الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق (1)

ثلاثة نماذج طغت على علاقة الدولة الإسلامية بالحركات الإسلامية

TT

يدور منذ عقود صراع على الإسلام، كان الظاهر فيه قبل 11 سبتمبر 2001 أنه صراع داخلي بين رؤى ومشروعات، وتحول بفعل التطورات إلى صراع على السلطة بين الأنظمة القائمة، والحركات والتنظيمات الإسلامية. فهمت السلطات خطابات وتصرفات التنظيمات الإسلامية باعتبارها مشكلة أمنية. بينما أصرَّ الإسلاميون من جانبهم على أنهم أصحاب مشروع، وأن العنف عارض، ولا علاقة به إلا لشرذمة ضئيلة يشجُبُها التوجه الأكثري في تلك الحركات. وقالت السلطات إن هؤلاء يتهددون الاستقرار، ويريدون الاستيلاء على السلطة باسم الدين، ولا يؤمنون بالديمقراطية في الحقيقة. وقد غصت السجون في بعض الفترات بالإسلاميين، كما تجرأ الطرفان على الوصول إلى حافة الحرب الأهلية. وأقدمت عدة دول عربية وإسلامية على الاعتراف بالمعتدلين وأشركتهم في المجالس النيابية، ومجالس الوزراء. وهكذا نشأت ثلاثة نماذج لعلاقة الدول الإسلامية بالحركات الإسلامية في العقود الثلاثة الأخيرة: التقاطع والصراع، أو انفراد الإسلاميين بالسلطة، أو المشاركة المتفاوتة الفعالية والأهمية. وهناك نموذجان لانفراد الإسلاميين بالسلطة هما السودان وإيران. وما أحاط أحد الانقلاب السوداني عام 1989 بأي آمال، بعكس الثورة الإسلامية في إيران، والتي حدثت قبل عشر سنوات 1979، وأحدثت هزة في العالم كله. الكاتب الفرنسي أوليفييه روا قال عام 1996 إن الإسلام السياسي فشل، لأنه لم يمتد خارج إيران والسودان، ولأنه يعاني من مشكلات أساسية في البلدين. بيد أن للنجاح والفشل مقاييسهما التي تختلف من باحث لآخر. والسلطة في السودان اليوم تكاد تتخلى عن كل شيء بما في ذلك وحدة البلاد، للبقاء في السلطة. بينما المعروف أن الدعوى الأولى للإسلاميين أن أحقيتهم بالسلطة لا تنبع فقط من مركزية الشريعة في مشروعهم، بل تأتي أيضا من أنهم أحرص وأقدر على حماية المصالح الوطنية. ونعرف منذ سنوات أن محافظي الشيوخ المتنفذين بإيران، يتهمون الذين يعارضونهم مباشرة بالنقص في وطنيتهم. واذا ما كان ممكنا موافقة أوليفييه روا وجيل كيبيل على آراء وانطباعات الفشل، بدون تحفظ من نوع ما، فلا شك أن الإسلاميين في السلطة ما أظهروا تفردا لا في الفكر ولا في السلوك، بعد وصولهم للسلطة. وما نجحوا النجاح الذي كانوا يؤملونه أو تؤمله الجماهير التي رحبت بهم. ولا شكَّ أن الأوضاع بإيران كانت أسهل منها في السودان. فهي دولة قومية كبيرة ومستقلة وعندها موارد بترولية. لكنهم يستطيعون الاعتذار بحرب العراق عليهم، وبحصار أميركا لهم. على أن أكبر أعذار الإسلاميين في السلطة، أن الدول العربية والإسلامية الأخرى ليست أنجح منهم بكثير في مسيرتها السلطوية، رغم أن ظروفها مع المجتمع الدولي أفضل بما لا يقاس.

ومرة أُخرى هناك النموذج الثاني، أو الشكل الثاني من أشكال العلاقة بين الإسلاميين والسلطات، وهو نموذج المشاركة. فقد شاركوا في لبنان والأردن واليمن. وبشكل موارب في مصر والمغرب. ويمكن الحديث عن تميز لهم في الاهتمام بالشأن الوطني والقومي والإسلامي. ويبدون أحياناً في توترهم وخطابيتهم ونضاليتهم مثل قوميي ويساريي الستينات. وحتى لا يصطدموا بالسلطات، فإنهم كثيرا ما يلقون باللائمة على إسرائيل وأميركا. وقد صار ذلك ممكناً الآن وسهلاً بعد اندلاع حرب أميركا على الإرهاب، وتصرفات إسرائيل إزاء الانتفاضة. لكن يبدو أنه لا مستقبل كبيراً لهؤلاء المشاركين، لعدم تميزهم بالمبادرة، ولا بالاطروحات الجادة. ثم إنهم يأنفون من الأساليب البرلمانية والسياسية لاتسامها بالمراوغة، أو بعدم المبدئية. والمشكلة الكبرى هنا في علاقة السياسة بالأخلاق، كما يقولون، وفي الحقيقة في علاقة العقائد وسياسات الهوية بتدبير الشأن العام. فالحركات الاحيائية الاسلامية كلها حركات هوية، والهوية مرتبطة بالعقائديات والشعائريات والرمزيات. والسياسة عمل أخلاقي رفيع لأنه متعلق بتدبير شؤون الناس، فلا يمكن الزعم أن أساليب العمل السياسي الرامية للوصول الى تسويات عن طريق النقاش والتفاوض، هي أعمال غير أخلاقية. لكنهم اذا رفضوا التسوية، يحافظون على عقائدية الهوية ويخسرون الناس، وان قبلوها تخلوا عن شعائر الهوية، وفقدوا مرجعيتهم في نظر أنفسهم! وقد انتقل حسن الترابي من النقيض (المتشدد) إلى النقيض (التحالف مع جون قرنق). وهكذا تقود العقائدية إلى الانكسار والتحطم باتجاه التشدد أو التحلل، وفي كلتا الحالتين لا يتحقق برنامج الإسلاميين المشاركين، إن كان لهم برنامج. ثم انه يكون علينا ألا ننسى انهم يعتبرون أنفسهم ممثلي الاسلام الحقيقيين، فيؤثر ذلك سلباً على علاقاتهم بالسلطات، وبالأحزاب والحركات السياسية الاخرى.

وتبقى كلمة عن النموذج الثالث، نموذج القطيعة، وهو النموذج السائد في عدة بلدان عربية رئيسية حتى الآن. وقد انتج عنفاً وعنفاً مضاداً، وما يعرف بالجماعات المتشددة منذ مطالع السبعينات. ولا شك ان الاجزاء التي لجأت للعنف من الحركات الاسلامية صغيرة، لكنها مؤثرة جدا. ويكفي القول انها تسببت في الحرب الدائرة الآن على الإسلام والمسلمين. بيد أن أظهر وجوه خطورتها طبيعتها المغامرة والتي لا تشعر بالوجل أمام احتمال الحرب الأهلية، التي جرؤ عليها العسكريون بالجزائر وبادلهم الجرأة الإسلاميون. وقد تراجعت اطراف رئيسية من الاسلاميين عن العنف تحت وطأة فجائع المجازر، دون أن يتراجع الانطباع عنهم بشأن هذا «الإقدام» المعروف عن المتسلطين، وغير المقبول شعبياً من خصومهم العاملين باسم الاسلام. وما كانت لتراجعهم آثاره الايجابية، من جهة ثانية، لأن القاعدة، والسلفية الجهادية المنبثقة عنها أنست بعنفها الشامل والعدمي حتى الاستئصاليين بالجزائر. ما علاقة هذا كله بالصراع على الاسلام، وبالاصلاح الاسلامي؟ العلاقة واضحة، فالاسلاميون على اختلاف فرقهم يعتبرون أنفسهم الخيار الإصلاحي أو أن الحل الإسلامي هو الضرورة والفريضة، كما يقول الشيخ يوسف القرضاوي 1974. بيد أن حدث 11 سبتمبر الهائل، أدخل عنصراً جديداً وحاسماً في مطالب الإصلاح، وفي الصراع على الإسلام، على حد سواء.