لـ «الشيخ» مكانة رفيعة أقرتها الشريعة وجعلته فاعلا في كل قضايا المجتمع

خالد الشايع

TT

لا يخفى ما لأهل العلم من المكانة السامية والمنزلة العالية، وهذه المنزلة ليست منحة من الخلق او عطية من الوجهاء، بل انها منزلة شرفها الخالق وعظمها ففي الحديث الصحيح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم انه قال: «العلماء ورثة الأنبياء، ان الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن اخذ به فقد أخذ بحظ وافر» رواه أبو داود والترمذي وغيرهما. ومعلوم انه لا رتبة فوق النبوة ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة.

ولأجل ذلك فقد زخرت نصوص الكتاب والسنة بذكر فضل اهل العلم وحملة الشريعة، ونوهت بمكانتهم بأساليب عدة، كما في قوله تعالى: «شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط» آل عمران 18. فانظر كيف استشهد الله العلماء على هذا الأمر العظيم بعد ان بدأ سبحانه بنفسه وثنى بملائكته.

ومن ذلك قوله تعالى «يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات». المجادلة 11. وقوله تعالى «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون» الزمر 9. وقوله تعالى «إنما يخشى الله من عباده العلماء» فاطر 28.

ولما كانت منزلة العلم واهله بالمكان الذي نصت عليه نصوص الوحيين فإنها ايضا ليست دعوى يدعيها كل احد بلا مستند ولا برهان، فالعلماء معروفون بصفاتهم واعمالهم وآثارهم في الناس، انهم العلماء العاملون، المهتدون بهدي النبي صلى الله عليه وسلم السائرون على منهج السلف الصالح، الداعون الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، الصالحون في انفسهم، المصلحون لغيرهم. ومن فقه الامام البخاري ـ رحمه الله ـ قوله في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من «الجامع الصحيح» باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى «واجعلنا للمتقين إماماً» قال: أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا.

وقال البخاري ايضا: وقال ابن عباس: «كونوا ربانيين» حلماء فقهاء، ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره مما لوحظ عبر تعاقب الاجيال ان المجترين على مقام العلم كثيرون، وافسادهم بجهلهم خطير وكثير، ولهذا حذر الله جل وعلا من هذا المسلك وقرنه بالشرك به سبحانه، بل اعظم منه، فإن الله سبحانه لما عدد المحرمات قال في تمامها «وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون».

والمدعون للعلم المجترون عليه تظهر آثار جهلهم في فلتات ألسنتهم ولحن قولهم، خاصة أولئك الذين يريدون تبديل كلام الله بتمييع الدين وجعل كل شيء حلالا مباحا، ولو لم يكن كذلك، بزعم التيسير تارة، وبزعم مسايرة العصر تارة، وبغيرها من الدعاوى، ولكنهم مهما تكلموا فإنهم كما قيل من تكلم في غير فنه اتى بالعجائب. مما دلت عليه نصوص الوحي ان الناس اذا تباعدوا عن زمن الرسالة احتاجوا اكثر واكثر للعلم، وهذا يجعل الناس محتاجين الى العلماء الذين ينشرون بينهم العلم قولا وعملا اعظم من حاجتهم الى اطباء الابدان، ويتأكد ذلك من تكالب الاعداء على الامة ومستقبلها.

واذا كانت الحاجة بهذا القدر فان ذلك يضاعف التبعة والمسؤولية في حق اهل العلم، فيتعين حينئذ بذل كل ما يمكن لاجل انتشال الامة من وهدتها والارتقاء بها الى عليائها، فلا مكان محمودا ـ والحال كذلك ـ لشيخ او طالب علم او عالم يكل عن النهوض بعبء المسؤولية وتبعات التشريف الذي ميزه الله به لكونه منعما عليه بالعلم الذي يهدي الامة ويحييها. وهذا ما جاء التنبيه اليه في قول الحق تبارك وتعالى: «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون» آل عمران 187.

قال الحافظ بن كثير رحمه الله: هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين اخذ الله عليهم العهد على ألسنة الانبياء ان يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وان ينوهوا بذكره في الناس فيكونوا على اهبة من امره، فإذا ارسله الله تابعوه، فكتموا ذلك وتعرضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف والحظ الدنيوي السخيف، فبئس الصفقة صفقتهم وبئس البيعة بيعتهم، وفي هذا تحذير للعلماء ان يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما اصابهم، ويسلك بهم مسلكهم، فعلى العلماء ان يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العلم الصالح، ولا يكتموا منه شيئا، فقد ورد الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» انتهى. وغير خاف ان ذلك لا يعني انسياق الشيخ او طالب العلم للادلاء برأيه في كل قضية بل لا بد ان تكون في مجال يمكن ان يفيد فيه، سواء كان من امور الدين او الدنيا، وما لا علم له به يمسك عنه، ومما يدل لهذا ما ثبت عن عائشة وانس ان النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون «يؤبرون النخل» فقال: «لو لم تفعلوا لصلح» قال: فخرج شيصا، فمر بهم فقال صلى الله عليه وسلم: «ما لنخلكم»؟ قالوا: قلت: كذا وكذا، قال: «أنتم اعلم بأمر دنياكم» رواه مسلم.

بل وحتى اذا كانت المسألة شرعية يعلمها، فحقه المراجعة والتثبت، فقد اثر عن الامام مالك ـ رحمه الله ـ قال: من اجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب ان يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف خلاصه ثم يجيب. وعن محمد بن المنكدر ـ رحمه الله ـ قال: «ان العالم يدخل فيما بين الله وبين عباده فليطلب لنفسه المخرج».

وختاما: حري بأهل العلم ان يكون لهم اثرهم في تثبيت الناس وبيان الحق لهم، وألا يكتفوا بشأن انفسهم ونجاتهم، فإن مقتضى تفضيل الله لهم بالعلم ان يسعوا لبيان الحق للناس، وألا يكتموا ما عندهم من البينات والعلم، خاصة عند اشتباه الامور، فإن من القواعد المقررة: انه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.