لم تعد للشيخ مكانته التاريخية لأنه لم يعد اليوم مؤهلا لها

عبد الله بن بجاد العتيبي

TT

ليس غريبا على الاسلام ان يكون مهتما بشكل خاص بأولئك العلماء الذين يهتمون بدراسته وبيان احكامه الذين عرفوا فيما بعد بـ (الفقهاء) أو (المشايخ)، فهو اهتمام مبرر جاءت النصوص مؤكدة له وحاثة عليه «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين». و(الشيخ) في الادبيات الاسلامية المعاصرة لفظ عائم مبهم، تتحكم في تشكيله واستحقاق الافراد له عوامل ليس لها علاقة بمدى علمه أو ذكائه، وإنما تتم من خلال تركيبة معقدة من العلاقات والعوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فتتداخل هذه العوامل لتخرج لنا تركيبات متباينة لحد التعارض من نسخ المشايخ.

قد كان للشيخ في التاريخ الاسلامي دور اريد له ان يعمل بالتوازي مع ادوار أخرى لافراد آخرين، وهو ما تجلى في عصر الصحابة رضوان الله عليهم، حيث كان فيهم الفقيه المتخصص وكان فيهم المحدث وكان فيهم القائد العسكري وكان فيهم ذو الرأي وكان فيهم المزارع والفلاح والتاجر وغيرهم في منهج قائم على (تكامل) الجهود عبر (التنوع) في الاهتمام بحيث تبحر سفينة الاسلام وهي توظف كل طاقة وكل ابداع في مكانه وموضعه اللائق به والاكثر فائدة للأمة ككل.

ولكن الامر تطور سلبا كلما تحرك التاريخ الاسلامي قدما، فتضخم دور الشيخ حتى رأى نفسه مؤهلا للحديث في الجيوش وقيادتها والتجارة ومضارباتها والمجتمع وحركته والعلوم بشتى اصنافها، فهو الوحيد القادر على الحديث في (كل) مجال والحكم على كل عالم أو علم، مهما كان جاهلا بذلك العلم وبأصوله الأساسية، فهو يتحدث عن علم النجوم والفلك وعلمائهما ويتحدث عن الكيمياء والفلسفة وعلم الكلام.. وغيرها من العلوم، ويتحدث في الاصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وغيرها في تضخم كبير لدوره ومكانته في المجتمع على حساب ادوار لا تقل عنه أهمية في بناء الحضارة وعمران الارض. ولئن كان المسلمون قديما قد استطاعوا تجاوز هذا الخلل والتضخم المرضي لدور الشيخ بسبب قوة الدفع الحضارية الاولى وزخمها الكبير، فإن الأمر لم يعد اليوم كذلك واصبحنا مجبرين على وضع النقاط على الحروف واعادة الشيخ الى قواعده سالما.

فاليوم مع التطور العلمي في المجالات العلمية والعملية الأخرى بدا الشيخ يفقد كثيرا من مكتسباته (التاريخية) وليست الشرعية، لحساب علماء وأفراد آخرين، ذلك ان العلوم تطورت في العصر الحديث بشكل مذهل واصبح وجود (الشيخ الكامل) مستحيلا، لأن الانسان مهما كان متميزا يستحيل ان يحيط بكل هذا التطور العلمي الكبير.

فعلوم الاجتماع مثلا، وهي علوم تختلط مساحة حركتها كثيرا بمساحة حركة الشيخ التاريخية، هي علوم تطورت بشكل كبير في عصرنا هذا واصبحت تتعامل بحرفية عالية مع عدد كبير من المتغيرات بكفاءة عالية، وهو الأمر الذي ما زال الشيخ يفتقده بكل جدارة، وقل مثل ذلك بل اكثر منه في علوم الاقتصاد والاعلام والسياسة ونحوها.

فالشيخ اليوم لم تعد له تلك المكانة التاريخية لأنه ببساطة لم يعد مؤهلا لها، ولأن غيره اصبح اكثر اتقانا منه، فرصد حركة المجتمع وحاجاته يقوم بها عالم الاجتماع بكفاءة لا يصل الشيخ لبعضها، والحركة والضرورات الاقتصادية يحددها عالم الاقتصاد المتخصص وليس الشيخ، وقل مثل ذلك في بقية المجالات التي تحدد صلاحيتها مصلحة الامة وليس مزاج الشيخ.