قضية شهر رمضان وهلاله: الدين والعلم على أبواب المرحلة الثالثة

جلال حسين شريم *

TT

في كل عام يتجدد الحديث عن قضية اثبات هلال شهر رمضان المبارك، بطريقة تذكرنا بالجدل التاريخي الطويل الذي تمحور حول العلاقة بين الدين والعلم. ومن المعلوم ان تلك العلاقة مرت في التاريخ الانساني، بمراحل من المد والجزر، على ارض الواقع، حيث بغى «رجال» الحاكم على الآخر المحكوم.

ففي العصور القديمة كانت السيطرة للكهان والاحبار ورجال الدين، وهو ما عرف بحكم «الاكليروس»، الذين فرضوا هيمنتهم، وبالتالي افكارهم، على الشعوب والبلاد، خصوصا في اوروبا العصور الوسطى، حيث «كانت الكنيسة الكاثوليكية في ذلك العصر تضطهد العلماء بحجة ان نظرياتهم العلمية لا تتفق مع نصوص الكتاب المقدس او مع ما ارتضته من آراء ارسطو وغيره من فلاسفة اليونان وعلمائهم. وما اكثر من اعدم من هؤلاء العلماء ومن حرق». ولا تزال صور كوبرنيكوس وغاليليو وغيرهما ماثلة امام الاعين كشاهد على تلك الحقبة.

ولكن تلك «السيطرة الدينية» لم تدم بفعل تراكم الاكتشافات والابحاث العلمية التي ادت في نهاية الامر الى حصول ما عرف بـ «الثورة العلمية» ودخلت اوروبا وبالتالي العالم، في ما عرف باسم «عصور النهضة» التي اثرت في خط سير التاريخ العالمي، ووصلت تداعياتها الى كل انحاء الارض بما فيها بلادنا الاسلامية.

ولكن تلك الثورة، وللأسف تصاحبت مع «مذهب مادي صارم يؤمن بأزلية المادة، ويرفض من ثم كل ما هو غيبي ولا يعترف في تفسيره لمختلف الظواهر الا بنوعين من العلل هما الضرورة والصدفة»، وهكذا سادت العالم، بما فيه العالمان العربي والاسلامي، موجات من العلمانية والالحاد والبعد عن الدين، الذي صار يعد وهما من الاوهام وخدعة من الخدع. كل ذلك بسبب احكام العقل الذي فسر الحركات الكونية تفسيرا فيزيائيا ماديا، من دون الحاجة الى «الغيب»، الذي لا يخضع «للتجارب» العلمية، بحسب رأي علماء تلك المرحلة. حتى قيل: «لقد خلق العقل الانساني الديني واتم خلقه، في حالة جهل الانسان وعجزه عن مواجهة القوى الخارجية. وبذلك انقلبت الصورة واصبح الدين عرضة للاضطهاد من رجال العلم، بعدما كان رجال الدين يضطهدون العلم! وابلغ تعبير عن هذه الحالة ما قاله العالم الفرنسي الشهير لابلاس حين سأله نابليون عن مكان الله في نظامه الميكانيكي، فأجابه «سيدي لست بحاجة الى هذا الافتراض».

ولعل كلمة احد العلماء تلخص هذا الموضوع اذ قال: «لقد اثبت العلم ان الدين كان اقسى واسوأ خدعة في التاريخ».

اما علماء النفس والاجتماع، فقد كان لهم رأي آخر في الموضوع، حيث ارجعوا اضطهاد رجال العلم للدين، الى كونه رد فعل على ما عاناه العلماء من اضطهاد وقمع وتقتيل على ايدي بعض رجال الدين، في ما مضى.

اما الآن وبعد عدد من الثورات العلمية المعاصرة، ظهر ان المادة لا تستطيع تفسير عدد كبير من الظواهر الكونية، وبالاخص غاية هذه الظواهر. وبعد نظرية آينشتاين النسبية، التي اظهرت امكان فناء المادة، بتحللها الى طاقة، وكذلك نظرية الانفجار العظيم التي فندت نظرية ازلية الكون، اذ اثبتت ان الكون انبثق في لحظة معينة، وهذا ما يتوافق مع وجهة النظر الدينية، وكذلك مباحث علم الاحياء (البيولوجيا) وعلم الاعصاب التي اثبتت وجود محرك لا مادي للانسان، وهذا ايضا يتفق مع وجهة النظر الدينية، وبعدما شهد عصرنا ظاهرة عودة البشرية الى الايمان، خصوصا مع انبعاث الدين الاسلامي، هذان الامران اديا الى عودة الحديث عن معزوفة العلاقة بين الدين والعلم وبدأت تظهر تساؤلات عن امكان التوافق بينهما، خصوصا مع تقارب وجهات نظر كل منهما او امكانية عودة رجال الدين الى اضطهاد العلم، بحجج عديدة، كما كان يحصل في الماضي او كرد فعل على ما لقيه الدين من اضطهاد على ايدي رجال العلم.

والقضية التي هي مدار البحث، اي اثبات الهلال بالاستعانة بالابحاث الفلكية، هي احدى مجالات هذه «المعزوفة» وهي تمثل ميدانا يكشف عن طبيعة العلاقة بين العلم والدين في المستقبل، وقد لاحظنا ان هناك خطين في هذه المسألة: خط المزاوجة بين الامرين، اي الاستفادة من علم الفلك في حل هذه القضية الدينية، وخط الرفض لهذه المزاوجة.

والملاحظ ان بعض الرافضين يستعملون اساليب وعبارات قريبة من عبارات «رجال العلم» الرافضة للدين والتي اعتبرته «وهما»، وسبق ان عرضنا بعضها، فها هو احد رجال الدين ينزع صفة العلم عن علم الفلك! ويعتبره من دون مبادئ اولية! وآخر يعتبر ان علم الفلك هو عين التنجيم الذي حرمه الشرع!! وثالث يقول للفلكيين «لا نحتاج الى حسابكم! او لا يجوز اثبات عباداتنا بأمر من اعدائنا»! وهذا ما يذكر بعبارة العالم الفرنسي «لابلاس» عن عدم حاجته لفرضية «الله» في نظامه الميكانيكي. ولكن مهما طال الجدل، ومهما تنوعت وسائله وعباراته، فإن الافكار الصحيحة لا بد ان تنتصر حسبما تقتضي سُنن الله سبحانه في الكون، وتفرض نفسها، ولربما تأتي ايام وتصبح تلك الافكار بديهية من البديهيات ويستغرب البشر آنذاك كيف اننا وفي مرحلة من المراحل، كنا نناقش مثل هذه القضايا، وبهذه الاساليب، كما نستغرب نحن الآن بعض جدالات الاقدمين في مسائل صارت بديهية في عصرنا.

* باحث لبناني