الإسلاميون هم أبرز المنادين بالديمقراطية وأكثر ضحاياها ومحاولات التشكيك تصب في مصلحة الاستبداد

راشد الغنوشي

TT

شائع في الاوساط المعادية للاسلاميين ـ إن لم تكن معادية للاسلام ذاته سواء أكان ذلك داخل العالم الاسلامي أم خارجه ـ إلقاء تهمة العداء للديمقراطية على الإسلاميين والتحذير من دخولهم طرفا في المنتظم السياسي القانوني إن في موقع السلطة أو المعارضة، وهو اتهام خطير لما يحمله من رسالة تحريضية استعدائية وترهيبية شديدة لأنظمة هي أصلا ما اعتادت اسلوبا للحكم غير أسلوب الانفراد.

ورغم المحاولات المتكررة للعلمانيين المتطرفين لأدلجة النظام الديمقراطي بما يقيم رباطا لا ينفك بينه وبين شتى ضروب العلمنة وإقصاء الدين من المجال العام وحتى الخاص كلما تمكنوا، إلا أن واقع التطبيقات المتنوعة للنظام الديمقراطي تشهد على توفره على أسس متينة لحيادية آلياته وعدم ارتباطها بأي منظور ايديولوجي، علمانيا كان أم دينيا. إنه نظام يقوم على تسويات يتوصل إليها الفرقاء يستعيضون بها عن الوسائل العنيفة بالوسائل السلمية في حل خلافاتهم سواء أكانوا من عرق واحد أم دين واحد أم لغة واحدة أم كانوا مختلفين في كل ذلك أو بعضه. فإذا اتفقوا على أنهم مواطنون أحرار في وطن مشترك وأن لا مناص لهم من التعايش السلمي، فإنهم سيجدون في آليات الديمقراطية ما يسعفهم في تنظيم حياتهم بما يضمن مصالحهم المشتركة وحقوقا لهم متساوية من خلال تنظيم الشأن العام وفق آليات الديمقراطية المعروفة والتي تملك من المرونة والسماحة ما يمكن معه تصور عمل أكثر من نظام قانوني واحد داخل الدولة نفسها.

كما أنه ليس في الاسلام عند التأمل في تعاليمه ومقاصده وتجربة تطبيقه النموذجية في عصر النبوة والخلفاء الراشدين ما يمنع الترتيبات التي جاء بها النظام الديمقراطي علاجا لآفة الدكتاتورية التي اكتوى بنارها معظم تاريخ الاسلام وبقية شعوب الأرض، وذلك بعيدا عن كل أدلجة يلح على ادعائها طرفان متقابلان هما العلمانيون المتطرفون الذي لا يفتأون يلحون على مبدأ «خذوا الغرب جملة أو دعوه جملة». وفي مقابلهم الجماعات المتشددة في التيار الاسلامي التي اتخذت من مقاومة الديمقراطية بدل مقاومة الدكتاتورية ـ التي هم بعض ضحاياها ـ أولى مهماتها.

وإذا ما تحدثنا عن موقف الحركات الإسلامية من الديمقراطية فلا بد أن نتطرق ابتداءً إلى أن التيار الإسلامي الذي يقف موقف الرفض للديمقراطية تأسيسا على نظر مبسط لكل من الإسلام والديمقراطية تيسيرا لإبراز التناقض. فالديمقراطية هي حكم الشعب، ويقابلها حكم الإسلام أنه حكم الله. وهذا من قبيل الحق الذي يراد به الباطل. ووضع حكم الإسلام مقابل حكم الشعب يعبر عن بشاعة في الذوق وإساءة للإسلام ونظامه أيما إساءة ، ويلقي حطبا على النار اللاهبة، نار التخويف من الاسلام على أنه لن يحكم الناس بإرادتهم وإنما بالفرض والاكراه. فلن يكون الحكم إسلاميا إلا إذا فرض على الناس بالحديد والنار! هذا التيار ضئيل ومحدود ولا يمثل القطاع العريض والواسع من الإسلاميين، ولكنهم فقط يملكون صوتاً مرتفعا، الأمر الذي قد يجعل البعض يشعر بكثرتهم وانتشارهم.

أما عموم التيار الإسلامي والقطاع الواسع والممتد والفاعل منه والمشارك في المشهد السياسي والثقافي العربي فهو التيار المؤمن بالديمقراطية، الممارس والداعي لها منذ اعتبر حسن البنا أن النظام النيابي أقرب الأنظمة للإسلام، ورغم ما حف بنظرة الإخوان للأحزاب من ملابسات من مثل دعوة البنا رحمه الله إلى حلها في وقت معين. والحقيقة أن تورط المنطقة في وهدة الانظمة الدكتاتورية لم يكن محتاجا لفتوى، فقد كان الاتجاه عاما في المنطقة صوب الكارثة، إلا أن الاخوان سرعان ما راجعوا موقفهم حالما بدأوا يلتقطون أنفاسهم من بعد محنتهم الطويلة القاسية، فأقدموا على الانخراط بكثافة في إطار المساحة التي تأذن بها ديمقراطية محصورة جدا، إن في مستوى النقابات أو الصحف أو التحالف مع أحزاب علمانية وصولا للبرلمان. ولم تلبث هذه الممارسة الديمقراطية أن أفرزت تنظيرا ديمقراطيا تمثل في جملة من النصوص الرسمية التي أقرتها مؤسساتهم منذ أواسط التسعينات أسست في ثقافتهم الاسلامية للتعددية السياسية ولمشاركة المرأة في الحياة السياسية وحتى للمشاركة في إدارة حكم لا يعتبرونه اسلاميا، كما دعموا ترشح نواب أقباط ورشحوا نساء للبرلمان صممت السلطة على دحرهن حتى تظل وصمة معارضة الاسلاميين لمشاركة المرأة وحرياتها وصمة ومسلمة ثابتة. كما شاركوا في تأسيس منظمة المؤتمر القومي الاسلامي مع التيارات القومية العلمانية وسعوا الى إقامة تظاهرات مشتركة في قضايا عامة مثل فلسطين والعراق مع سائر مكونات المنتظم السياسي المصري تأكيدا لإيمانهم بمبدأ المواطنة والعمل المشترك مع الجميع لخير الوطن والامة والانسانية.

ومثل ذلك وأكثر تم في بلاد عربية واسلامية أخرى من إندونيسيا الى المغرب، حيث أمكن للتيار الاسلامي في تركيا مثلا أن يتأقلم مع إطار علماني شرس حتى بلغ بعد أكثر من ثلث قرن من المحاولات ومراكمة التجارب الى أن يحكم تركيا باشتراك مع علمانيين. ولمّا أُسقط من قبل مؤسسة الجيش وحُظر لم يَدعُ الى الثورة وما رفع من راية غير راية الجهاد السلمي، داعيا أتباعه الى ضبط النفس والمصابرة. ثم ما لبث أن عاود الكرة وتشكل في هيئة جديدة هي اليوم تحكم باستقلال، بما يشهد أن التيار الاسلامي الوسطي الديمقراطي وهو الاوسع والممثل الحقيقي لما يسمى بالاسلام السياسي، أن هذا التيار الممتد في العالم قد أعاد ويعيد صياغة فكره واستراتيجيته بما يسد نهائيا باب العنف سبيلا للتغيير فعلا أو رد فعل إلا أن يكون دفعا لمحتل. وتعويله بعد عون الله على الرأي العام يتوسل اليه بالوسائل السلمية، للحصول على قبوله بالمشروع الاسلامي، بما يجعل الديمقراطية نهجه في الحكم أو المعارضة لتحكيم الاسلام. كما أثبتت ممارسة الاسلاميين في أكثر من قطر، من تركيا الى اليمن الى الاردن وماليزيا وباكستان وبنغلاديش وغيرها، فساد ما يروج من اتهام الاسلاميين بأنهم يستخدمون الديمقراطية استخداما ذرائعيا وأنهم في حقيقتهم يؤمنون بالعملية الانتخابية مرة واحدة هي التي تحملهم الى سدة الحكم ثم يقفلون الابواب نهائيا. بينما الواقع يشهد أن الاسلاميين في كل الاماكن التي ذكرت مروا بما مر به غيرهم من نجاح وفشل، وأنهم إذا فشلوا لا يتنادون الى السلاح. وإذا كانت هذه التهمة تصدق على جهة فهي الجهة العلمانية التي استصرخت العسكر لتسحق بصناديق الذخيرة صناديق الاقتراع.

لا أعتقد أن هناك جدوى في التشكيك في مدى قناعة الاسلاميين بالديمقراطية ، فهم بالمبدأ والمصلحة مقتنعون. ومن هم ليسوا كذلك فما هم في الحقيقة غير ضحية من ضحايا القمع الذي استدرجهم إلى المحرقة ومواقف التشدد فكانوا كالمنبت والعياذ بالله، ولكن الذين توفرت لهم فرص المراجعة صرحوا بتورطهم واستقامت طريقتهم على نهج الوسطية كما حصل مع زعماء الجماعة الإسلامية في مصر، وكما حصل مع معظم جماعات الجزائر.

لكن مع كل ذلك هل التخوف من الاسلاميين على الديمقراطية مشروع أم لا؟ هو في المطلق مشروع لكنه تخوّف على شيء غير موجود. فلنعمل أولا على إحداث التحول الديمقراطي بجهد جماعي في مواجهة حكم الاستبداد، وسيعطي ذلك في حد ذاته ـ يوم يحصل ـ مشروعية للجميع في الحكم الديمقراطي البديل، لأن ضمان الديمقراطية واستمرارها ليسا النوايا الحسنة التي يعلنها الفاعلون السياسيون وإنما وعي الرأي العام بقيمة الحرية ورفضه الاستبداد.