الأسس الفكرية للحركات الإسلامية تعارض الديمقراطية وكل محاولات التوفيق تبدو هشة

نبيل شرف الدين

TT

ظل موقف الحركات الإسلامية المعاصرة حيال «مسألة الديمقراطية»، موضع جدل واسع منذ ظهور هذه الحركات، الذي يؤرخ له بإعلان تأسيس جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر عام 1928. ولا شك أن هناك إرهاصات سابقة عليها، لكن لا يمكن اعتبار تلك المقدمات التي انحصرت في أدبيات بعض علماء الدين نقطة بداية فعلية لأي بحث عن للحركات بمعناها التنظيمي الذي تبلور مع تراكم خبراتها حتى أصبحت بعضها «كيانات دولية» عابرة للحدود.

ولعله من نافلة القول الإشارة إلى أننا نسعى هنا إلى معالجة «موقف الحركات الإسلامية»، وبالتالي فإننا نتحدث عن الإسلاميين وليس عن «عموم المسلمين»، باعتبار أن كل من هذه الجماعات أو الحركات، هي «جماعة من المسلمين»، وليست «جماعة المسلمين».

يقودنا هذا إلى الأساس الفكري الذي تتبناه تلك الجماعات، باعتباره المرجعية المعتمدة فقهياً لدى منتسبيها وقادتها، وهو أيضاً مناط استقطاب العناصر الجديدة، والتفاف المؤيدين لها، ومن هنا يلزم نبش هذا الأساس، من خلال اثنين من أبرز الآثار التي تركها منظرو هذه الحركات، وهما كتيب سيد قطب «معالم في الطريق»، وكتيب محمد عبد السلام فرج «الفريضة الغائبة».

والبداية مع قطب، «العرّاب الأبرز» في هذا المضمار، لأنه لم يؤسس فقط لمنهج الجماعة التي وصل إلى مجلس شوراها، بل وضع الأساس النظري «التأصيل الشرعي» لـ«معالم الطريق»، الذي سارت وتسير عليه عشرات الحركات حتى يومنا هذا. ففي هذا الكتيب المهم يحسم قطب الأمر ليس فقط بمصطلحات المودودي الأربعة، بل أيضاً بإعادة إحياء مسألة تقسيم العالم إلى «دار الحرب»، و«دار الإسلام»، ليكون بذلك مرجعية لابن لادن، حين قسم العالم إلى فسطاطين.

كما ينسف قطب فكرة «المواطنة» من أساسها، ولا شك أنها اللبنة الأولى في أي حديث عن الديمقراطية، فالوطن عند قطب هو العقيدة، و«جنسية المسلم عقيدته»، ومن هنا تصبح أي محاولة لترميم هذا الأساس، هي من باب المراوغة، ذلك لأن تصوراً لدولة تميز بين مواطنيها على أسس عقدية لا يمكن أن تكون ديمقراطية. وفي تصور قطب أن الاعتقاد وحده هو الوشيجة التي يمكن الاعتداد بها، ويؤصل ذلك بقوله إن الإسلام «جاء ليقرر أن هناك وشيجة واحدة تربط الناس في الله، فإذا انبتّت هذه الوشيجة فلا صلة ولا مودة».

وأن هناك حزبا واحدا لله لا يتعدد، واحزابا أخرى كلها للشيطان وللطاغوت.

وأن هناك طريقا واحدا يصل إلى الله وكل طريق آخر لا يؤدي إليه.

وأن هناك نظاما واحدا هو النظام الإسلامي وما عداه من النظم فهو جاهلية.

وأن هناك شريعة واحدة هي شريعة الله وما عداها فهو باطل.

وأن هناك حقا واحدا لا يتعدد، وما عداه فهو الضلال ـ (معالم، ص 85).

ولأن الأصوليات تبدأ معاركها بالأسلحة الثقيلة، فلا يصبح مفيدا أي سجال فكري، حيث يمضي قطب إلى ما هو أبعد من ذلك، حين يقطع بلغة تقريرية صارمة في معرض تأصيله لاعتبار العمل الحركي من لوازم صحة إسلام المرء، فيقول إن «الإسلام ليس مجرد عقيدة، حتى يقنع بإبلاغ عقيدته بوسيلة البيان، إنما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس، والتجمعات الأخرى لا تمكنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو، ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرير العام»، (معالم، ص 50).

وهكذا يتمترس قطب خلف قراءته للنصوص المقدسة، في تفسيره الشهير (الظلال) حيث يؤصل لمسألة «الحاكمية» التي أفرد لها ولمسألة «الجاهلية» اهتماماً خاصاً في (المعالم)، فيقول: «إنّ الحكم لا يكون إلاّ لله، فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته، إذ الحاكمية من خصائص الألوهية، من ادعى الحق فيها فقد نازع الله أولى خصائص ألوهيته، سواء ادعى هذا الحق فرد، أو طبقة، أو حزب، أو هيئة، أو أمة، أو الناس جميعاً في صورة منظمة عالمية، ومن نازع الله أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر بالله كفراً بواحاً، يصبح به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة، حتى بحكم هذا النص وحده». (الظلال، ج 4 ، ص 1990).

فأي حديث عن الديمقراطية في ظل هذه القراءة المتعسفة للنص، التي تجعل من الحكم «مهمة إلهية»، وليست مجرد «فعل بشري» يمكن أن يكون موضع الخطأ والصواب والنقد، وما دام الأفراد والجماعات لا تستطيع ممارسة الحكم وفق تصوراتهم الخاصة التي يطلق عليها «البرامج السياسية»، فكيف تكون هناك ديمقراطية ما دام الأمر محكوماً بسقف تصورات هذه الذهنية التي تزعم امتلاك ناصية الحقيقة انطلاقا من إحساس زائف بامتلاك «الوكالة الحصرية» لشؤون القداسة، فهي لا تبتسر النص من سياقه التاريخي فحسب، بل تستخدمه بطريقة انتقائية يتصور معها هؤلاء أنه من الممكن استحضار العصور، واستنساخ الأزمنة.

ومن قطب ننتقل إلى مرحلة لاحقة، تعكس وعي جيل آخر من منظّري الحركات الإسلامية، ونناقش هنا بعضاً من طروحات محمد عبد السلام فرج، وهو من أبرز الأسماء في تاريخ تنظيم «الجماعة الإسلامية» المصرية، ولعب دور العقل التنظيمي سنوات، وكان يدعم هذا الدور بمساهمات واجتهادات فقهية، ساعدته ثقافته الواسعة في العلوم الشرعية في التصدي لها، وتوجها بدراسة تعد واحدة من أهم الوثائق على تجربة هذا الجيل من الإسلاميين الحركيين. وهذا الدراسة «الوثيقة» هي (الفريضة الغائبة)، التي أنجزها عام 1981 قبل اغتيال السادات، وهي تشبه «معالم قطب» في ضآلة حجمها، كما تشبهها أيضاً في عظم أثرها، فلم تكن واحدة كغيرها من أدبيات «الجماعة»، بل كانت نقطة مفصلية في وعي هذا الفصيل بما يقاتل ويحمل السلاح من أجله، وكانت أيضاً «نقلة نوعية» في الخبرة المصرية مع الإسلام السياسي.

ويستهل فرج هذه الوثيقة بطرح سؤال مبكر يختصر به كثيراً من المقدمات، ويقطع الطريق على أي باحث يتلمس أي ظل لالتقاء مثل هذه القناعات مع الديمقراطية، حين يتساءل فرج:

«هل نحن نعيش في دولة إسلامية؟ من شروط الدولة أن تعلوها أحكام الإسلام، وأفتى الإمام أبو حنيفة أن دار «الإسلام» تتحول إلى «دار كفر» إذا توفرت ثلاثة شروط مجتمعة:

1 ـ أن تعلوها أحكام الكفر.

2 ـ ذهاب الأمان للمسلمين.

3 ـ المتاخمة أو المجاورة. وذلك بأن تكون تلك الدار مجاورة لدار الكفر بحيث تكون مصدر خطر على المسلمين، وسبباً في ذهاب الأمن، وأفتى الإمام محمد والإمام أبو يوسف صاحبا أبي حنيفة بأن حكم الدار تابع للأحكام التي تعلوها، فإن كانت الأحكام التي تعلوها هي أحكام الإسلام فهي دار إسلام، وإن كانت أحكام كفر فهي دار كفر» (الفريضة، ص 25).

ويخلص فرج إلى نتيجة مؤداها أن مصر ليست وحدها «دار كفر»، بل ربما كل دول العالم ينطبق عليها هذا الحكم، الذي تترتب عليه نتائج خطيرة منها أن كل «دار كفر» هي بالضرورة «دار حرب»، وبالتالي فإن قتالها أمر شرعي واجب.

وفي حال القطيعة ـ وربما العداء ـ مع العالم هذه التي يؤسس لها فرج، يصبح الحديث عن الديمقراطية لغواً، ذلك لأن الدولة الديمقراطية بطبيعتها جزء من العالم بصورة أو أخرى، وليست ركنا قصياً ولا «مغارة أشرار» لا طاقة لهم بمحاربة العالم، ومع ذلك يناصبونه العداء.

وهذا بالطبع ليس المعيار الوحيد الذي يبدد الأمل في القبول بادعاء إمكانية تعايش هذا الفكر وتلك الخبرات التي أفرزتها جماعات الإسلام الحركي، مع أي نموذج معروف لدولة ديمقراطية، تقوم على الأسس المتعارف عليها كتعدد الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، والتداول السلمي للسلطة، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، و.. و.. الخ، بل تؤكد طروحاتهم هذه أنه لا يتصور وجود أي نظام ديمقراطي في ظل أي نموذج للدولة الدينية لأنها تميل بطبيعتها لأن تكون «توتاليتارية». وبما أن الهدف الأساسي للإسلام السياسي هو إقامة ما يسمى بالدولة الإسلامية، إذن فلا أمل في أن تكون هناك ديمقراطية في هذا السياق، ومع هذا فإن هناك رجل جاء من أقصى درجات الطيف الأصولي مرونة، هو راشد الغنوشي، يسعى محاولاً تمرير صلة ما بين الديمقراطية ودولة الأصوليين المنشودة، عبر تفكيك المفهوم بقوله «إن جوهر الديمقراطية الكامن في كونها وسيلة لجعل الإرادة الشعبية حرة ونافذة على المستوى السياسي، وليس معناها بوصفها منظومة قيم تمخضت عنها تجارب الغربيين»، أي أن قبولها مشروط بتجريدها من كل ما لا ينسجم مع الأحكام التي تستند إلى تفسيرات وقراءات للنص تتفاوت في تشددها تارة ومرونتها أخرى، وقدرتها على المناورة دوماً، وهذا لا يتطلب معجزة فحسب، بل يحول الأمر لما يمكن وصفه بـ«السيرك السياسي»، وهو ما حاول مراراً أن يفعله رجل يتمتع بخبرات هائلة على الصعد السياسية والحركية فضلاً عن باعه الطويل في التنظير، وهو حسن الترابي، الذي سعى لتحقيق ذلك في السودان، عبر عدة تجارب في ظروف سياسية مختلفة كللت جميعها بالفشل الذريع، والدخول إلى نفق معتم تلو الآخر. وأخيراً، وحتى في شأن الشورى، فلعل ما ورد على لسان فرج في تحقيقات النيابة معه، ما يوضح لنا مفهومهم للشورى، فقد ورد في أقواله رداً على سؤال عن قواعد الشورى التي يتبعها: «ينفرد الأمير باختيار الموضوع المطروح للشورى ابتداء، وبعدها يختار أهل «العقد والحل»، والشورى لا ترد على الأصول العامة، بل تنحصر في المسائل الفرعية أو العارضة»، ومع هذا كله «فالشورى ليست ملزمة بل معلمة للأمير، فله أن يأخذ بها أو ينفرد برأيه ولو اجتمعت الأمة بأسرها على خلاف ما ذهب إليه، فالأمر مفوض للأمير بموجب البيعة وعلى الكافة السمع والطاعة»، فهل تُبقي مثل هذه الرؤية للشورى على أي نقطة التقاء مع الديمقراطية.