المطالبة بفصل «الدعوي» عن «السياسي» تهدف إلى إضعاف نفوذ وتأثير الحركات الإسلامية

د. عصام العريان

TT

جاء الاسلام كخاتم للرسالات والشرائع متميزا ومتمما لما قبله من الشرائع وكان من آخر ما نزل من القرآن في حجة الوداع «اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا» المائدة. وتميز الاسلام بشموله لكل انشطة الحياة وتوازنه الدائم بين شؤون الدنيا وشؤون الآخرة، وتوجيه كل انشطة الانسان وجهة ربانية «قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين» الانعام.

وكان الانفصام النكد بين حياة الناس وتسييرها وبين احكام الشريعة الغراء هو اهم ما احدثه الاحتلال الاجنبي لبلاد المسلمين، ثم اراد المحتل المستغل ان يبدل ثقافة المسلمين ونمط حياتهم بعد ان نحى الشريعة جانبا، وكان المطلوب هو ان يتبع المسلمون طريقة الغربيين التي باعدت بين الدين وبين الحياة واخرجت الكنيسة من دنيا الناس ومسخت شخصياتهم وشوهت نفسياتهم حتى باتوا لا يعرفون لهم ربا ولا دينا «وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا» الجاثية. «والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام» محمد.

واذا كان السؤال عن موقف الناخب عندما يجد امام المسجد وخطيبه هو مرشح دائرته الانتخابية؟

فإن نفس السؤال يتكرر عن بقية المواقف لكل المواطنين عندما يتعاملون مع «الدعاة» الذين يوجهونهم في شؤون الدين والدنيا هم الذين يتعاملون معهم في الانتخابات والبيع والشراء والدراسة والامتحانات؟

اذن المطلوب هو ان ينسى المواطن الموقف الديني لكل من يتعامل معهم دنيويا، فهل هذا هو مقصد من يريد الفصل بين «الدعوي» و«السياسي» او «الدين» و«السياسة» بمعنى آخر؟! وهل يمكن اذا وفق هذا المنطق ان يتم حرمان طائفة من المواطنين وهم المتخصصون بحكم عملهم في الدعوة و«التدريس الديني» مثل ائمة المساجد والوعاظ واساتذة الكليات الشرعية ومدرسي المعاهد الاسلامية وكذلك النصارى «من الرهبان والقساوسة من حقوقهم السياسية، وعلى اي اساس تتم التفرقة بين المواطنين؟! وما هو الفارق بين من يمارس الدعوة كواجب شرعي ومهمة ندبه الله اليها وتكليف دعوي ينبعث من نفسه، وبين من يمارسها كوظيفة رسمية؟

وهل يتم حرمان «السياسيين» من اعضاء المجالس النيابية وغيرهم من القيام بأي واجب ديني او دعوي؟! من اين جاء الالتباس في موقف الفصل بين «الدعوي وبين السياسي»؟

عند الاجتهاد سنجد اكثر من صنف قد وقع في الالتباس.

فهناك من يريد تقليد الغرب تماما وينقل التجارب الغربية في غير محلها دون مراعاة للفروق الكبيرة بين المجتمعات العربية وتلك الغربية، خاصة في ما يتعلق بطبيعة الدين وتاريخ الكنيسة وصدامها مع الملوك والامراء ودرجة التخصصية في العمل السياسي ومقدار النضج في الحياة السياسية، ومع ذلك يريد هؤلاء ان ينسوا او يتناسوا ان هناك طائفة قوية من الاحزاب السياسية المسيحية وان هناك عودة للاصولية الدينية: مسيحية ويهودية تؤثر بدرجة كبيرة الآن في الحياة السياسية في اميركا واوروبا.

وما يجري الآن من استراتيجية اميركية للهيمنة والانفراد بقيادة العالم هو نتيجة تحالف بين اصولية مسيحية متصهينة واصولية يهودية صهيونية والمحافظين الجدد من اليمين الاميركي والمجتمع الصناعي العسكري.

وهناك من يرى اصلا ضرورة الحظر على عمل الحركات الاسلامية بالسياسة ويمنع قيام احزاب على مرجعية دينية.

وهناك من يحظر النشاط السياسي كله حزبيا او غير حزبي ويمنع على المواطنين العمل والسياسة، فلا احزاب ولا انتخابات ولا نشاط سياسي. وهناك اسلاميون مخلصون وقعوا في اسر ارهاب العلمانيين الذين يريدون حرمان المرشحين الاسلاميين من مصادر قوتهم وتميزهم فلا حقوق لهم في تشكيل الاحزاب الا بشروط قاسية ولا حقوق لهم عند الترشيح والدعاية. باختصار هو نوع من التحجيم والخطر المستمر.

وعند التدقيق في بعض حجج هؤلاء الذين يدعون الى الفصل بين الامرين واهمها هو الاخلال بمبدأ تكافؤ الفرص لجميع الفرقاء في العمل السياسي فإن الرد يكون من جهتين:

الاولى: وما الذي يمنع تكافؤ الفرص، فإن الدين ملك للاغلبية في المجتمع، والمساجد بيوت الله مفتوحة للجميع وجميع المرشحين او غالبيتهم يترددون عليها ويسعون الى كسب ود روادها، وكذلك الشأن في الكنائس. ولماذا لا يكون هناك تنافس حقيقي بين اكثر من مرشح داعية؟ لماذا لا نتصور وجود تعددية اسلامية حزبية بحيث يكون الناخب امام اختيارات اسلامية كما هو الحال في بلاد عربية واسلامية «الكويت وباكستان» بين اكثر من مرشح اسلامي على برامج مختلفة؟

الثانية: الا ينسحب القول بالاخلال بمبدأ تكافؤ الفرص على دور «رجال الاعمال» الذين يغدقون اموالهم على الناخبين: وكذلك «رجال العمل الخيري» الذين يتطلعون لخدمة المجتمع، وهكذا؟ وما بالكم باعضاء الحزب الحاكم والحكومة التي تحتكر الاعلام والنفوذ.

واذا كان الرد بأنه يمكن وضع ضوابط لحجم «الانفاق الانتخابي» فإننا يمكننا كذلك الاخذ بمبدأ ضوابط تمنع اي استغلال كان في ضوء قواعد عامة للعملية السياسية والانتخابية.

وبالنسبة لحجج القائلين بتنزيه الدين عن الاعيب السياسة. فهذه حجة باطلة يراد منها في النهاية اقصاء الدين عن الحياة.

فالسياسة عندنا نحن المسلمين يجب ان تتنزه عن المكائد والدسائس وعليها ان تنضبط بالاخلاق وليس العكس، وعلينا ان نتعود ونتمرس على تنظيف الحقل السياسي من كل من يشين وقد يكون ذلك ليس هينا الا اننا علينا ان نبدأ تلك المسيرة وقد تأخذ وقتا، ولكنها ضرورة لارساء معالم حياة سياسية اسلامية صحيحة او بالاحرى ارساء الشورى الاسلامية في صور ديمقراطية معاصرة.

واذا اقررنا بحق التعددية السياسية في المجتمع المسلم كما يقر بذلك الاخوان المسلمون في رسالتهم الصادرة في مارس (آذار) 1994 (شوال 1414هـ) فإننا بذلك نقر بحق الاختلاف بين المسلمين في شؤون حياتهم وحقهم في انشاء احزاب سياسية، فإننا وفي ظل مرجعية اسلامية بين المسلمين كافة ومرجعية حضارية اسلامية ووطنية بين كل المواطنين نرسي اساس الاختلاف على اساس البرامج المختلفة المنطلقة جميعها من توافق مجتمعي على القضايا الاساسية كما يحدث في البلاد الغربية ويكون الاختلاف في البرامج التفصيلية كما يحدث بين الحزبين الكبيرين في اميركا او الاحزاب الثلاثة في بريطانيا فلا خلاف هناك على الدستور ولا الديمقراطية ولا الحريات العامة ولا وحدة البلاد.. الخ. وعندنا لا يكون الخلاف حول هوية الامة ومرجعيتها الحضارية ودستورها الاساسي ووحدتها الوطنية وانتمائها العربي ووحدة الامة الاسلامية وهو ما شكل وعي الامة لقرون عديدة ويراد الآن ان يثور الخلاف حولها ومنذ قرن من الزمان، والجدل بين النخب هو على ذلك الانتماء وتلك الهوية وهنا يثور الخلاف، حيث تكون حجج النخب المتغربة التي تريد فصل الامة عن دينها وحضارتها وتراثها واصالتها هو ضرورة فصل الدعوي «عن السياسي» وفي النهاية عزل الدين عن مسيرة الحياة وازاحة الشريعة الاسلامية عن التطبيق في شؤون الدنيا كما اراد لها الله وهذا جوهر الخلاف.

وطالما بقيت المعركة الانتخابية حول هذا الامر سيظل الارتباك سائدا حول ما هو الدعوي؟ وما هو السياسي؟

واذا تم حسم ذلك الموضوع الجوهري لصالح اختيار الجماهير وتوافق الامة فإن هذا الالتباس سينتهي وسينطلق الجميع في برامجهم التفصيلية لحل مشاكل الناس، ومع ذلك فإن الحركات والاحزاب الاسلامية تهدف الآن الى تحقيق هدفين كبيرين:

الاول: التوافق المجتمعي حول القضايا الرئيسية عبر الحوار احيانا والانتخابات حينا.

الثاني: السعي الى تحقيق مكاسب انتخابية في البرلمان والنقابات والاتحادات بتقديم برامج تفصيلية وتبني هموم الناس كتدريب عملي على الحياة السياسية المعاصرة ومن اجل تحقيق الهدف الاول الاساسي وكذلك من اجل الاصلاح الشامل ولو تم تدريجيا وبطريقة حزبية.

وفي العمل الاسلامي فإنه يمكن التمييز بين عدة مستويات للنشاط عند التصدي لمهام متعددة ومختلفة في طبيعتها ومتداخلة في اهدافها.

1 ـ الحركة الاسلامية: وهي اكثر مستويات النشاط عموما تشمل كل الاطراف والمجموعات التي تعمل في اطار خط فكري عام حتى ولو لم يرتبطوا بالضرورة بروابط تنظيمية.

2 ـ الجماعة الاسلامية: وذلك الكيان المترابط عضويا ويلتزم في نشاطه بتوجيهات واحدة ومرجعية قيادية واحدة.

3 ـ التنظيمات والمؤسسات الاسلامية لا احزاب، نقابات، جمعيات: وهي كيانات يختار كل منها لنفسه مجالا تخصصيا محددا من مجالات العمل الدعوي ويركز نشاطه عليه ومنها الحزب السياسي، وهو ما يجب ان يخضع لقيود النشاط السياسي، وعضو الحزب السياسي هو نفسه يكون منتميا للحركة الاسلامية الواسعة وقد يكون عضوا منتظما في جماعة اسلامية.

وعلى هذا فإن السؤال المطروح ليس: هل يجب الفصل بين الدعوي والسياسي في عمل الحركات والاحزاب الاسلامية؟ بل يكون: هل يمكن الفصل؟

والجواب: انه لا يمكن الفصل لاسباب دينية واسباب دستورية وأخرى قانونية ولكن يمكن تنظيم النشاط السياسي والمجتمعي بإتاحة الحريات وتكافؤ الفرص وهنا يمكن للناخب ان يفرز الصالح من الطالح والطيب من الخبيث.

والاولى بنا ان نعمل جميعا من اجل الاصلاح الشامل دستورياً وسياسياً وحضارياً ودينياً يتيح للجميع التنافس الحر الشريف من اجل خدمة الامة الاسلامية واوطاننا الخاصة والمساهمة في بناء حضارة انسانية.