ضياع الملامح بين الفقه والسياسة

مشاري الذايدي *

TT

التباس الديني بالسياسي امر لا غبار عليه في تاريخنا وحاضرنا الاسلامي، انها ملاحظة مسلّمة لمن يقرأ تاريخ الفقه السياسي في الاسلام. وفيما يخص السؤال عن التباس الدعوي بالسياسي، فليس الامر مقصورا على ما يسمى بـ (الدعوي) فالدعوة ما هي الا الخطوة الاخيرة في مسلسل طويل من الفعل التنظيري، الدعوة تسوق خطابا ناجزا تاما، لذا فالتسديد الادق يكون الى محمول الدعوة الذي بني قبلا، المحمول الذي تلقفه الدعاة الاقل عمقا، من مصممي الخطاب الاسلامي بمحمولاته القيمية والفكرية. من اجل ذلك، فالاهم، الذهاب الى الخطاب لحظة انشائه وتصميمه.

والتباس الديني، ليس بالسياسي فقط، بل بالفكري والاجتماعي.. يجب ان ندرك ان صميم المشكلة ثقافي، فالخطاب الثقافي العربي، يعيش حالة عطالة ولعثمة في التعاطي مع فكرة المدنية والحضارة، وان تقدم فبمشقة وعنت! والسبب عقبات متنوعة تستند إلى اساس ثقافي، فثقافتنا على الاخص في منطقتنا الخليجية، هي في جوهرها ثقافة دينية، لا تحفل بأي قيمة او فكرة اخرى لا تستند الى الدين او تلوب بأركان الفقه، ولذلك فقد حصلت حالة من التضخم في دور «الشيخ» فهو الاديب والشاعر وعالم الاجتماع ورجل الدولة والمحلل السياسي الذي يعتد به.

هذا ما يفسر «تشييخ» الثقافة لدى هذا النوع من المجتمعات، فتجد رؤساء الاندية الادبية يتحلون بشارة المشايخ في الزي، مع ان دوره المفترض لا علاقة له بالفقه والشريعة، هكذا كان الادباء منذ وجدوا في تاريخنا، هم شيء والفقهاء شيء آخر ابتداء بالاهتمامات والمظهر وانتهاء بالخطاب والمنظور الحاكم، لنستحضر ابرزهم في ذاكرتنا (الجاحظ، الاصفهاني، ابن دريد..) الثلاثة، تستطيع ان تقول عنهم ما تشاء، خلا كونهم من زمرة الفقهاء او المتشبهين بهم! وفي مثل هذه المجتمعات تجد ابرز المحللين السياسيين الموثوق بهم لدى الجماهير، هم مشايخ او يطرحون انفسهم على هذا الاساس، ففي فضائية عربية خرج احد مشايخ التحليل السياسي متحدثا عن الشؤون السياسية، بلغة فقهية حركية، كان نجما لافتا في «الفتوى السياسية» مع ان تخصصه الاكاديمي بعيد كل البعد عن الشريعة وعلومها، كما انه لا يملك ثقافة دينية مقنعة، المقوم الوحيد لديه انه شيخ! ناهيك عن استاذ العقيدة الاسلامية الذي يدخل على السياسة من نافذة الايمان، لا من باب السياسية! يرى ان الخطر الاكبر على المسلمين يكمن في الاشاعرة او «المرجئة» او غيرهم، محتلا بكل هذه الترسانة العقائدية موقع الزعيم الفكري الذي يقود اتباعه الى الحقيقة السياسية.

ولا يتوقف الامر عند هذا الحد، بل تجد كثيرا ممن احترفوا الفتوى السياسية على شاشات الفضائيات او في الصحف يتحدثون عن السياسة الاميركية ويحللون مكونات الفكر السياسي الاميركي ويستشرفون الافق المستقبلي للمنطقة والعالم، كل ذلك بلغة فقهية، لا تخفى على الاذن الهاوية فضلا عن المحترفة، بل حتى الكتابة الفكرية الصافية، لا بد ان تمر بمعمدانية المشيخة وتلتزم شرطها ولو على المستوى المظهري فقط، وهذا ما جعل بعض المفكرين، يخضعون لهذا الشرط بشكل لا واعي.

لا يعني ذلك نفي وجود المثقف غير الشيخ، ولكنه يعني عدم فعاليته. ان انساننا الذي نعنيه هنا، معود على ان الكلمة لا تكسب صدقيتها من سلامة حجتها، بل من سلامة قائلها، ومعايير السلامة آيديولوجية بالاساس، يحدد هذه المعايير قادة، وحراس هذه الآيديولوجيا انفسهم، وهكذا.. نعود الى الشيخ الآيديولوجي من جديد ليصبح هو المصدر الوحيد للحقيقة مهما بذل المثقفون «التنويريون» من جهد لتخفيف هذا الارتباط الوثيق والعميق بالحالة «المشيخية» وربط الذهن التقليدي بالعصر ربطا حقيقيا، فإنهم لا يفلحون حتى ولو توسلوا التراث نفسه لتطمين النفوس الخائفة الملتصقة بالحائط، فإنهم لا يحرزون القدر المطلوب، لا يقدحون شررا يضيء العتمة، لأن شرارتهم لا تقع الا على حطب مشبع بماء عتيق، حتما ليس هو الدين النقي في نصوصه المؤسسة، بل هو صورة الدين في اذهان بشرية عابرة! حطب لا تشعله الا نار الماضي الذي يحتكر الحديث عنه وباسمه حراسه، حتى ولو كانوا جهلة بما يحرسون، وبحقيقة هذا الماضي الموضوعية نفسها، هو ماض خلقوه في سجون اوهامهم، غير عابئين بما يقوله التاريخ الموضوعي عنه.

ومع ذلك فقد ابى جملة من المثقفين العرب وبعض مشايخ التنوير والاصلاح الا المحاولة مهما كلف الامر وعلموا ان «القتل انفى للقتل» فاشتغلوا على التراث مستجلبين منه شواهد على صحة المسار الذي يريدونه لمجتمعاتهم، ودخلوا في دهاليز الفقهاء ومدوناتهم، ينزعون بقول فقهي متسامح هنا وهناك، حتى يضعوا دهنا في عجلة الاصلاح المتصلبة.

تحدثوا عن ان المرأة في العهد النبوي كانت تعيش بشكل اكثر تحررا مما يفرضه خطاب الاسلاميين المعاصرين على المرأة، فعائشة زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم قادت جيوشا حاشدة الى العراق لتنفيذ مطالبها السياسية، وكانت تركب الجمل وتقطع المسافات الطويلة من اجل انجاز هذه المهمة. وابو حنيفة كان يجيز تولي المرأة للقضاء، وجمهور الفقهاء لم يكونوا يرون وجوب تغطية المرأة لوجهها وكفيها، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يستشير النساء ومنهن زوجته ام سلمة في الامور السياسية والعسكرية، وعمر بن الخطاب الخليفة الثاني ولى امرأة وظيفة رقابية في الاسواق، كل هذه الاسانيد التراثية من اجل تليين الموقف الاجتماعي والديني الصارم من تفعيل المرأة، وبث الحياة في النصف الآخر.

ثم تحدثوا عن ان الاصل في العلاقات مع العالم هو السلم والوئام وعدم الحرب وان القتال او الجهاد ليس مطلوبا الا في الحالات الدفاعية او جهاد الدفع وساقوا لذلك ادلة شواهد من كلام الفقهاء والعلماء فماذا كانت النتيجة؟! لا شيء. لان الثقافة العميقة والجوهرية هي نقيض ذلك كله.. لنأخذ المثال الاخير حول قصر الجهاد العسكري على الحرب الدفاعية فقط وهو قول جملة من الفقهاء استنادا الى ان علة القتال في الاسلام هي الحرابة وليس الكفر، كما قرره ابن رشد وابن قدامه وغيرهما من الفقهاء.. ولننظر الى الموقف الذي اتخذه فقهاء رسميون تجاهه؟

رغم الاحتقان السياسي والاتهامات التي توجه لبعض الدول العربية في الغرب باعتبارها راعية الارهاب وثقافته، بالرغم من هذا كله، وبالرغم من ان الاخذ بمثل هذه الاقوال الفقهية حول الحرب الدفاعية، يخلص العرب والمسلمين من وطأة الضغوط الرهيبة ويعفيهم في نفس الوقت من تهمة التراجع عن الشريعة الاسلامية، نجد احد المشايخ من غير الحركيين! يقول معارضا مفهوم جهاد الدفع في مقابلة صحافية في ابريل (نيسان) الماضي، الجهاد جهاد في سبيل الله، وانما جاءت كلمة الدفع لما كثر انتقاد الغرب لتمسك المسلمين بأحكام الجهاد، أعرف الناس بمقاصد الجهاد نبي الله صلى الله عليه وسلم واصحابه رضي الله عنهم، الذين نزل القرآن بلغتهم فإذا بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله. ما قال: انتظروا حتى اذا هاجمكم احد فجاهدوا دفعا، لكن لا يتجهز للغزو الا من قدر على ذلك. والمسلمون كما قلت فاقدون للقدرة التامة. هذا الكلام يعبر عن حقيقة الموقف الغالب والعميق الذي يحكم الخطاب الديني بشقيه: الحركي والتقليدي. فهو خطاب يستبطن جمرات ثورية جهادية تحت الرماد، لا تحتاج الا الى ريح خفيفة تتوهج من جديد ولن يخمدها قطرات تنز نزا ضعيفا فهي نار تستمد وقودها من الاعماق البعيدة للوهم المجافية للنهج العملي لنبي الاسلام صلى الله عليه وسلم في حركته السياسية والعسكرية وفي موقفه المخالفين، ولكن كيف استطاعت بعض المجتمعات المحافظة، ان تعيش وتمارس حياتها ببعض الارتياح وكيف لم تحصل مواجهات او توترات بين هذا النموذج الصارم في مواصفاته وبين المجتمع والسلطة السياسية؟ في تقديري ان الجميع استطاعوا تدبر امرهم واوجدوا نظاما خاصا يتجنب مناطق الاحتكاك الديني والتوترات فدوما هناك نوع من السيطرة والكنترول على النقاشات السياسية والثقافية بدرجة لا تسمح بحدوث مواجهة مكشوفة بين الخطاب المحافظ وممثليه وبين المثقفين الآخرين. صفوة القول يجب فك هذا التماهي بين الشيخ والسياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي بكلمة: يجب اعادة تعريف الانسان المسلم، واسترجاع ملامحه الضائعة.

[email protected]