المشاريع النقدية للفكر الديني تهيمن على أعمال المثقفين الإيرانيين

لقاء مع باحث عربي مقيم في قم عن صورة المشهد الثقافي الإيراني: العقل الفلسفي في مواجهة هيمنة النصّ الديني < أمّن الباحثون الإيرانيون الجنبة المذهبية فلم يعملوا النقد في مسلماتهم العقائدية < الكثير من النخب العربية في إيران لا تعرف ما يجري حولها من حراك ثق

TT

تعيش إيران حراكاً نشطاً على الصعيد الثقافي والفكري، تتقاطع بعض التجارب فيه أحياناً مع مشاريع نقدية عرفها العالم العربي، وتتمايز عنها، ولعل أهم ما يثير الاهتمام في التجربة النقدية الإيرانية أنها تتكاثر في بيئة عرفت لونين من أنماط التفكير: التفكير الفلسفي الذي توارثه المثقفون الإيرانيون، وأصبح سمة بارزة في تأسيس الاتجاهات العقلية، والاتجاه الآخر الديني (السلفي) الذي يقتفي أثر النصوص، ويحذو حذوها، وهو اتجاه عززه تنامي دور "الحوزات" الدينية، ورجال الدين هناك.

وبالرغم من أن الجدل الصاخب في الجوار الإيراني، مهم للغاية ويؤسس لمشاريع نقدية هامة فإن القليل منه يرشح للجوار العربي، بالرغم من أن المثقفين العرب قرأوا أخيراً نظريات وأعمال مثقفين من قبيل: عبد الكريم سروش، محمد مجتهد شبستري، محسن كديفر، ومصطفى ملكيان، كما تابعوا الجدل الكبير الذي أحدثته نظرية "القبض والبسط"، للدكتور سروش، ونظريات تكامل المعرفة الدينية، والتعددية الدينية، ونسبية المعرفة ، وغيرها.

وإذا كانت نظرية سروش تمثل "حدثاً" فكرياً يخرج عن مداه الإيراني، فإن نظريات وآراء مثقفين آخرين اشتعل حولها الجدل لدرجة أن واحداً بين هؤلاء المثقفين هو محسن كديفر ساقته أفكاره إلى السجن، وآخر هو الدكتور هاشم أغاجري ساقته آراؤه إلى المقصلة حيث واجه حكماً بالإعدام.

ورغم شدة المواجهة بين التيارات والنظريات المختلفة فإن المناخ الإيراني لم يعرف السكون يوماً.. وعملت المدرسة الدينية ونظام الحوزات، والأهم الطبيعة الفلسفية للعقل الإيراني، في تدعيم مجالات البحث والتجديد، بالرغم من أننا لا نلحظ هذا الحماس النقدي متجهاً نحو البنيان العقائدي، إلا بقدر المشاركات في المماحكات الدفاعية ذات الأسس المنهجية التراثية.

المقابلة التالية مع واحد من المثقفين العرب المقيمين في معقل الجدل الفكري الإيراني (مدينة قم) والأستاذ في الحوزة العلمية لبعض المراحل الدراسية العالية، ورئيس تحرير مجلة "المنهاج" الفكرية، وهو الشيخ حيدر محمد كامل حبّ الله، اللبناني الأصل وعضو دائرة معارف الفقه الإسلامي، وأحد الذين أسهموا في نقل التجارب الفكرية الإيرانية للقارئ العربي، وترجم عدداً من الكتب ونحو خمسين دراسة من اللغة الفارسية للعربية، واهتم بالفلسفة وأصدر علاوة على حوالي الخمسين دراسة ومقالة كتاباً اسمه "علم الكلام المعاصر" وكتاباً آخر هو "التعددية الدينية"، لتسليط الضوء على صورة المناخ الثقافي الإيراني، وطبيعة المدارس الفكرية هناك، وحقيقة الاتجاهات التجديدية في المدرسة الإيرانية.

< ما الذي يميز أعمال المثقفين الإيرانيين عن نظرائهم العرب، يعني مثلاً ما الفرق بين أعمال عبد الكريم سروش، ونصر حامد أبو زيد أو أعمال مجتهد شبستري ومحمد أركون؟

ـ أمور كثيرة، لكن يمكنني القول من حيث المبدأ إن أعمال المثقفين الإيرانيين تأتي متميزة بالحراك على الصعيد الفكري في الجسم الاسلامي الشيعي، وذلك أن تجارب إخواننا المفكرين في مصر والمغرب العربي تنمو وتتفاعل في مناخ ديني غير شيعي، وبالتالي كان لها بعض الخصوصيات، كما كان للحركة الثقافية في إيران خصوصياتها. لقد وجدنا أنّ بعض الأفكار التي أثارها المفكر الإيراني الدكتور عبد الكريم سروش، كان لها حضور في نتاجات محمد أركون، إلا أن تجربة الدكتور سروش كانت تحاول استحضار المعطيات الإبستيمية الى مناخ الفكر الشيعي، ولهذا شاهدنا مقارناته بين محمد باقر المجلسي ومحمد حسين الطباطبائي، أو استدعاءه نتاج صدر المتألهين الملا صدرا الشيرازي، والملا هادي السبزواري. فبعد أن كان الدكتور نصر حامد ابو زيد معنياً بقراءة الغزالي في مناخ السلفيّة السنّية، كان سروش معنياً بشخصيات شيعية في مناخ إمامي، وهذا ما يشكل عنصراً متميزاً للتجربة الإيرانية، كونها تضّخ بثقافة في مناخ لم تعرفه مصر ولا المغرب العربي ولا بلاد الخليج إلى حدّ كبير.

كذلك من تلك المفارقات طبيعة التفكير الفلسفي لدى الباحثين الإيرانيين.

< هل لهذا تأكيد لما يقوله أحد المثقفين العرب بأن العقل الإيراني هو عقل فلسفي؟

ـ هذا الرأي يتبناه غير واحد، مثل الدكتور رضوان السيّد، الذي يرى أن العقل الإيراني، عقل فلسفي، على النقيض من العقل العربي. وبعيداً عن صحة هذه المناقضة إلا أن السياق الفلسفي بالغ الأثر في الفكر الإيراني، ولهذا وجدنا أن اهتمام الحداثيين والمدرسيين (نسبة الى المدارس الدينية - الحوزات) في إيران جاءت منسجمة لجهة وحدة السياق، فالنسق الفكري الذي ينتمي اليه زعماء التيار المدرسي والدفاعي هو نسق فلسفي.

< هل هناك نماذج لكلا الاتجاهين..؟

ـ نعم لك أن تأخذ الشيخ جوادي آملي، والشيخ صادق لاريجاني، والشيخ مصباح اليزدي، والشيخ محمد تقي جعفري، نماذج لتأكيد هذا الأمر، في مقابل أمثال الدكتور عبد الكريم سروش، والدكتور مصطفى ملكيان، وغيرهما.

< حسناً ما تأثير هذا العقل الفلسفي على المشهد الثقافي الإيراني؟

ـ إن العقل الفلسفي الإيراني هذا جعل المشهد الثقافي في إيران عقليّاً بحتاً، ولهذا لم نجد نزاعات طويلة حول قضايا إثبات النصّ ونظرية السنّة، أو إشكاليات علوم الحديث والرجال، كما حصل في الساحة المصريّة وفي السعودية ودول الخليج. والاستثناء الوحيد كان تأثيرات مدرسة العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي القرآنية والتي دخلت حيّز الجدل من زوايا تنتمي هي الأخرى اليوم إلى مجالات عقلية أو عقلانية، كالألسنيات، وفلسفة اللغة، ودراسات التأويل، والهيرمنيوطيقا، الأمر الذي شاهدناه مع سروش، ومحمد مجتهد شبستري، وأحمد واعظي، وصدر الدين طاهري، وغيرهم، فيما ظلت علوم النصّ خارج معركة التجاذب التي غطّت البلاد.

ومن هنا وجدنا نظريات تكامل المعرفة الدينية، والتعددية الدينية، ونسبية المعرفة، ومفهوم الدين بالحد الأدنى وما يسمى توقعات البشر من الدين وسواها من النظريات البارزة على المشهد الثقافي الإيراني.

< تتحدث عن المعرفة ولكن الاشتغال بالدراسات الفلسفية سوف يجعل المشهد مشدوداً لجدلية فلسفة الوجود؟

ـ لم يكتف المشهد الثقافي في إيران بالاصطباغ بالصبغة الفلسفية، بل تجاوز هذه المرة فلسفة الوجود الى فلسفة المعرفة، حتى لو بقي انصار التيار المدرسي والدفاعي أوفياء لفلسفة الوجود، لكنّ الموضوعات التي شغلت بال الباحثين الإيرانيين سيما في العقد الاخير كانت فلسفات معرفية لا على طريقة "فلسفتنا" للمفكر السيد محمد باقر الصدر، أو "الأسس الواقعية" للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، وإنما معرفيات ثانوية تعاملت مع الفكر البشري بإعتباره واقعاً مفروغاً منه.

إن نظريات من قبيل: "التعددية الدينية"، أو نظرية "القبض والبسط"، أو حتى "التأويل" كلها معرفيات تُعنى بالقارئ للنصّ والدارس للواقع، أكثر مما تعنى بالواقع نفسه.

< غالباً ما يتبادر للذهن: ما الدافع وراء رواج مثل هذه النظريات في بلد كإيران؟ هل كان المثقف هناك يعاني من سلبية المناهج العقلية؟

ـ السبب الذي دفع المناخ الإيراني للدخول في هذا النوع من الفلسفات هو إحساس المثقف الإيراني، وكما أحسّ بذلك من قبل الدكتور محمد عابد الجابري، بأن ثمة مشكلة في نظم التفكير تبدو الإطلاقية والدوغمة أبرز مظاهرها، لا بل إن مفاهيم الفلسفة الاجتماعية والسياسية تنبني هي الأخرى على قراءة جديدة للفكر، وآليات العقل الإنساني، فالحرية مثلاً مفهوم مرحبّ به في مناخ التعددية المعرفية، وغريب إلى حدّ ما في مناخ الدوغمة، والاحتكار المعرفي.

< أين يقع الاتجاه التجديدي في الفكر الديني؟ أين موقعه ضمن الاطار المدرسي في الحوزة العلمية، وكذلك في الجامعات؟

ـ من الخطأ إيجاد تصنيف يقوم على أساس الجامعة والحوزة في إيران على الصعيد الفكري والثقافي، وذلك لضخامة التداخل بين الشريحتين الثقافيتين. إننا نجد تجديديين في أجواء الحوزة العلمية يتقدمون على نظرائهم في الجامعات والعكس صحيح أيضاً، ولهذا نجد أن ما يسمى بالحركة التجديدية ينساب ـ على السواء ـ في الجسمين معاً.

< دعنا نتحدث عن الحوزة أولاً.. تقول أن فيها اتجاهات تجديدية ؟.

نعم هناك في الحوزة اتجاهان تجديديان، هما: الاتجاه الداخلي، والاتجاه الخارجي، ونعني بالاتجاه الداخلي الاتجاه الذي يحاول تطوير الفكر الديني من داخل آليات الفكر نفسه. وأما الاتجاه الخارجي فهو ذلك الاتجاه الذي يسعى للاستعاضة عن آليات الاجتهاد المتداولة بآليات ذات أنساق معرفية أخرى.

في الإتجاه الداخلي هناك تياران:

الأول : تيار التجديد الاسلوبي، وهو التيار الذي يحاول اعادة انتاج نفس معطيات التراث ولكن بلغة عصرية وأسلوب عصري، أي انه لم يضف الى الموروث شيئاً اساسياً، بقدر ما أعاد صياغته وآليات عرضه. وتبدو تجربة الشيخ جعفر السبحاني بارزة على صعيد تناوله علوماً تراثية بأساليب جديدة منها علوم الكلام والرجال والحديث وغيرها، كما تبدو أمامنا تجربة السيد محمود الهاشمي على صعيد مشروع دائرة معارف الفقه الاسلامي الشيعي، وهو المشروع الأول في التاريخ الشيعي الذي يحاول استعراض مداخل الفقه بلغة موسوعية. وهكذا تصادفنا ايضاً تجربة الشيخ باقر الإيرواني، وسعيه لتطوير مناهج الدراسة الحوزوية على صعيد علوم الفقه والرجال وآيات الأحكام والقواعد الفقهية. كما لا يمكننا أن نتجاهل تجربة الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، التي حاولت مخاطبة الشباب بلغة جديدة، إلى جانب تجربة الشيخ محسن قراءتي التي مزجت خطاب الشباب بروح النكتة والدعابة، وتجربة الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي في تطوير منهج الدراسة الفلسفية، وغير ذلك من المشاريع والتجارب الأخرى.

الثاني: تيار التجديد في المضمون الفقهي، ونلاحظ أن هذا التيار حاول أن يقّدم معطيات في الفقه الإسلامي بالخصوص تعيد ضخّ روح التحديث فيه، لكنّ الفئات التي كانت تنتمي إلى هذا التيار كانت متفاوتة في حجم عطائها وسرعة خطواتها، فهناك اتجاه متحفظ يعتمد الحركة الهادئة، برز فيه السيد محمود الهاشمي في نتاجاته الفقهية، كما ظهرت شخصيات من أمثال الشيخ حسن الجواهري والشيخ محمد علي التسخيري والشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ممن سعى لمعالجة موضوعات جديدة وتجاوز بعض الأطر بشكل بالغ التحفظ، ولعل محاولات ناصر مكارم الشيرازي على صعيد فقه الحج كانت أبرز من غيرها.

< ألا يوجد إتجاه راديكالي باتجاه التجديد داخل الحوزة؟

ـ كان هناك اتجاه أقلّ تحفظاً حاول تقديم معطيات فقهية وفكرية أكثر جدية ومخالفة للمألوف، برز منهم الشيخ يوسف الصانعي جلياً سيما في فقه المرأة، كما ظهر الشيخ ابراهيم الجناتي كأحد المعارضين لمقولة "الاحتياط"، وكذلك السيد عبد الكريم الاردبيلي الذي كانت له بعض المحاولات المحدودة سيما في مسألة "الارتداد" عن الدين.

لكنّ فريقاً ثالثاً كان أكثر تقدماً على صعيد اقتحام بعض الخطوط الحمراء، فحاول هدم بعض المقولات ذات الطابع المنهجي والتي تدرس عادة في علم اصول الفقه، كما حاول الخروج بنتائج قلّما خرج بها فقيه.

< هل ثمة أسماء يمكن ذكرها؟

ـ نعم يمكننا طرح اسم السيد محمد جواد الموسوي الأصفهاني الذي نسف نظرية خبر الواحد وكل المرجعيات الظنية، وهو عمل ليس بالسهل اليسير. كما ويمكن طرح اسم الصادقي الطهراني صاحب كتاب "تبصرة الفقهاء) والذي اعتمد النصّ القرآني أساساً فاصلاً في آليات الإجتهاد مما جعله يخرج بنتائج مذهلة في دراساته الفقهية، قياساً بالمناخ العام. كما أنّ محاولات الحكيمي في مدرسته التفكيكية كانت ذات اثر واضح إذ دعا لفصل المناهج العقلية والنقلية والعرفانية وهي دعوى تعارض السائد في إيران.

< تحدثت عما سميته بالإتجاه الداخلي. فماذا عن الاتجاه الخارجي؟

الاتجاه الخارجي الذي يحاول الاستعاضة عن آليات الاجتهاد المتداولة بآليات ذات أنساق معرفية أخرى، بدت له في الأفق محاولات عديدة، إذ استحضر السيد محمد حسين مدرسي الطباطبائي آليات القراءة التاريخية المعاصرة في دراسته "تطور علم الكلام الشيعي في القرون الأولى" وخرج بنتائج لافتة، وهي إحدى المرات القلائل التي تدرس ـ حوزوياًَ ـ مجريات الفكر فيها دراسة تاريخية (تاريخانية) بما للكلمة من معنى.

< من هو السيد محمد حسين مدرسي الطباطبائي؟ هل هو رجل الدين المقيم في الولايات المتحدة والممنوعة كتبه من الدخول لإيران؟

ـ المدرّسي الطباطبائي واحد من علماء الدين الذين قطنوا الولايات المتحدة فترة طويلة، وقد حاول في دراساته ان يهتم بالقراءة التاريخية للفكر فكانت له دراسة عن تاريخ الفقه الإسلامي أعتَبِرُها جيدة إلى حد بعيد وإن كانت مقتضبة في معالجاتها، كما كانت له دراسة لتطور الكلام الشيعي وخصوصاً نظرية الإمامة، لكن الكتاب الأخير إذا منع في إيران فليس ذلك لأجل معارضة المنهج التاريخاني في قراءة الفكر، لأن المناخ الإيراني يرحب بشكل كبير بهذا المنهج كما اعتقد، وإنما قد يعود لخصوصيات مذهبية تتصل بموضوع الدراسة ألا وهو نظرية الإمامة، رغم أن الدراسات المتعلقة بنقد الموروث الإمامي مسموح بها في إيران إلى حد بعيد، ولكن مع ذلك فقد نشر أحد فصول الكتاب في مجلة "نقد ونظر" التابعة للحوزة العلمية في قم منذ حوالي الأربع سنوات أو ما يزيد.

< هل تحدثنا عن بعض المشاريع الفكرية لأصحاب الاتجاه الخارجي، كما تسميهم، داخل الحوزة؟

ـ يمكن أن نشير إلى محاولات الشيخ مهدي المهريزي وآخرين، افتتاح علم فلسفة الفقه بما يعزز قراءة الفقه الاسلامي من زاوية محايدة انطلاقاً من مفهوم الفلسفات المضافة التي راجت في الغرب (فلسفة العلوم)، وكان الشيخ محمد مجتهد شبستري قد أثار اللغط حوله حين نادى بالتخلي عن مقولة حقوق الانسان، في الاسلام، ليدافع في دراساته عن الإعلان العالمي لحقوق الانسان معتبراً إياه المرجعية الوحيدة في هذا الخصوص. وليجعل من فعل النبي صلى الله عليه وسلم مجرد استيحاء يوظف لتقنين معاصر لا مرجعية حصرية كما تراه الاتجاهات النقلية في الفكر.

كما أثار شبستري زوبعة من الجدل حول استخدام مناهج التأويل المعاصر (الهرمنيوطيقا) في قراءة النصّ الديني، فيما يشبه الى حدّ ما حصل مع الدكتور نصر حامد أبو زيد.

وهكذا نجد ان الاتجاه الخارجي استدعى مناهج التأويل المعاصرة، ومناهج القراءة التاريخية المعاصرة، ومناهج الفلسفة المضافة.. ليعيد على اساسها قراءة التراث تماماً كما حاول الدكتور شريعتي بالنسبة لعلم الاجتماع ومثله الدكتور علي الوردي في العراق.

< ماذا على الصعيد الجامعي، أين تقع دراسات عبد الكريم سروش؟

ـ على الصعيد الجامعي ظهرت مساهمات عدةّ، من أبرزها مساهمة الدكتور عبد الكريم سروش الذي اعاد قراءة المنظومة المعرفية وفقاً لتخصصه في فلسفة العلوم، وقد درس نظم المعرفة في الفقه الاسلامي وغيره ايضاً. لقد كانت محاولته إعادة تركيب آليات المعرفة الدينية عموماً، فلم يقتصر جهده على علم دون آخر، ومن ثمّ كان اهتمامه منهجيّاً بالدرجة الأولى، وقد استشعر معارضوه تداعيات برنامجه في مجمل العلوم الدينية فشعروا بقلق بالغ كونه يفضي ـ برأيهم ـ إلى النسبية والشك، مما يجعل كل المعتقدات في موضع حرج ومأزق حادّ، بل يجعل نظام الفقه الإسلامي محلاً لتساؤل كبير، ويُسقط بشدة من مكانة رجال الدين، كونه يماهي بين فهمهم وفهم الآخرين، لا بلّ إنه يفضل فهم الآخرين على فهمهم.

< ما الأساس المعرفي الذي تركته نظرية "القبض والبسط" لسروش؟

ـ نظرية تكامل المعرفة الدينية "القبض والبسط" تستدعي حصول تحولات في العلوم الدينية تبعاً لتحولات طرأت على العلوم الأخرى، فإذا لم تكن للمدرسة الكلاسيكية مواكبة علمية للعلوم الآخرى فلن تستطيع تحقيق نتائج مضمونة.

< كان من الطبيعي إذن أن تثير نظرية سروش لغطاً في الشارع الإيراني؟

ـ لقد تعرضت طروحات سروش لنقد واسع جداً كان أبرزه نقد الشيخ صادق لاريجاني في كتابات عديدة، إلى جانب الدكتور عبد الله نصري والشيخ أحمد الواعظي ... كما ساهم في النقد أطراف آخرون كل من موقعه، غير أن بعض المحاولات جاءت بخيبة أمل كونها استعجلت بشكل واضح في الردّ قبل أن تدرك بوعي دقيق طبيعة الاطروحة.

وثمة نقطة أراها بالغة الاهمية، وهي أن طبيعة السجال الذي دار حول نتاج سروش كانت معقدة، لأن مناخات الثقافة التي ينطلق منها سروش وخصومه كانت مختلفة، لقد كان العقل الارسطي مسيطراً على حد كبير على انتقادات المعارضين، فيما كان سروش قد تجاوز هذا العقل، بل العقل الاستقرائي كما يظهر من نقده على تجربة "الاسس المنطقية للاستقراء" للراحل السيد محمد باقر الصدر.

< على صعيد آخر، ما موقع دراسات العلوم الإنسانية وعلم الكلام الحديث في سلم اهتمامات الباحثين الإيرانيين؟

ـ عندما يستحضر الباحثون الإيرانيون الدراسات التاريخية على نطاق واسع والقراءة التاريخية للفكر أيضاً، كما يستحضرون اللغة وانشعاباتها، فإنهم يوظفون تلقائياً منجزات العلوم الإنسانية، فضلاً عن أنهم ـ كما اشرنا ـ زاملوا الفلسفة القديمة والجديدة. وأما علم الكلام الحديث أو الجديد فقد طرح في الاوساط الإيرانية واندلع خلاف في مبررات الدعوة الى علم كهذا، وأساساً ما هو هذا العلم؟! وبماذا يمتاز عما في أيدينا من علوم؟ وقد كانت فكرة وجود تحّول شامل موضوعي، وهدفي، ومنهجي في علم الكلام، العكاز الذي اعتمد عليه أنصار الدعوة لتأسيس هذا العلم. وقد كان اسهام الدكتور أحد قراملكي واضحاً في تحليل ما وسمه بالهندسة المعرفية لعلم الكلام، لقد شعر الباحث الإيراني أن آليات وموضوعات الكلام القديم لا تعنيه اليوم كثيراً، ومن هذه العقيدة التي ارتآها وجد نفسه ملزماً بفتح نافذة جديدة لدراسات كلامية من نوع آخر، ثمة ما يجمعها وهو الهمّ الفكري المعاصر، وإن لم تكن تجمعها دائرة متناغمة تنتمي الى فرع علمي واحد.

< لاحظنا في المدارس الفكرية في العالم الاسلامي اتجاهات نقدية تنال من مسلمات واساسات عقائدية، بينما انشغلت المدرسة الإيرانية بأبحاث دفاعية. لماذا انغمست المدرسة الإيرانية في تبرير ثوابتها عوضاً عن تعريضها للنقد؟

ـ لا اتفق كثيراً مع هذا الافتراض، لأنه يلاحظ زاوية واحدة في رؤيته للمشهد الثقافي. إن الاتجاه الدفاعي كان أحد الاتجاهات المتوقع ظهورها في مجتمع ديني كالمجتمع الإيراني، وأعتقد أن النقد كان أساساً دارت حوله معركة الأفكار كما يسميها مالك بن نبي في العقد الأخير من القرن العشرين في إيران.

< ولكن جملة من الأفكار النقدية لنظريات عقائدية شيعية ظهرت خارج إيران، في حين انشغل الباحثون الإيرانيون بأبحاث علم الكلام والفلسفة.

ـ هذا صحيح، لقد ظهرت نقاشات في المحتوى العقائدي في الساحة العربية، ووجدنا أسماء مثل أحمد الكاتب، والمرجع اللبناني السيد محمد حسين فضل الله، تتعاطى الشأن العقائدي من زاوية المضمون، فيم لم نر هذا المشهد بارزاً في إيران، بل استعيض عنه بالجدل الفلسفي. وأظن أن الاحتكاك المذهبي عند الشيعة العرب وكون الغالبية الساحقة من الإيرانيين على مذهب واحد، كان له الدور في تعاطي الشأن المذهبي بروح نقدية في البلاد العربية أكثر منها في إيران.

< برأيك لماذا هذا الحراك البطيء في الاجتهاد الكلامي؟ على مستوى الموضوعات والآليات؟

ـ ثمة أسباب عديدة، من بينها رفض المؤسسة الدينية الرسمية اقتحام المحرم الفكري، علاوة على القلق الذي ينتاب العقل الديني عموماً من إحداث شرخ في منظومة التفكير، لأن العقل الديني يجد الاطمئنان في حالة الثبات والاستقرار التي تحكم منظومة العقائد والأفكار، لأن الموضوع الديني بنظره هو موضوع ثابت .

< هل لذلك تكثر ظاهرة الإحتياط؟

ـ منطق الاحتياط الذي يتبناه العقل الديني، وكذلك أيضاً ذهنية التحريم التي يعيشها ترجع الى الشعور بالخوف على الذات، لأن هذه الذات غدت مرتهنة لمفهوم الثبات. إن نظرة العقل الديني السائد لموضوع المعرفة جعله يركن أكثر لمفهوم الثبات. أما العقل الحداثي، وبالأخص ما بعد الحداثي فقد نظر لظاهرة المعرفة نفسها فكان على استعداد اكبر لفهم التحّول.

< نقرأ لمصطفى ملكيان وغيره ما يسمى بـ"فلسفة الفقه". هل هي نظرية جديدة لدراسة الفقه وفق مناهج فلسفية؟

ـ اطروحة فلسفة الفقه طرحت في إيران منتصف التسعينات، وهناك عدة أشخاص لهم دور في إثارة الجدل حول هذا الموضوع سلباً أو إيجاباً بينهم الشيخ مهدي المهريزي الذي يرأس الآن تحرير مجلة "علوم الحديث" الفارسية الصادرة في إيران. وأيضاً الدكتور مصطفى ملكيان، والشيخ صادق لاريجاني كانت لهما إسهامات إيجابية في هذا الموضوع.

والفكرة جاءت تحت تأثير "فلسفة العلوم" في الغرب وهي محاولة قراءة كل علم قراءة مضافة، ومنها الفلسفات المضافة، كفلسفة الفيزياء وفلسفة الكيمياء وفلسفة الرياضيات وفلسفة العلوم، ومحاولة قراءة الفقه من زاوية خارجية أي من الخارج لا من الداخل، حيث يفترض الباحث نفسه خارج إطار الفقه ويحاول أن يقرأ الظاهرة الفقهية على مستوى مسارها التاريخي وعلى مستوى تطوراتها وتفاعلاتها مع العلوم الأخرى، وتأثيراتها مع الأحداث السياسية والاجتماعية التي حصلت عبر مسارات تاريخية معينة، حتى يستطيع أن يكون مسيرة هذا العلم من نشوئه إلى وضعه الحالي، وكذلك علاقة هذا العلم ببقية العلوم البشرية الأخرى.

< ما الاشكال في هذه النظرية.. أعني لماذا خبتت فجأة ولم نعد نلحظ وجودها في الدراسات الدينية؟

ـ لم يأخذ هذا المشروع مجاله في إيران، وكانت أهم ملاحظة ضعفت من حجم التفاعل معه أن أكثر الموضوعات التي يثيرها هذا العلم الجديد كانت تتركز حول استقدام معطيات من علم أصول الفقه وعلم الكلام ومعطيات فقهية من الداخل ومعطيات فلسفية أخرى ونجمع هذه المعطيات لنكون قراءة خارجية لعلم الفقه.

ولذلك فقد رأى البعض أننا لسنا بحاجة لتأسيس علم جديد ما دام بالإمكان دراسة مثل هذه المسائل في محلها الخاص من علم الاصول أو من علم الكلام أو علم الفلسفة أو غيرها بدون حاجة إلى تكلف تأسيس علم جديد.

< ألا تعتقد أن المدة الزمنية طويلة بين تاريخ نشر مقالات سروش بالفارسية ونقلها الى العربية؟ ولماذا تبدو النخبة العربية بعيدة عن التواصل مع هذا الجدل الفكري هناك؟

ـ هناك الكثير من التقصير العربي والإيراني معاً في معرفة كل طرف للآخر، فحركة الترجمة من الفارسية الى العربية بدأت تتحرك مؤخراً، أما العكس فهو محدود حتى فترة أخيرة. والمؤسف أكثر من ذلك أن الكثير من النخب العربية في إيران نفسها لا تعرف ما يجري حولها من حراك ثقافي وتماوج فكري.

كما أن عدم تعاطي الإيراني ـ سيما الحوزوي ـ مع اللغة العربية الحديثة أدى الى تغييب الطرف الآخر أيضاً.

لكن إسهامات عدد من النخب العربية في إيران على صعيد الترجمة والتأليف والتحاور كان لها دور بالغ في التجسير ما بين الثقافتين في العالم العربي وإيران، أذكر مثلاً ما قام به الباحث عبد الجبار الرفاعي والباحث جواد علي كسّار والسيد عمار أبو رغيف.

< غريب أن نسمع ذلك، نعرف أن طالب الحوزة والعلوم الدينية لديكم لا بدّ أن ينهي بعض الدروس المنهجية في اللغة العربية والنحو والصرف والبلاغة؟

ـ هذا صحيح.. والفقيه يحتاج إلى اللغة العربية لفهم مدلولات النصّ وتراكيبه. ولكن اللغة التي تدرس في الحوزة هي اللغة القديمة، ذات التراكيب التراثية والمصطلحات الفقهية والشرعية، ويتعامل الطالب عبر النصوص الدراسية التي بين يديه مع تراث، لأن كتباً من قبيل: الكفاية، الروضة، واللمعة الدمشقية، هي كتب تراثية، ومن الطبيعي انه اذا تفاعل مع هذه الكتب فإن ذهنه يأنس بتراكيب وأنساق من اللغة العربية مختلفة عما هو متداول. أما اللغة الحديثة التي يكتب بها المفكرون والمثقفون العرب كتبهم فهي غريبة عن الوسط الحوزوي، ولذلك فالغالبية لا تقرأ النتاج الفكري العربي إلا ما وصل مترجماً وهو قليل.

< كيف يتلقى المثقف الإيراني النتاج الفكري العربي؟

ـ حتى اوائل التسعينات كان المثقف الإيراني إذا تُرجم له نصٌ عربي من مثقفين عرب، فإنه غالبا ما يكون نصاًً لمثقفين دينيين. إذ يمكن أن تجد محمد عبده، حاضراً، كما يمكنك أن تجد رشيد رضا، وغيرهما من علماء الدين العرب.

لكن النتاج الفكري الذي لا ينتمي للتيار الديني من قبيل كتب نصر حامد ابو زيد او محمد اركون أو غيرهما فلم يبدأ المثقف الإيراني التعرف عليها إلا في العقد الأخير ولو بشكل لا يزال قليلاً وبطيئا.

مرتضى كريمي ترجم بعض كتب نصر حامد أبو زيد، وكذلك فعل محمد تقي كرمي، وقرأه في بعض مقالات. محمد أركون ترجمه محمد مهدي خلجي وقرأه أيضاً في عدة محاولات. ولكن ما تزال حركة الترجمة من العربية الى الفارسية في كثير منها محصورة في الدائرة الدينية.