيا متفقا في احاطته وقدرته.

وعلى الناحية الثانية فإن هذا الدور الفقهي الجديد يستلزم تفريقا حاسما بين الفقه كوسيلة بيان وتحليل الواقع واحكامه وبين الفقه كوسيلة للسلطة المعرفية.. ويترتب على هذا التفريق ان يتخذ الفقه السلطة ادواتها، ولفهم الواقع تقرير احكامه ادواته، ويتضح ذلك من خلال استعراض الخلط الذي نراه في تقرير الاحكام بين تقمص الفقه لممارسة السلطة وبين استخدام ادوات الفقه للفقه، وبيان ذلك ان الفقه قد يستخدم لبيان الحكم وقد يستخدم للزجر بحيث تتحول الفتوى الى وسيلة للقسر، فتلجأ الى فقه سد الذرائع حتى يبتعد الفقه عن الناس فليلتفت الناس عن الفقه، وكان من الضروري ممارسة القوة من خلال وسائلها فإذا اردنا حراسة الاخلاق فلن يفيد الناس كثيرا ان نمارس تصعيدا فقهيا لتحويل كيفية الحجاب من نطاق المسائل الخلافية لتكون مسألة قطعية وربما عقائدية رغم تقدم الخلاف. ولن يرتدع الناس عن اللهو بأفلام الصور المتحركة لمجرد تصعيد مستوى الحكم الفقهي فيها، بل التغير الجاد في المجالين يتطلب القوة، والقوة المطلوبة في المجالين هي القوة المنافسة بأدوات مماثلة، بحيث تتحول رسالة الاعلام المنافية للاخلاق الى رسالة جديدة جوهرها حماية الاخلاق، واعادة تصحيح البنية العائلية لتعود مؤسسة الزواج الى فاعليتها التي انهكتها روح الطفرة والكثلكة التي ضربت الحركة النشطة لهذه المؤسسة بعد ان كانت المرأة تنتقل من بيت الزوجية الى آخر والزوج مثلها دون معرة أو قيود.. وما يقال عن حراسة الاخلاق يمكن قوله عن رسوم الاطفال، بحيث يوظف الابداع والانتاج لتقديم جوهر القيم والفضائل الاسلامية لتملأ حياة الاطفال بحيث يوظف الفقه الايجابي بدلا من الفقه السلبي الذي يعرف المحظور ولا يبدع بدائل الاباحة.. ومثل ذلك يمكن ان يقال عن فقه الاجتماع المدني بحيث تتحول العلاقات المدنية المنظمة الى نوع من آلية تزيل المصالح، وتدفع المفاسد من جهة، وآلية لتقسيم المهام الواجبة بفروض الكفاية ليتحقق بذلك تخصيص منظم للموارد البشرية باتساق مع الفروض الكفائية، وبذلك سيفتح ابواباً جديدة، وآفاقاً للدعوة والتصحيح بدلا من حالة الغربة التي شلت كثيرا من الطاقات عن العمل.

ان مما يؤكد وجوب الاصلاح الفقهي ما نراه من خلط شبه متعمد بين المحظور والمباح في الفتوى بحيث اتجهت الهمم الفقهية الى الحظر وضمرت الجهود في استكشاف عناصر الاباحة لفرزها وعزلها عن نطاق الحظر، وتأتي أهمية الفرز هذا لأنه هو الطريق لتنبيه الافهام وشحذ الهمم نحو البدائل، هذا مع ان لباب اصول الشريعة التفريق بين المتفرقات ولهذا جاءت الشريعة بالتفصيل في مقام التفصيل، وورد النهي مفصلا حين يرد على محل اختلطت فيه الاباحة والحظر. فالبيوع مثلا قسمت الى مباح ومحرم، والمحرم تم فرزه الى محرم من اصله كالقمار، ومحرم لوصف معين يمكن عزله كالسلم فقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بتقييده، ولهذا فرق الفقهاء بين المانع والشرط رغم كثرة تداخلهما، ذلك ان خلط المانع بانعدام الشرط يفضي الى توسيع الحظر الذي لم يقم دليله.

إن اقتحام الفقهاء لتفاصيل الحياة اقتحاما ايجابيا لن يكون تضخماً للفقه غير مرغوب، بل سيكون سدا لفراغ يفتقر الى التنظيم، ومن هذا الوجه كان دور فقهاء الاخلاق ـ الغربيين ـ دورا ايجابيا يرحب به الجميع، كما ان دور فقهاء القانون المعاصرين دور ايجابي ينتظره الجميع، اذ بهذين الدورين ـ دور الاخلاقيين والقانونيين ـ تنتظم الحقوق ويستجاب لوخزات الضمير.

فهل يركد الفقه لينتج فقه الحظر، أم ينطلق ليتدفق بفقه الايجابية؟ هل هو ما يحدد وصف دور الفقيه تضخما وفاعلية حية؟