شمولية الإسلام لا تعني شمولية الحركة الاسلامية

أبو العلا ماضي

TT

منذ قيام الدولة الاسلامية الاولى في عهد النبوة لم تظهر مشكلة بين الدين والسياسة، فالدين الاسلامي يجمع بين العقائد والعبادات والاخلاق والمعاملات فهو بالتالي مشروع حضاري نهضوي متكامل في اطاره مبادئ وقيم الاسلام، وأسس هذه الحضارة الاسلامية على هذا الاساس وجمعت بين دفات هذه الحضارة المسلم وغير المسلم (يهود ـ مسيحيين ـ اتباع ديانات اخرى) كانوا ابناء للحضارة الاسلامية مع احتفاظهم بعقيدتهم الدينية وعباداتهم الى ان تدهورت احوال الامة الاسلامية والحضارة الاسلامية، وظهر دعاة العلمانية الحديثة الذين تأثروا بما حدث في اوروبا، حيث عم الظلم والفوضى ومحاكم التفتيش الكنسية الغربية، فتمرد الناس عليها ونادوا وطبقوا ونجحوا في ذلك اي في فصل الديني عن السياسي (بالطبع يجب ادراك طبيعة الدين المسيحي وحيث انه لا يشمل تشريعا ينظم حياة الناس ومعنى الدين هنا كانت سلطات رجال الكهنوت على الناس). وفي ظل التدهور الذي اصاب الامة الاسلامية كما اشرنا ظهر دعاة التغريب والعلمنة الذين تأثروا بالنموذج الغربي لفصل الديني عن السياسي (والديني هنا كذلك يختلف لأن الدين هنا في الشريعة الاسلامية والقوانين والاحكام الموجودة في الاسلام فعلا وليس سلطة رجال الدين كما في الكنيسة الغربية)، فظهر علماء ومفكرون وحركيون يرفضون ذلك ويدعون الى الالتزام بالاصل بأن الاسلام معتقد ديني ونظام حياة ومن هؤلاء امثال الامام محمد عبده وجمال الدين الافغاني ورشيد رضا وحسن البنا وغيرهم كثير.

ولكن طول قرن من الزمان منذ بداية القرن العشرين وحتى الآن تطور حال الامة وتغير كثيرا، ومرت تجارب لدعوات اسلامية اصلاحية وحركات اسلامية اصلاحية حققت انجازات ملموسة في تغذية ظاهرة التدين في الامة والمحافظة عليها وعلى هويتها ومقاومة رياح التغريب والعلمنة وحافظت على تماسك الاسرة كوحدة مكونة للمجتمع وعلى اشياء ايجابية كثيرة، لكنها اصطدمت في كثير من التجارب بفكرة السلطة والدور السياسي، بالرغم من ان الاسلام دين شامل ينظم حياة الناس في اعتقاد كل الدعاة والعلماء والمفكرين والحركات والتجارب الاسلامية الاصلاحية، لكن مع تعقد وتطور الاوضاع ثار تساؤل في منتهى الاهمية لكون الاسلام دينا شاملا، هل يجب ان يكون التنظيم او الحركة الداعية له شاملا؟ بمعنى ان هناك وظيفة استقرت عليها الحركات والجماعات الاسلامية هي وظيفة الدعوة الوعظية الارشادية الاصلاحية والتربوية فهل يجب ان يكون ملصق لها وظيفة سياسية تنفيذية تنافسية ام لا؟ وكان من اوائل من طرح هذا السؤال كمراجعة لسيرة الحركات الاسلامية الحديثة هو الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الاسلامية التونسية، وهو ايضا من قيادات الاخوان المسلمين على المستوى الدولي، لكنه ايضا يوصف بأنه مفكر ومنظر من الوزن الثقيل داخل الحركة الاسلامية وله اجتهادات محل تقدير واحترام وقبول في اوساط كثيرة على المستوى العربي والاسلامي، بل والدولي وبالتالي اهمية ان هذا التساؤل كان اول من طرحه شخص بوزن الشيخ راشد الغنوشي وقد اجاب بلا، ان ليس شرطا ان يكون التنظيم الاسلامي شاملا بالرغم من كون الدعوة الى المشروع الاسلامي متضمنة ان الاسلام دين شامل، وهو دعوة للتخصص في الوظائف والادوار والحقيقة اني ممن اقتنع بوجهة النظر تلك من واقع ادراك لحقيقة قيم الاسلام في العدالة، ولادراك الاضرار التي لحقت بالحركة الاسلامية والمجتمعات والدول التي تعيش فيها والمسلمون عموما من جراء هذا المزج او في الخلط بين الوظائف، خاصة «الدعوي» و«السياسي» ولعل تجربتي الشخصية في ممارسة الدور من كوني بدأت داعيا وخطيبا في المساجد، ثم انتقلت للعمل النقابي العام وبعده السياسي من خلال ارضية اسلامية فأدركت بحياد وموضوعية خطورة المزج بين الدورين، فلقد كنت انا شخصيا خطيبا في المساجد وكنت مرشحا لعضوية مجلس الشعب (البرلمان) فشعرت بخطورة تخوف غير الاسلاميين (بالمفهوم السياسي) اي انهم مسلمون ينتمون الى تيارات سياسية لا تتبنى المشروع الاسلامي بالشكل السياسي الذي يتبناه (الاسلاميون).

فأنا اقوم على المنبر بنصيحة الناس وتوجيههم وتربيتهم وهي مهمة جليلة وعظيمة والمفروض ان انصحهم نصيحة مخلصة في كيف يختارون الناس في المواقع والوظائف، وبعد ساعات اقدم لهم نفسي على انني مرشح لنفس هذه المواقع والوظائف، فشعرت بالممارسة انها غير عادلة في الفرص المتاحة للمرشح الآخر التي لا تتاح له فرصة الوجود الدعوي في المساجد هذا على مستوى الشخص، وعلى مستوى التنظيم يستفيد من انتشاره في مساجد كثيرة بالدعوة المباشرة احيانا وغير المباشرة لمرشح ذات التنظيم فهي مخلة بالعدالة هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى التكوين النفسي والادراك العام لوظيفة الداعية الاصلاحي والخبرة المكتسبة غير تماما التكوين النفسي والخبرة والادراك السياسي وكنت شاهد عيان على هذه النماذج فبعض اخواننا من الدعاة المؤثرين جماهيريا ودعويا حينما نجحوا في البرلمان لم يكن لهم اي دور حقيقي في ممارسة هذه الوظائف لأن التكوين والادراك والخبرة مختلفة وقلة من نجح في ذلك.

بالطبع التاريخ الدموي بين الحركات الاسلامية وكثير من السلطات في العالم العربي جعل من المهم ان تفصل الوظائف وتكون صريحة بمعنى جماعة تكون وعظية وارشادية تقوم بهذه المهمة منفصلة وبالتكوينات التي تسعى للمشاركة في السلطة والعمل السياسي تكون منفصلة ايضا، وان كان الشخص الواحد يستطيع ان يشارك في التكوينين ان اراد، ولكن المؤسسة كلها تقوم بالدورين فهذا أمر مضر وغير عادل وغير واقعي لتعقد المجتمعات الحديثة وصعوبة الجمع بين هاتين الوظيفتين الكبيرتين، ناهيك عن استعمال في احيان كثيرة اوصاف شرعية دينية اسلامية في مواقف سياسية لا تحتمل هذا الوصف، ويترتب عليها احكام وتصرفات وسلوك في منتهى الخطورة فتخلع اوصاف دينية على مواقف سياسية هي دون ذلك بكثير، وعليه ادعو من جماع ما سبق الى الفصل بين الوظيفتين الدعوية والسياسية في كل كيان مع الايمان والتسليم منا بأن الاسلام نفسه كدين يشمل مناحي الحياة جميعا، لكن ادراك الواقع وخبرة التجربة بالاضافة لقيمة العدل يحتم ذلك الفصل بين الوظيفتين.