الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق (5)

الطهطاوي كان يملك رؤية للإصلاح تعتمد على دولة حديثة التنظيم

TT

أحسبُ أنَّ أولَ من ذكر الإصلاح في المجال العربي كان رفاعة رافع الطهطاوي، في كتابه: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، 1830 ـ 1831. وكان الاصلاحُ عنده يتناول شؤون الصناعة والزراعة والتجارة، كما يتناول مسائل التنظيمات الخاصة والمدنية. وقد عنى بالتنظيمات الخاصّة الشركات، وبالتنظيمات المدنية الجمعيات الخيرية الأهلية. وهو يعتبر أنّ حالتنا ليست على قدْرٍ كبيرٍ من السوء، فالمسافةُ بيننا وبين أوروبا ليست كبيرة، ويمكن تجاوُزُها برعاية تلك الأمور الخمسة السالفة الذكر، التي تقع ثلاثة ميادين منها تحت إشراف الدولة، ويقع مجالان في الحيّز الذي يمكن أن يُسهمَ فيه المجتمع. ويتصور الطهطاوي طريقة الإصلاح بإنشاء دواوين (وزارات) للشؤون الصناعية والزراعية والتجارية; باعتبار أنّ الدولة تملكُ القسم الأكبر في تلك المجالات. أمّا الشركات فأهميتُها أنها تؤمّنُ الاستمرار، وتدعمُ الاستثمار، وقد كانت من أعمدة الازدهار الإسلامي القديم، وهي عمدة النشاط الحديث في سائر المجالات. وهو يرى أنَّ النشاط الخيري الإسلامي، سواءٌ في الزكاة والصدقات، أو الأوقاف، ضخمٌ وهائل. ولذلك يستغربُ ضآلةَ آثاره، وتماديه في الانحطاط بعد ازدهار جيلٍ أو جيلين; ولذلك يرى استعارة النموذج الفرنسي في الجمعيات الخيرية أو جمعيات الخير العامّ ; فهي تُتَمِّمُ عملَ الدولة، وهي تُرضي دوافع المواطنين للتطوع والتصدق، وممارسة النشاط المُفيد.

والغريب أو الطريف أنّ الطهطاويَّ (1873) لم يكن يرى ضرورةً للقيام بإصلاحٍ دينيٍ، بعكس شيخه حسن العطار، شيخ الأزهر (1835). فنموذج الطهطاوي العائد من فرنسا بعد أربع سنواتٍ فيها (1826 ـ 1830) للنهوض على مستوى الدولة والمجتمع هو نموذجٌ فرنسي; لكنه ما كان يرى في فرنسا بالذات أيَّ نموذجٍ للاقتداء في الشأن الديني. فأهلُ الكنيسة من وجهة نظره عديمو التأثير، وهم مع النظام الملكي، وضد الحريات والحِراك الاجتماعي. ثم إنّ الدين المسيحي نفسَه عنده ليس من أسباب النهوض الأوروبي; بل اضطُرّت أوروبا من أجل النهوض إلى أن تنفصلَ عنه وبعنفٍ في توجهاتٍ علمانيةٍ لا يحبذها الطهطاوي أيضاً. فالطهطاوي أزهريٌّ تقليديٌّ، ينفصلُ في وعيه التاريخي الدينُ عن الدولة دونما تنظيرٍ كثيرٍ للأمر. والدولة عنده إسلاميةٌ، لأنّ أَولياء الأُمور يعتـبرون الإسلام مرجعيتَهم العليا، والناس في الأعمّ الأغلب مسلمون متدينون، ويستندون في حياتهم إلى اعتقادٍ صلبٍ بعصمة الإسلام وتفوقه. والهزيمةُ أمام الفرنسيين (1799 ـ 1803) لا علاقةَ للدين بها; بل أسبابُها دنيوية: التراجع في الشؤون العسكرية، والتراجع في الصناعة والزراعة والتجارة; وكلُّ ذلك أمكن تجاوُزُهُ في جيلٍ واحدٍ أو أقلّ من جانب والي مصر محمد علي، دونما مشكلةٍ من جانب الإسلام الذي تنصُّ الآيةُ القرآنيةُ المشهورةُ فيه على إعداد القوة (وأعِدُّوا لهم ما استطعتم من قوة). وقضى الطهطاوي حياته عاملاً على الترقّي المدني في الشؤون الدنيوية بالذات (إنشاء ديوان المدارس، ومدرسة الترجمة). ولستُ على بينةٍ بشأن رأيه في الإصلاح أو النهوض السياسي. فقد ترجم الدستور الفرنسيَّ الجديد (1830) الذي يتأسسُ على دستور الثورة الفرنسية، لكنه لم يَعُدْ للحديث عنه في كتاباته اللاحقة طوالَ أكثر من ثلاثين عاماً. وعمل في ستينات القرن التاسع عشر على ترجمة القوانين الفرنسية، دون أن يُحسَّ أيضاً تناقُضاً بين تلك القوانين الوضعية، ومواضعات الفقه الإسلامي. وألّف في آخِر حياته (وكان قد قرأ وقتَها مقدِّمة أقوم المسالك لخير الدين التونسي) رسالةً في الاجتهاد، تركّز اهتمامُهُ فيها على أمورٍ تقنية، وعلى ضرورة الاجتهاد، وعدم انسِدادِ بابه، وليـست هناك في أعماله غير شكوى خفيفة من تقليدية الأزهريين، الذين دعاهم أحياناً للتعرف على العلوم العصرية (مثلما أُتيح له هو أن يفعل).

ولا يبدو الطهطاوي مطّلعاً على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهّاب، الذي كانت دولة محمد علي وأحفاده تُعاديها، بعد أن خاضت حرباً (1814 ـ 1818) لحساب الدولة العثمانية من أجل القضاء على دولتها الفتية. لكنْ عندما كان الطهطاوي منفياً في السودان (1815 ـ 1855) كانت الدولة العثمانية تشهدُ حركةً إصلاحيةً كبرى في الشأن السياسي والمدني، بلغت ذروتَها في صدور التنظيمات (1857). وإذا كانت القوانين الوضعية والمدنية (وعلى رأسها قانون التجارة، وقانون الطابو أو ملكية الأرض) قد بدأت بالصدور في مصر والدولة العثمانية في أربعينات القرن التاسع عشر; فإنّ التنظيمات استحدثت أنظمةً إدارية; والأهمّ من ذلك أنها قالت بالمواطنية العثمانية، التي عنت مساواةً بين المواطنين، على أختلاف أديانهم ومذاهبهم. ولا نعْرف موقف الطهطاوي والأزهريين من تلك المستجدات; على الرغم من سطوة غير المسلمين في إدارة محمد علي وأحفاده. وتزداد مشروعيةُ هذا التساؤل عندما نلاحظ أنّ أربعةً من شيوخ الإسلام، ومن الصدور العظام المتدينين، رافقوا وقادوا عمليات الإصلاح في الدولة العثمانية منذ العام 1837 وحتى صدور الدستور عام 1876. فكانت الفتاوى تُرافقُ القوانين أو تصدر القوانينُ واللوائحُ وفي مقدمتها رأي شيخ الإسلام بالموافقة عليها. ولا شكَّ في أنّ السلاطين الإصلاحيين كانوا يضغطون على شيوخ الإسلام. لكننا نعرفُ أنّ بعضهم اعترض، أو اعتزل أو حاول تنظيم انقلابٍ على السلطان. فالأمرُ لم يكن ذا اتجاهٍ واحدٍ ; بمعنى أنّ المؤسسة الدينية (مشيخة الإسلام) في حقبة انحطاط السلطنة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ما كانت مستتبعَةً بالكامل; وإنْ تكن لها مصـالحُ كبرى (عشرات ألوف الوظائف والمراتب والمرتبات) مع السلطنة تحولُ في كثيرٍ من الأحيان دون المُضيّ في التمرد أو الاعتراض. وعندما أَلغى السلطان عبد الحميد الثاني الدستور عام 1878 ما وافقَه شيخُ الإسلام على ذلك واعتزل في بيته. في حين آثَرَ قدري باشا أن يبقى في الإدارة لإتمام مشروعه المُهمّ في مجلة الأحكام العدلية (إعادة تدوين الفقه الحنفي في صيغة قانون) وبسبب انزعاج عبد الحميد من الفقهاء أحاط نفسه بالصوفية، الذين وضعوه في عالمٍ سحريٍ وعجائبيٍ كان أكثر إراحةً له، وسط الهزائم والمشاكل وكان من ضمن شيوخ الصوفية هؤلاء أبو الهدى الصيادي، العربي الشامي المشهور; الذي يحبُّ بعض أعداء السلطان عبد الحميد تشبيهه براسبوتين العثمانيين! إنّ ما أُريدُ الوصولَ إليه أنّ الطهطاويَّ كان يملكُ رؤيةً للإصلاح تعتمد على دولةٍ حديثة التنظيم، وعلى مجتمعٍ مدنيٍ متناغمٍ مع السلطة صاحبة المشروع. وما كان الإصلاحُ الدينيُّ من همّه ; كما لم يكن من همّ الدولة، التي أَهملت الأزهر، وأنشأت نظاماً موازياً للتعليم الحديث. في حين شعر الإصلاحيون العثمانيون بضرورة الحصول على دعم المؤسسة الدينية (مشيخة الإسلام). ولهذا انقسم كبار رجال الدين العثمانيين في وقتٍ مبكّرٍ إلى داعمين للإصلاح أو معارضين له. لكنْ ليس من الواضح هل كان الشيوخ الإصلاحيون يملكون مشروعاً آخر لعلاقة الدين بالدولة، أو لإصلاح المؤسسة الدينية. إنما الواضحُ في الأمر كلّه أنه في عصر الإصلاحات والتنظيمات للدولة والشأن العامّ، صار لرجال الدين العثمانيين رأيٌ واضحٌ في تلك الأمور، أحياناً بإذن السلطان، وأحايين بدون إذنه.