الإصلاح الإسلامي: المفاهيم والآفاق (15)

من كان يظن أن شعبة من شُعب الأصولية ستكون السبب في صيرورة الإسلام مشكلة عالمية؟

TT

قد لا يجـوز الحكم على الإحيائيـة الإسلامية بما أدت إليه، أو بما حدث في 2001/9/11. وأقصد بذلك أنّ الناظر لما كان يحدث في الثمانينات، ما كان يظن أنّ شعبةً من شُعب الأصولية الإسلامية ستكون السبب في صيرورة الإسلام مشكلةً عالمية. ولا شكَّ أنَّ التطورات العَقَدية والقتالية (الساحة الأفغانية) ليست كافيةً لتعليل ما حدث، أو لفهمه بشكلٍ كامل. ففي الثمانينات من القرن الماضي حدث تمايُزٌ واضحٌ بين التيار الرئيسي في الحركات الإسلامية، وبين الأصوليين المتشدديـن. فقد نبذ التيار الرئيسي العنف بشكلٍ كامل، وانصرف في مصر وغيرها لمحاولة الدخول في الحياة السياسية، والمشاركة في سائر العمليات الانتخابية وغيرها. وليس بالوسع الحديث عن خروجٍ من الفكر الإحيائي أو فكر الهوية. لكنّ الحسم في مسألة العنف أمرٌ شديد الأهمية، حتى لو لم تُظهر الأنظمة العربية والإسلامية تقديراً له، أو أنها في الأعمّ الأغلب لم تغيّر من سلوكها تجاه تلك الحركات، لجهة السماح لها بتكوين أحزاب سياسية مشروعة، أو الكف عن ملاحقة أعضاء تلك الحركات، باعتبار أنهم يقومون بنشاطات لا يوافق عليها القانون. فقبل أيام مَثَلاً أعلنت السلطات المصرية أنها لن تسمح للإخوان المسلمين بتشكيل حزب سياسي، لأنّ الدستور لا يُقِرُّ إنشاء أحزاب على أساس ديني. وكما سبق القول فإنّ نبذ العنف من جانب التيار الرئيسي، يعني أنّ هؤلاء لا يقولون بجواز القتال داخل المجتمعات «الإسلامية» من أجل الوصول للسلطة، أو بالأحرى أنهم لا يكفّرون المجتمعات ولا الأنظمة، التي يرغبون في التفاوُض معها، وفي المشاركة في الحياة السياسية المحدودة إن أمكن. على أنّ هذا «الترشيد » أو «ترشيد الصحوة» ما ترك تأثيراً كافياً على المتشددين، بحيث يعيدون النظر في طروحاتهم وسلوكاتهم. إذ إنهم في ذلك الوقت (1985 ـ 1995) كانوا منهمكين في النضال على عدة ساحات: في أفغانستان والجزائر والشيشان والبوسنة وألبانيا، مع نشاطٍ متزايدٍ في الجمهوريات الإسلامية ، بآسيا الوسطى والقوقاز، والتي كانت حركتها الاستقلالية عن الاتحاد السوفياتي المتهاوي تتسارعُ دونما تغييرٍ كبيرٍ في البنية الداخلية; بل في العلاقات الدولية.

ولهذا يمكن القول أنَّ الاوضاع المضطربة الناجمة عن ضعف الاتحاد السوفياتي ثم انهياره، أحدثت حالةً ثوريةً في جميع أنحاء العالم; لكنْ في البلدان الإسلامية بآسيا على الخصوص، حيث برزت الأطراف الإسلامية المتشددة باعتبارها العنصر الرئيسي المستفيد من حالة الفوضى والقلق وعدم الوضوح والتأكد والتي سادت حوالي السبع سنوات بين 1988 (بدءاً بخروج السوفيات من أفغانستان)، و1995 (عندما بدأت محاكمة الشيخ عمر عبد الرحمن في المحاولة الأولى لتفجير مركز التجارة العالمي بنيويورك). لقد شجعت الحالة الأفغانية والتطورات العقدية، واستمرار المواجهات، على ظهور ما عُرف فيما بعد بالجهاديين والقاعدة وأخيراً السَلَفية الجهادية. فالأجواء النضالية، واحتمالات الانتصار، جعلت هذا الفكر يعتبر انه ينجح ، وأنّ هذا النجاح دليلٌ على الصحة.

والحركيةُ النضالية المتشددة لدى التنظيمات الصغيرة، توازتْ معها حركيةٌ أخرى، كما سبق القول، لدى التيار الرئيسي، باتجاه البعد عن العنف، وإرادة المشاركة، والنظر الفكري المستجدّ في المنطلقات والآثار. لكنّ حركة المراجعة هذه ما بلغت شأواً بعيداً. بسبب فكر الهوية القوى من جهة، وبسبب عدم التجدد أشخاصاً وتوجهاتٍ لدى التيار الرئيسي، وقبل ذلك وبعده بسبب الأجواء المقبضة داخلياً وخارجياً. فالإقبالُ على الاعتدال ما لاقى استجابةً كبيرةً من جانب السلطات، والتيارات الثقافية السائدة. ثم إنّ الولايات المتحدة الأميركية ازدادات صَلَفاً وعتواً للانتصارية الظاهرة بالفوز على السوفيات. وكان من سوء الطالع قيام صدام حسين وقتَها بغزو الكويت، بعد الاستنزاف الهائل الذي أحدثه غزوه لإيران من قبل. وكان الحضور الأميركي الذي بقي قوياً بعد تحرير الكويت، إشارةً إلى الموقع المهيمن للأميركيين في «النظام العالمي الجديد» من جهة، وإلى أنّ الصدام بين الإسلاميين والأميركيين حاصلٌ وحتميٌّ من جهةٍ ثانية. وهكذا انهمك الطرفان، المعتدلون والمتشددون، في مصارعة الولايات المتحدة. المعتدلون بالدخول في جداليات النظام العالمي، والعولمة، وصدام الحضارات، والرد على الخصومة المستشرية للإسـلام، والمتطرفون بالكفاح المسلّح في ساحات القتال، وبالسيارات المفخخة ضد السفارات والمصالح وبالانتحاريين في كل مكان.

والواقعُ أنّ انسداد الأنظمة أمام الإسلاميين، وهجمة الغرب والولايات المتحدة عليهم باعتبارهم إرهابيين أو في الحدّ الأدنى أُصوليين، أسقط حتى لدى التيار الرئيسي كلَّ رغبةٍ في الإصلاح والتجديد. فقد أعلن الإخوان المسلمون عام 1994 وثيقةً إصلاحيةً متميزةً، ثم ما لبثوا أن تخلَّوا عنها، بحجة أنَّ أحداً لم يستجب لها. بالإضافة إلى أنّ الجمهور العامَّ الذي كان يصوِّتُ للإسلاميين، كلما أُتيحت له الفرصة، ما أبدى حرصاً قوياً على التحول والتغيير، أو أنَّ الأنظمة ما شعرت بضغوطٍ كافيةٍ من جانب الجمهور، من أجل التغيير. والطريف أنّ الأميركيين كانوا يطالبون الأنظمة العربية بالتوجه نحو التغيير الديمقراطي منذ اواسط الثمانينات. ثم تراجعوا عن ذلك بين عامي 1994و1995. ودأَبت الأنظمة منذ ذلك الحين على الشماتة بهم بالقول: لقد قلنا لكم إنّ هؤلاء غير مأموني الجانب! وقد كانت هناك فورةٌ جديدة ومطالبةٌ بالتغيير من جانب الأميركيين قبل 11/9 وغزو العراق. وازدادت تلك المطالبة، وصارت من مبررات الغزو والهيمنة. لكنّ الأميركيين يعودون من جديدٍ بالتدريج لدعم الأنظمة القائمة، باعتبار أنَّ الإسلاميين، معتدلين أو متطرفين، سيكونون هم البديل في حالة حصول تغييرٍ سياسي، وهذا أمرٌ ما عاد الأميركيون يقبلونه بعد 11/9. هناك إذن مأزقٌ فكريٌّ وثقافيٌّ يتمثل في تعملق فكر الهوية، وتراجع الطروحات الإصلاحية والمنفتحة.

وهناك الانسداد السياسي القاتل. وهناك الهجمة الأميركية الشرسة.

وهناك التطرف الذي يتنامى ويتلذذ بالبلاد معتنقوه، كالقط الذي يلحس المبـرد. وبين هذا وذاك وذلك، تنتشر حيرةٌ هائلةٌ بين الجمهور، تدفع على الانكماش، وتستجرُّ المعاناة; فيتقوقع الناس قابضين على الجمر بين الأسى واليأس والتحدي.