أوضاع المسلمين في البلقان خلال شهر رمضان

الكاتب والصحافي والشاعر عزيز بيغوفيتش يروي لـ«الشرق الأوسط» قصة الكلمات المتقاطعة في زمن أغبر

TT

صحيفة «بريبورود» احدى اقدم الصحف الاسلامية في البوسنة والهرسك، باعتبارها وريثا لصحف اسلامية اخرى كانت تصدر في البوسنة والهرسك منذ الحرب العالمية الاولى، ثم الثانية، ولذلك فان سنة 1970 ليست تاريخا شاهدا على ميلاد الصحيفة بقدر ما كانت مرحلة شاهدة على النقلة النوعية التي احدثتها صحيفة «بريبورود» في الصحافة الاسلامية بالبوسنة والهرسك، فالصحافة التي سبقت «بريبورود» كانت تدور مجبرة في فلك السياسات القائمة آنذاك، اما «بريبورود» فقد اجبرت على ترك السياسة، وعلى الاقتصار على الشؤون الدينية فحسب، وعلى ان توزع في نطاق محدود للغاية، حيث كان النظام الشيوعي يمنع على المشيخة الاسلامية توزيعها على اكشاك البيع، او عرضها على المارة في الشارع، او توزيعها داخل المساجد من قبل اشخاص غير موظفين في المشيخة الاسلامية. ولأن رمضان شهر التراحم والاهتمام بشؤون المسلمين كان لنا هذا الحوار مع عزيز قادري بيغوفيتش الصحافي والكاتب والشاعر.

وحول اوضاع المسلمين في منطقة البلقان وخاصة البوسنة ومسيرة «بريبورود» خلال 30 سنة مضت، كان لـ«الشرق الأوسط» هذا الحوار مع رئيس تحرير «بريبورود» عزيز قادري بيغوفيتش الذي قال «مررنا بسنوات صعبة، وللجواب على سؤالكم يحتاج الامر الى تمهيد. اعتقد شخصيا بان السنوات العشر الماضية عرفنا فيها مستوى من الحرية والديمقراطية لم تكن متوفرة في السابق ولا سيما في العهد الشيوعي، التاريخ الذي سبق قيام جمهورية البوسنة والهرسك كانت صعبة جدا في كافة المجالات وخاصة الحريات الدينية بما فيها حرية الصحافة، بعض النصوص والمواضيع والتقارير تتم مراجعتها باهتمام شديد خوفا من غضب السلطة، وردود الافعال القمعية للشيوعية آنذاك. كنا نتجنب التعبير عن آرائنا بحرية خوفا من اغلاق الجريدة، وكنا نتحاشى المصطلحات التي يمكن ان تغضب الحكومة الديكتاتورية. على سبيل المثال كانت هناك لجنة دينية تقوم بالرقابة، وتمنع التقارير التي ترى انها تتعارض وتوجهات الحكومة سواء كانت سياسية او دينية. فاذا ذكر مسؤول من المسؤولين في الجريدة من باب نقد مواقفه تجاه الاسلام او بيان تقصيره تجاه المسلمين نمنع من ذلك، حتى وان ذكر اسمه في مربعات الكلمات المتقاطعة داخل الجريدة. فكان كل ما له علاقة بالسياسة ممنوعا نشره في صحيفة «بريبورود» حتى ان كان له علاقة بالدين.

* كيف كنتم توزعون الجريدة؟

ـ لم يكن بامكان غير العاملين في «بريبورود» القيام بتوزيعها على القراء، ولم يكن بالامكان توزيعها خارج المساجد، واذا شوهد شخص ما يبيع الجريدة خارج المسجد يعتقل فورا من قبل قوات الامن، وتصادر النسخ التي معه بالقوة. وهذا جزء يسير مما كان يحصل.

* كيف الوضع الآن؟

ـ فرق كبير بين العهد الشيوعي وعهد الحريات، فمنذ سنة 1993 اصبحنا احرارا في كتابة ما نريد الى حد بعيد، ولسنا وحدنا في هذا، الجميع يتمتع بقدر وافر من الحرية، ولم تصادر اي صحيفة او مجلة منذ وصول علي عزت بيغوفيتش رحمه الله الى الرئاسة رغم خروج بعضها على اللياقة واعتماد بعضها الكذب والافتراء حتى على الرئيس الذي كان كأي قارئ ينشر ردوده في زوايا الصحف، مبينا وجه الخطأ والصواب فيما كتبته سواء ما يتعلق بشخصه او بسياساته ومواقفه. لقد اصبح الممنوع في مجال السياسة مباحا اليوم، ونحن نرى صحفا يومية ومجلات اسبوعية تتحدث عن افتتاح المساجد وعن رمضان وعن خطب الجمعة مثل «ليليان» الاسبوعية و«دنيفي أفاز» اليومية وتتنافس في ذلك مع «بريبورود».

* هل يؤثر ذلك على «بريبورود»؟

ـ كلا، نحن سعداء بذلك، نحن نحمل رسالة، ولسنا شركة تجارية رغم اهمية وجود اوقاف خاصة بالعمل الاعلامي الاسلامي للتخفيف من اعباء الطباعة والنشر ومكافآت الكتّاب والصحافيين وغير ذلك، الاعلام الاسلامي في حاجة لدعم حتى يتفرغ لرسالته، ويفرح بأن هناك من يتقاسم معه اعباءها، وبدون دعم يختلط التجاري مع الرسالي. جريدة «دنيفني أفاز» ومجلة «ليليان» اسرع في الطباعة وفي الوصول الى القارئ، ولكننا لنا اسلوبنا وطريقتنا ومجالنا الذي نعمل فيه، فنحن اكثر توسعا في طرح المواضيع الاسلامية منهما ولا سيما في مجال تغطية نشاطات المشيخة الاسلامية بالبوسنة والهرسك، لاننا نملك الوقت الكافي، حيث تصدر الجريدة كل خمسة عشر يوما.

* لو نعود للوراء قليلا وبالتحديد فترة العدوان الصربي ـ الكرواتي على المسلمين في البوسنة، كيف كانت ظروف العمل الاعلامي الاسلامي في تلك الفترة؟

ـ في فترة العدوان كانت «بريبورود» من الصحف النادرة التي لم تتوقف عن الصدور، واصلنا رسالتنا، وفي سبتمبر (ايلول) الماضي بلغت «بريبورود» 30 سنة ومنذ ذلك الحين لم نتوقف عن الصدور والحمد لله.

* ساهم النفق الذي اقامه المسلمون اثناء العدوان في ايصال صوت المسلمين المحاصرين للخارج، كما ساهم في نقل المواد التموينية والعسكرية الخفيفة وربط سراييفو بالعالم الخارجي، كيف كان دور النفق اعلاميا؟

ـ قبل بناء النفق كانت هناك مشاكل كثيرة، وتوقفنا عن ارسال الجريدة للخارج لأن جميع المنافذ كانت مغلقة، ولذلك قررنا فتح مكتب لطباعة الجريدة في مدينة زينتسا (70 كيلومتر شمال غربي سراييفو) وبعد بناء النفق اصبحنا نرسل الجريدة عبره ليطلع عليها المسلمون البوشناق الذين كانوا في دول الجوار مثل كرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا او في اوروبا وخاصة في المانيا حيث كان يوجد 400 ألف مهاجر بوسني.

* كيف كنتم ترسلون المواد الى زينتسا؟

ـ عبر خنادق القتال وكنا في اغلب الاحيان نمليها على الهاتف، ويتم تفريغها من الاشرطة المسجلة ومن ثم طباعتها. وكانت توزع على الطلبة والمقاتلين في جبهات القتال. كما اننا قمنا بطباعتها من بيهاتش (500 كيلومتر شمال غربي البوسنة) بنفس الطريقة التي كنا نطبع بها الجريدة في زينتسا. وكان اقليم بيهاتش معزولا عسكريا في ذلك الوقت. كما طبعنا الجريدة بنفس الطريقة في لوبليفا والمانيا لتوزيع الجريدة في المهجر. ومن هذا التاريخ يمكن تقييم الجريدة.

* قلت ان السلطات الشيوعية منعت تطرق الجريدة للامور السياسية، ولكن نلاحظ ان الجريدة لم تتغير كثيرا في الوقت الحالي، ما المانع؟

ـ كلا، نحن اضفنا الجانب الثقافي للشؤون الاسلامية، ونحن نعتقد ان اهم عنصرين في حياتنا هما الدين والثقافة اللذان يشكلان الهوية المميزة لمسلمي البوسنة والهرسك ومنطقة البلقان، السياسة والاقتصاد قابلان للتغيير وهما نابعان من الاساسين الاوليين، الثقافة والدين، ونحن نحافظ على هذين المعلمين ونعتبرهما عمودي هويتنا، وهذه الرسالة مستمرة. هناك جرائد ومجلات اخرى متخصصة في الشأنين السياسي والاقتصادي، لنا اهتمامات بالاوضاع الاجتماعية التي لها علاقة وطيدة مع الدين والثقافة.

* كم تطبعون من «بريبورود»؟

ـ قبل الحرب كنا نطبع 4 آلاف نسخة وبعد 10 سنوات نطبع 21 ألف نسخة، هذا العدد (21 ألفا) هو رقم المبيعات. ونصف القراء من المشتركين في الجريدة، وهي الآن تباع في الاكشاك ايضا وعبر دور الافتاء في الاقاليم والمدارس الاسلامية اضافة لبيعها في المساجد. اما في الخارج فهي تنقل الى جميع الاماكن التي يوجد بها بوشناق مسلمون في العالم. مثلا المانيا وكندا واستراليا وغيرها من العواصم الغربية، ويمكنني القول ان «بريبورود» تصل الى جميع المراكز الاسلامية البوشناقية في العالم، نصف كمية النسخ المطبوعة توزع في البوسنة، والنصف الباقي للخارج.

* هل تفكرون في تحويل جريدة «بريبورود» الى مجلة؟

ـ كلا، هناك مجلات اسلامية، ولا داعي لان تصبح «بريبورود» مجلة، كانت هناك اقتراحات بأن تطبع باللغة العربية والانجليزية، ولكن امكانياتنا المادية لا تسمح بذلك، ربما يكون ذلك في المستقبل بعون الله، اذا تحسنت ظروفنا.

* لماذا لا يكون للجريدة ملاحق، او كتيبات باسمها؟

ـ قبل تكوين «دار القلم» كانت مهمة ترجمة وطباعة الكتب تتم داخل «بريبورود»، ولكن القلم استقلت عن الجريدة. وهذه المهمة اصبحت على عاتق «دار القلم». كنا نطبع كتبا في اغلبها دينية عن رمضان والحج، وهناك كتب اخرى.

* كصحافي بوسني ومراقب للاوضاع كيف ترى الحالة الاسلامية في البوسنة؟

ـ يمكنني القول ان الوضع الاسلامي في البوسنة والهرسك ارتبط في السابق بتطور الشأن السياسي، عندما بدأ العدوان اتخذ الناس الاسلام كملجأ، حصلت موجة اسلامية، لكنها تراجعت بعد توقف القتال، كما لو ان كوبا مملوءا بالماء قد رج ثم عاد لحالته الطبيعية، نعم عدد الشباب الذين يرتادون المساجد اكبر بكثير مما كان سابقا وهناك واقع اسلامي في البوسنة ولكننا نريد مجتمعا اسلاميا اوروبيا في البوسنة. اثناء العدوان كانت الحالة الاسلامية افضل، والآن اصبح ترديد مقولة «حيث توجد قنابل توجد مجاعة» شائعا. الآن يوجد منهج اسلامي يدرس في المدارس وهذا لم يكن موجودا في العهد الشيوعي، ونحن نعول على ذلك بعد الله في ان تفهم الاجيال القادمة ما غاب عن آبائهم من امر دينهم. الآن يختن المسلم ابنه دون خوف او وجل وكان في السابق من الممنوعات، وكانت الشرطة تتدخل لمنع عائلة مسلمة من ختن ابنها، فما بالك بالامور الاخرى، هذه الامور تلاشت الآن، ورفعت القيود عن العبادة وحرية التدين. وهذه هي الحالة الاسلامية، وكما قلت نحن نرنو لوضع افضل.

* هل هناك مؤثرات خارجية على الوضع الاسلامي بالبوسنة؟

ـ البوسنة جزء من العالم، وليست بمنأى عن التأثيرات الخارجية، وفي البوسنة اليوم اشخاص تأثروا بما هو وافد سواء كان حسنا او سيئا. هناك اشياء خطيرة جدا مثل انشطة طائفية الاحمدية المرتدة، وهناك بعض الاختلافات المذهبية التي تزعج كبار السن، ولكني اعتقد بان الاختلافات المذهبية تستقبل بسعة صدر والناس لن يثوروا على ذلك، اعتقد بان هذه الاشكاليات غير موجودة في اذهان الاجيال الجديدة، التي تقبل حق ممارسة الشعائر الدينية دون ازعاج للآخرين، وهناك امور سياسية بين بعض الدول تلقي بظلالها على البوسنة. وهناك من يقول ان بعض الدول الاسلامية بنت مساجد تختلف عن التراث البوسني كالمساجد السعودية والماليزية والكويتية، ويلومون الحكومة على ذلك، لكننا نعتقد بان مواصفات الحاضر تختلف عن مواصفات الماضي، وهذه المساجد المنوعة التصاميم مثل الازهار المتعددة ولكنها في حقل واحد، تعبر عن سعة افق الاسلام، وتعجبني اجابة لاحد الاخوة على سؤال لمفتونين بأوروبا بخصوص كبر وضخامة احد المساجد الفخمة في البوسنة، مما يدل على مستوى يفوق وضع المسلمين في البوسنة فقال «هذا المسجد بني وفق المعايير الاوروبية».

* هل تبيعون «بريبورود» في الدول التي كانت تشكل يوغوسلافيا السابقة؟

ـ قليلا، فمن المعروف ان المشيخة الاسلامية كانت تمثل كل هذه المناطق، ومع تفكك يوغسلافيا اصبحت لكل دولة مشيختها الخاصة. هناك تنسيق ولكننا نتمنى ان نرى تعاونا اوثق. اما بالنسبة لكرواتيا فهي جزء من المشيخة الاسلامية في البوسنة، وكذلك سلوفينيا، اما صربيا فهناك مشيخة في السابق واخرى في بلغراد، ومشيخة السنجق تعتبر جزءا من المشيخة الاسلامية في سراييفو، وهناك تطورات جديدة تنتظر وضوحها.

* هل لكرواتيا وضع خاص؟

ـ اجل هناك اشكالية معينة فالمشيخة الاسلامية هناك وقعت اتفاقية قبل عدة اشهر مع الحكومة يتم بمقتضاها تمويل المشيخة هناك من قبل الدولة، بمليون مارك اي 500 الف يورو سنويا. وذلك بعد توقيع الحكومة الكرواتية اتفاقا مماثلا مع الكنيسة الكاثوليكية. اما في البوسنة فالمشيخة الاسلامية لا تتلقى مساعدات من الدولة ما عدا بعض الدعم من محافظة سراييفو للمدرسة الاسلامية، وهذا كل شيء.

* في حال تم توحيد المشيخة الاسلامية في صربيا والجبل الاسود، هل سترفعون من مستوى توزيع الجريدة هناك؟

ـ هناك عقبات عدة، ففي عهد الرئيس اليوغسلافي الاسبق سلوبودان ميلوشوفيتش تم تنصيب حمدي يوسف سباهيتش مفتيا على المسلمين هناك. وبعدها تم اختيار مفت للسنجق من قبل المسلمين هناك. وبعد خروج كوسوفو عن سيطرة بلغراد تأسست مشيخة ثالثة هناك اصبح هنالك مشيخة في بلغراد ومشيخة في السنجق ومشيخة ثالثة في كوسوفو، ومشيخة رابعة في الجبل الاسود. الآن هناك مساع لجعل مفتي السنجق يشرف على كل ما ذكرت، الا انه غير مؤكد ولا يزال التحول يأخذ مجراه تدريجيا.

* «بريبورود» مهتمة بمنطقة بالسنجق كيف تشرحون لنا الاوضاع هناك؟

ـ اثناء العدوان على البوسنة والهرسك خطط الصرب لطرد جميع المسلمين من السنجق ووضعوا علامات على منازل المسلمين الذين كانوا يريدون تهجيرهم. ولكن الله اراد غير ذلك، فالسنجق تشهد حركة هامة، ومفتيها من العلماء الشباب المهمين وتوجد مدرسة اسلامية في السنجق وهناك بدأت الدراسة بالجامعة التي اقيمت هناك قبل عام وتضم عدة كليات وهناك يبنى حاليا العديد من المساجد. وكان ميلوشوفيتش يرفض الاعتراف بالمشيخة الاسلامية في السنجق ويرفض اقامة اي علاقة معها لكن الحكومة الجديدة تسير في هذا المنحى، وقد التقى رئيس الوزراء الصربي زوران دجنجيتش بالمفتي واتفقا على امور مهمة. لكن المسلمين في صربيا (غير السنجق) مشتتون، بعضهم يتوجه للادارة في بلغراد والآخر للسنجق، في بلغراد تم افتتاح مدرسة اسلامية ولكن المسلمين لا يزالون يعانون حتى الآن، فكثير من الاوضاع لم تتغير حتى الآن، لا توجد مقبرة خاصة بالمسلمين علما بان محاولات اقامة مقبرة خاصة بالمسلمين مضى عليها اكثر من 30 سنة. كما هناك كسل وتقصير وهناك مماطلات من قبل السلطات الصربية، ولا يوجد من يقود المسلمين للامام، الاوضاع في تلك الاجزاء من صربيا اكثر سوءا.

* ماذا عن كوسوفو؟

ـ الالبان في كوسوفو لديهم مشيخة اسلامية، لديهم شعور قومي قوي جدا، ولديهم نشاطات دينية، هم ايضا اقاموا كلية للدراسات الاسلامية، وقبل ذلك كانت لديهم مدرسة اسلامية وهكذا نجد في المنطقة مجموعة من الكليات الاسلامية. وهذا الوضع مشابه لوضع المسلمين الالبان في مقدونيا. هناك طلبة من مختلف هذه المناطق يدرسون في الجامعات الاسلامية بالعالم.