الحركات الإسلامية جادة في تبني الديمقراطية ولكنها تفشل وتتهاون في تطبيقها حال وصولها للسلطة

د. جمال عبد الجواد

TT

تمر الحركات الإسلامية في الفترة الأخيرة بتحولات ذات مغزى. فبينما راح التيار المعتدل في الحركة الإسلامية يطالب بالديمقراطية، ويقدم نفسه على أنه أحد أبطالها وأحد ضحايا غيابها، فإن بعضا من أكثر تيارات الحركة الإسلامية تطرفا ذهب لإدانة ماضيه الإرهابي، معلنا تحوله للأخذ بأساليب الكفاح السلمي، بينما لا يزال قسم لا يستهان به من الحركة الإسلامية ينحو نحو أكثر الاختيارات تطرفا، سواء فيما يتعلق بالأفكار أو أساليب العمل، وهو القسم المتمثل في التيار المعروف إعلاميا بالقاعدة، سواء كانت العلاقات بين مكونات هذا التيار تجري في إطار تنظيمي محكم، أو نتيجة موضوعية لوحدة الفكر وأساليب العمل. المؤكد هو أن أقساما تتسع تدريجيا من الحركة الإسلامية راحت تطالب بالديمقراطية وتعلن التزامها بها، ولا يجوز القول إزاء هذا التحول أن الإسلاميين يُظهرون غير ما يضمرون، وأن هذا التحول ليس سوى تحول لفظي سرعان ما ينقلبون عليه ما أن يصلوا للسلطة، فمثل هذه الحجة هي نوع من التفتيش في نوايا البشر تنتمي لمحاكم تفتيش القرون الوسطى أكثر من انتمائها إلى الفكر السياسي والقيم الأخلاقية التي عرفتها البشرية منذ عصر التنوير.

إلا أن رفض التفتيش في الصدور لا يمنع تسجيل بعض الملاحظات، وأولها هو أن الحركات الإسلامية قد دخلت في هذا المنعطف بينما تقف في مواقع المعارضة، في الوقت الذي لم تظهر فيه عليها أعراض الديمقراطية عندما كانت في الحكم في بعض البلاد الإسلامية مثل إيران والسودان وأفغانستان. وثانيها هو أن هذا التحول يجيء في سياق تعرضها لضغوط شديدة بينت عجزها عن الوصول للحكم بالأساليب الانقلابية. وثالثها أنها تأتي في سياق تتمتع فيه الحركات الإسلامية بتأييد شعبي كبير، يجعلها من بين أهم الرابحين من إعمال الآليات الديمقراطية. أيضا فإنه علينا تجنب الخلط بين الانعطاف نحو الديمقراطية، وبين الانعطاف نحو الأساليب السلمية في العمل السياسي. فالتزامن بين التحولين لدى أقسام مختلفة من الحركة الإسلامية يثير قدرا لا بأس به من الغموض والالتباس، فتخلي فريق من الإسلاميين عن العنف وتبرؤهم من تاريخهم السابق في هذا المجال ليس مساويا للقبول بالديمقراطية، فصورة المجتع المرغوب لدى هذا الفريق ما زالت كما هي إلى حد كبير، وكل ما تغير هو أسلوب تحقيق هذا المجتمع المرغوب.

وهناك أكثر من مستوى للتحول نحو الديمقراطية الذي أخذت به أقسام من الحركات الإسلامية، فهناك من ناحية التحول الإجرائي نحو القبول بصناديق الانتخابات كطريقة لاختيار الحاكم، وقد تقدمت الحركات الإسلامية كثيرا في هذا الطريق، أما المستوى الثاني فهو المستوى الفلسفي الفقهي المتعلق بأسس الديمقراطية القائلة بأن السيادة والسلطة للشعب، وأنه هو مصدر التشريع. وفيما يتعلق بهذا المستوى الأخير فإن الحركة الإسلامية تراوح وتتردد، فبينما عبر بعض رموزها عن القبول بمبدأ سيادة الشعب، فإن الأكثرية ما زالت بعيدة عن التسليم بهذا، الأمر الذي يحصر التحول الديمقراطي لدى الأغلبية من الإسلاميين في حدود البعد الإجرائي للديمقراطية من دون بعدها الفلسفي والقيمي. وبالرغم من أهمية التمييز بين أساليب العمل السياسي من ناحية والهدف النهائي والأساس الفلسفي والقيمي من ناحية ثانية، فإنه لا بد من ملاحظة وجود صلة بين المستويين. فالإنسان ككائن سياسي هو في التحليل الأخير وحدة واحدة يصعب تقسيمها إلى مستويات ومجالات منفصلة لا صلة بينها. والأرجح أن اتجاه أساليب العمل السياسي نحو الاعتدال سوف يترك آثارا مماثلة على الهدف من الممارسة السياسية وعلى أساسها القيمي والفلسفي، وإن كان ظهور هذا التأثير يحتاج إلى توفر شروط ملائمة. الانعطاف الديمقراطي لدى فريق من الإسلاميين، ونحو الأساليب السلمية في الكفاح السياسي هو دليل على اتجاه الحركة الإسلامية نحو الاعتدال، الأمر الذي يعني تضييق مساحة الاختلاف بين قسم مهم من الحركة الإسلامية والفرق والاتجاهات السياسية الأخرى. إنه تحول باتجاه القيم السياسية الأكثر مقبولية والتي تتشارك فيها الاتجاهات السياسية المختلفة، أي أنه انعطاف ناحية الوسط، وهو تحول يجب ألا تخفى قيمته، فمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الحديث عن تحول ديمقراطي في مجتمع منقسم ايديولوجيا بين اتجاهات يمثل كل منها نفيا للآخر. وكلما استطاعت التيارات السياسية المختلفة التلاقي عند منتصف الطريق، زادت فرص التحول الديمقراطي. وعند تقييم مغزى تحولات الحركات الإسلامية فإنه يصعب الوقوف عند مستوى الفكر والايديولوجيا فقط، وإلا وقعنا في منزلق ايديولوجي يستبدل الفكر بالواقع، إذ لا بد من تجاوز هذا المستوى إلى المستوى السوسيولوجي الذي يعطي تلك التحولات معناها الأعمق. فالتحول الجاري في أفكار الحركات الإسلامية لم يحدث نتيجة لاجتهاد الفقهاء، وإنما نتيجة لجدل التفاعل مع الواقع الاجتماعي والسياسي الذي برهن على عدم ملاءمة الصيغ التقليدية للحركات الإسلامية للواقع الذي تعيشه مجتمعات عربية وإسلامية. ومن المهم ملاحظة أن التحولات الجاري الحديث عنها إنما حدثت في المجتمعات التي تتمتع فيها الحركات الإسلامية بتراث وخبرات حركية أطول وأعمق، مثلما هو الحال في مصر والسودان وتونس. أما في المجتمعات التي ما زالت الحركات الإسلامية فيها تمر بمراحل النشأة والمراهقة فإن الحركات الإسلامية الفقيرة التجربة لم تشهد تحولات مهمة في الاتجاه الجاري الحديث عنه. وللجدل والتفاعل مع الواقع أهميته القصوى ليس فقط في تطور أفكار الحركات الإسلامية، وإنما أيضا في تطور الديمقراطية نفسها. فطبقا للتجربة التاريخية لم تنشأ الديمقراطية تطبيقا لرؤية أحزاب ومفكرين ديمقراطيين، ولكنها نشأت نتيجة لظهور حالة من توازن القوى استحال معها على أي من النخب والاتجاهات المتنافسة أن تستمر في الحكم من دون بناء قدر من التوافق مع النخب الأخرى. فقد كان على النخب السياسية المتنافسة أن تختار بين حالة ممتدة من الصراع وعدم الاستقرار على أمل أن تنتهي بفوز أي منها بالكعكة كلها، وبين بناء إجماع يحقق الاستقرار عن طريق الاتفاق على قواعد اللعبة، أي على الديمقراطية. ولا تمثل الحركات الإسلامية استثناء من هذا، فاضطرار الحركات الإسلامية للتعايش في بيئة تعددية حقيقية سيجبرها على القبول بالديمقراطية، وسيحول الأخيرة تدريجيا إلى أحد مكونات الفكر السياسي الإسلامي، أما إذا استطاعت الحركات الإسلامية أن تفرض هيمنتها بغير منافسة على الواقع السياسي، فإنها لا يمكن بأي حال أن تنحاز للديمقراطية، بغض النظر عن القناعات الفكرية والفتاوى والتفسيرات الفقهية.

وعند تقييم التحولات في توجهات الحركات الإسلامية نحو الديمقراطية فإن مصدر القلق ليس ما إذا كانت تحولات الإسلاميين أصيلة وصادقة ونهائية، ولكن القلق يأتي من حالة عدم التوازن بين نفوذ التيارات الإسلامية وغيرها من التيارات، الأمر الذي يتيح للإسلاميين ـ إذا أرادوا ـ الحنث بوعودهم الديمقراطية من دون رادع. بعبارة أخرى فإن شكوك غير الإسلاميين في صدقية تحولات الحركة الإسلامية، وإحجامهم عن إتاحة الفرصة لاختبار جدية تلك التحولات إنما يعكس حالة الضعف التي يعاني منها غير الإسلاميين، وكأن اختبار مصداقية تحولات الحركة الإسلامية مرهون بتزايد نفوذ منافسيها. المهم هو ملاحظة أن تحولا من نوع ما قد حدث، وأنه يصعب اختزاله في عقيدة التقية والدهاء السياسي، وأن هذا التحول قد حدث في الجدل مع الواقع بكل ما فيه من تنوع وتعددية، الأمر الذي يبين أن الحركات الإسلامية ليست استثناء من القانون العام الذي يحكم تطور المنظمات السياسية، والذي يقضي على هذه المنظمات أن تتطور هي وأفكارها في جدل وتفاعل مع متغيرات الحياة التي هي أغنى من كل فكر وأكثر ثراء من أي ايديولوجيا. فإذا كان لحركات الإسلام السياسي أن تواصل تطورها في الاتجاه الذي بدأته، أو أن تنتكس مرة أخرى إلى الوراء، أو تتجمد طويلا عند مواقعها الجديدة، فإن هذا أمر مرهون بمتغيرات الحياة والمجتمع من حولها.