«الإرهابيون» هل هم نتاج خطاب ديني محلي أم أنهم نتاج خطاب خوارجي؟

القاسم: مجموعة من العوامل أسهمت في تأسيس ورعاية التطرف الفكري * بجاد: الإرهابيون هم أبناء بررة للخطاب الديني المحلي * الخضر: لماذا تترك القضايا الشائكة مصيدة للأجيال بحجة احترام هذا الرمز الديني التاريخي؟

TT

بعد أن هدأ دوي تفجيرات المحيا علت الأصوات في السعودية تجاه الأسباب التي قادت هذا المجتمع إلى هذه الحالة.. وتوالت الأسئلة من أين جاء هؤلاء، وماذا يريدون، وقبل كل ذلك من صنع الإرهابيين وجعلهم يظنون أنهم يجاهدون في سبيل الله بقتل المسلمين والآمنين.

وبين الكثير من هذه الأسئلة كان ثمة سؤال بالغ الحساسية وشديد الخطورة.. سؤال من العيار الثقيل لا تحتمله إلا الأزمات الكبيرة والأحداث الجسيمة، وهو ما مدى مسؤولية الخطاب الديني المحلي عن هذه التفجيرات.

وهل هذا الخطاب هو القائد الحقيقي للإرهابيين، وهل هو المتهم الأول الذي يجب أن يقتص منه السعوديون، وهل يحمل هذا الخطاب الذي يتشدد الآن على الأعمال الإرهابية تناقضاً مدهشاً حين ينظّر للإرهاب ثم ينتقد مطبقيه. أم أن الخطاب الديني المحلي هو خطاب وسطي معتدل، وما هذه الأعمال الإرهابية إلا أحداث جانبية عارضة صنعتها عوامل أخرى كثيرة ومتشابكة، ربما كان من بينها خطاب ديني متشدد، ومثلما أصبح الإسلاميون يصفون الإرهابيين بالخوارج في محاولة لعزلهم خارج إطار إسلاميي الداخل، فإن هذا الخطاب المنتج لهم هو أيضاً خطاب «خوارجي» على الخطاب المحلي. في هذا التحقيق تحاور «الشرق الاوسط» كلا من المحامي عبد العزيز القاسم وعبد العزيز الخضر الكاتب الصحافي والمعني بالتيارات الإسلامية، وعبد الله بن بجاد العتيبي الباحث في شؤون الحركات الإسلامية والدكتور محمد بن سعود البشر الأستاذ المشارك بقسم الإعلام في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض.

* التطرف الفكري والسياسي

* يمثل التطرف الفكري خلفية رئيسة للتطرف السياسي المعبّر عنه بالسلاح، ومن الواضح أن هذا التطرف العملي الذي عاشته السعودية هو نتاج تطرف فكري يقول عنه عبد العزيز القاسم «التطرف الفكري أسهمت في تأسيسه ورعايته مجموعة من العوامل والروافد، بعضها يرجع إلى الحدة التي توارثناها في مدارسنا الفقهية والكلامية ومن تلك العوامل على سبيل المثال التوسع في التكفير ،الأمر الذي يترتب عليه توترنا مع المخالفين، ومنه التركيز على عقوبة المخالف أكثر من إقناعه ولهذا يدرس في كلياتنا الشرعية قتل المبتدع وحبسه دون احترام لمعايير الشريعة في عذر المجتهد والمخطئ، الأمر الذي ترتب عليه الاستخفاف بحرمة المخالف ووضع دمه محلاً للاجتهاد حتى لدى صغار الطلبة، كما يجري حالياً في مدارس الشريعة، ومن روافد التطرف انعدام آليات الحوار الفكري المنظمة التي تسمح بتكوين ذهنية نقدية لدى الفرد، مما يؤدي إلى سهولة اختطاف الفرد والهيمنة عليه فكرياً. ومن روافد التطرف السياسي انعدام آليات المشاركة السياسية ،وقد ترتب عليه تراكم الأخطاء وتراكم السخط مما أوجد نزقاً وحدة سياسية من جهة، وفراغاً سياسياً من جهة أخرى ،فصارت بيئتنا الاجتماعية السياسية تمتص الأفكار السياسية المتطرفة وتتحول مع اتساع دائرة المتلقين إلى أعمال سياسية متطرفة، إن هذا الواقع ضمن أسباب أخرى عديدة هو الذي أوجد في مجتمعنا هذا المستوى من التطرف».

ويحمّل البشر الإعلام القسم الأكبر من المسؤولية حين يقول «ما نشاهده اليوم من ظهور الفكر الغالي وانتقاله إلى مرحلة المواجهة وحمل السلاح هو نتيجة تراكمات معرفية خارجية وجدت لها بذور في بيئتنا فنمت واشتد عودها في غفلة كثير من مؤسساتنا المجتمعية. الكل غائب في فترة نمو تلك الأفكار وانتشارها وبخاصة مؤسسات التنشئة الاجتماعية الثلاث: البيت والمدرسة ووسائل الإعلام، وإن كنت احمّل إعلامنا الكثير من المسؤولية، إذ هو متخبط في كل النوازل والابتلاءات التي تمر بها بلادنا ولا يعيش إلا ليومه فقط، وحادثتا11 سبتمبر وتفجيرات 12 مايو مثالان شاهدان على فقدان التخطيط الاستراتيجي الإعلامي لمواجهة هذه الكوارث».

فيما يشير عبد الله بن بجاد إلى تشكل التطرف الفكري تشكلاً معقداً فيقول «كل ظاهرة معقدة ـ مثل الإرهاب ـ يصعب تفسيرها بعامل واحد، إذ هناك عوامل أخرى والحل يقضي بتفكيك الظاهرة، والتعرف على أسبابها على نحو تفصيلي ثم معالجة كل سبب على حدة، فمن تلك العوامل ما هو سياسي داخلي يتمثل في انسداد أفق المشاركة السياسية، ومنها ما هو سياسي خارجي يتمثل في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة، ودعمها لإسرائيل، وإحساس البعض بان الولايات المتحدة تتقصد الإسلام، مع إضافة ذلك إلى تصورهم حيال التعامل المحلي مع أمريكا، ومنها العامل الاقتصادي والمشاكل المحلية مثل البطالة، ومنها العامل الاجتماعي حيث أنت أمام مجتمع ظل ولثلاثة قرون يتلقى خطاباً دينياً إقصائياً قطعياً لا يزاحم بأي خطاب آخر ديني أو غيره ما أنتج ثقافة اجتماعية إقصائية، غير قادرة على تجاوز مشكلاتها عن طريق الحوار واختلاف الآراء».

وفي السياق ذاته يعتبر عبد العزيز الخضر أن المسألة أكثر تعقيداً من كل ذلك حيث "تبدو إشكالية التساؤل عن الخلل الذي أسس بذرة التطرف والعنف في مجتمعاتنا، هل هو داخلي أم خارجي ،إنه يضع الجميع أمام خيارات حادة ومتطرفة، والقول بأنه مزيج بينهما لا يحل الإشكال أيضا، لأنه يخلق هالة شكلية من الموضوعية دون أن يكون لها رصيد تحليلي واضح، فالبداهة المنطقية تفرض علينا المزج بين الخلل الداخلي والخارجي، لكنها تقودنا إلى لعبة فكرية أكثر تعقيداً، قد يتضخم فيها العقل الأيديولوجي على حساب العلمي، فنفقد جزءاً كبيراً من الحقائق».

* الخطاب الديني

* ويبقى السؤال حول الخطاب الديني المحلي فهل هو احد العوامل الأساسية في تشكيل الوعي لدى الإرهابيين أما أنهم خوارج عليه؟ يجيب عبد الله بن بجاد «الخطاب الديني الرسمي وغير الرسمي هو الذي أدى إلى ظهور الإرهابيين، وهم في الواقع أبناء بررة لهذا الخطاب، بل إنهم أكثر ولاء من المتنفذين الذين أصدروا هذا الخطاب وكرسوه ولكنهم قعدوا عن تنفيذه، والحقيقة أن هذه الظاهرة ليست بالجديدة فمنذ قيام الدولة السعودية وثمة علماء يتشددون تنظيراً ثم ينقلبون إلى معارضين لمن يطبق تنظيرهم، ولذا ستجد أن أصحاب هذا الخطاب لا يحيلونك في المسائل التطبيقية للتكفير مثلاً إلى أئمة الدعوة مثل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وسليمان بن سحمان، وعبد اللطيف آل الشيخ وغيرهم، وإنما يعودون بك إلى الخطاب الديني الأصلي في القرآن والسنة. وقد سبق للبعض عبر تاريخ بلادنا ممارسة هذا الصدق تجاه تطبيق الخطاب المتطرف ما أدى إلى نزاع الأخوان مع الملك عبد العزيز، وكذا حركة جهيمان العتيبي. وهؤلاء إطلاقاً ليسوا بخوارج عن الخطاب الديني المحلي، إلا أنني استبشع مقارنتهم مع الخوارج، لأن أولئك خرجوا على خطاب القرآن الكريم الذي اجتمعت له العصمة والقدسية، أما الخطاب المحلي القائم على اجتهادات بعض العلماء فلا هو مقدس ولا معصوم».

في المقابل يفارق هذا الرأي الدكتور البشر بقوله «حيث إن هذا الفكر الغالي متلبس بالدين فإن مؤسساتنا الدينية في خطابها سجلت إخفاقاً لا يغتفر، فظاهرة العنف إنما هي نتاج عقول تم تفخيخها في غياب العلماء الثقات والمفكرين المعتبرين، وهم ـ مع اليقين بحسن نياتهم ـ لم يرتقوا إلى مستوى معالجة الحدث ماضياً وحاضراً، وأخشى أن يكون مستقبلاً إن هم استمروا على مثل هذه الطريقة في التفكير، وإن هم انتظروا التوجيه بالفعل دون اتخاذ مبدأ المبادرة والمبادأة.

وأما الموقف من هذا الفكر الغالي المجافي لوسطية الدين فقد استفاض العلماء في بيانه بالأدلة الشرعية والعقلية، ونشر في غير موضع واشتهر رأيهم فيه، وهو الرأي الذي التزمه جمهرة كبيرة من العلماء الرسميين أو المستقلين، فليس لنا بعد ذلك زيادة بيان أو إيضاح، لكن النتيجة التي نريد الوصول إليها هي أن منهج هذا الفكر الذي يتبنى العنف والمواجهة المسلحة هو منهج حاد عن الخطاب الديني عن كل مستوياته وفي كل تصنيفاته المعروفة لدى من له أدنى اهتمام باستقراء واقع الأمة والتيارات المؤثرة فيه».

وبين تحميل الخطاب الديني مسؤولية كاملة، أو اعتبار انه البديل المناسب لخطاب التطرف المتلبس بالدين، يأتي كلام عبد العزيز الخضر لافتاً إلى قضية أخطر «إننا نواجه مشكلة في سياق الأسئلة المبدئية التي تقلق الناظر بموضوعية، وهي أن حركات العنف والتطرف لا تستند الى سلسلة أو مدارس من الفرق المنحرفة منذ العصر الأول أو على فرقة الخوارج، إنما مرجعياتهم من السلف السني منذ القرن الأول وحتى الآن، وهي مرجعية أيضاً تكاد تكون متطابقة بين تيار الاعتدال والتطرف، والغرابة هنا ليست في أن يكون المرجع الكتاب والسنة بل حتى الرموز العلمية متشابهة، ولو كان اعتمادها على مدرسة مستقلة شاذة ومتطرفة من هذا العصر إلى عصر الرسالة لأمكن عزل الظاهرة، وهو ما يجعلني لا أتحمس مع من يدافع عن مكونات الثقافة والخطاب الإسلامي لتبرئته مما يحدث، فالحقائق تجعلنا أمام إشكال حقيقي يفرض علينا النظر في أعماق هذه الثقافة والتدقيق في خطاب الاعتدال قبل التطرف، وفق المبدأ التقليدي الشهير الوقاية خير من العلاج.

ويضيف الخضر «للتخلص من هذا المأزق يحاول البعض إسناد هذه الظواهر إلى انحرافات متأخرة ومعاصرة، ورمي هذه الانحرافات على شخصيات شهيرة في التيار الإسلامي كسيد قطب، وهذه أيضا شكلت مهرباً ذكياً يخدع به البعض، وهو نوع من التبسيط والبحث عن الحل الأسهل، هذه الإحالة على مثل هذه الشخصية تضعنا أمام تساؤل أهم، فالواقع يقول إن سيد قطب ليس مرجعاً فقط للتيارات المتطرفة، وإنما هو مقروء عند أغلب التيارات الإسلامية المعتدلة، وهي تشيد بأطروحاته، وتعتبره مفكراً إسلامياً بارزاً، فهو لا يمثل مدرسة مستقلة للمتطرفين.

الخيار الأخير هو القول بأن تيار التطرف الإسلامي هو عبارة عن جمع وانتقاءات لشذوذات الرموز والمراجع العلمية والفكرية في الساحة الإسلامية، لكن هذا الخيار يؤكد الفكرة الأصلية بأن الخلل داخلي، فلماذا تترك القضايا الشائكة والملتبسة مصيدة للأجيال، بحجة احترام هذا الرمز الديني التاريخي أو ذاك..!؟ المطلوب قدر من الجرأة والمراجعات الجادة لكثير من المفاهيم وتنقية تاريخنا الفقهي. أليس من المفارقات أن تجد مثلاً مشتركات كثيرة في جانب كبير كالجهاد، ثم يصبح على سبيل المثال الفارق بين المتطرف والمعتدل أن أحدهم يرى أن الوضع يشبه الفترة المكية، ليعزز فكرته المعتدلة في تحمل الواقع السيئ ،والآخر يؤيد الاندفاع لأنه يرى أن الوضع لا ينطبق عليه مفهوم تلك الفترة، فهم منفقون على الفكرة الرئيسية، فعندما يختل تقدير أي طرف للواقع ينقله مباشرة إلى تيار آخر بكل سهولة».

* الحل

* أين يكمن الحل إذن ؟هل في داخل الخطاب الديني ذاته حيث يقول البشر «إن خفوت صوت الخطاب الديني في هذه القضية وضعف نبراته اضعف عوامل تعرية فكر الغلو والعنف وكشفه للأسوياء وقد كان المؤمل منه ـ رسمياً وشعبياً ـ أن ينهج طريق الجهاد العلمي الدائم والمطاردة اليومية حتى تضيق الأرض على هذا الفكر الجافي وعلى اتباعه فلا تقوم له قائمة». أم أن الحل هو الخطوات السياسية التي يشير إليها القاسم «لقد بدأت الدولة في المعالجة عبر توسيع أدوات الحوار من خلال مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، وإقرار مبدأ المشاركة الشعبية والبدء بالانتخابات الجزئية من جهة أخرى، وهذه بدايات مهمة ولا شك، ولتعبر عنها ـ الإصلاحات ـ رؤية وطنية قادرة على تعبئة المجتمع خلف مشروع وطني يشتغل به الناس ويحقق ذاتيتهم ومصالحهم، وبهذا ـ والكلام للقاسم ـ يمكن أن تتقلص دوائر التطرف لتكون هامشية وغير مؤثرة في المجتمع كما هي المجتمعات التي تملك وسائل المشاركة والمعالجة بطرق فعّالة فالتطرف لا يزال طبيعة بشرية، ولكن المهم ألا يحتل الوسط الاجتماعي وان يبقى هامشياً.

أم انه الحل الفكري إذ يقول الخضر «الواقع يقول إننا بحاجة إلى جدل فلسفي مع جدل فقهي يفتت المفاهيم الملتصقة بالحياة، حتى نوجد مراجع راسخة في العلم قبل أن نطالب بالرجوع إليهم»، وهو ما يضيف إليه عبد الله بن بجاد بقوله «والحل في رأيي انه يمكننا تكوين رؤية دينية دنيوية، تتسامح مع الآخر وتتعاطى معه، وكل هذا غائب في الخطاب المحلي، فلا يجب أن نغفل عن المتن الإسلامي لصالح الحواشي التي ساقها الخطاب المحلي، نستطيع تبني خطاب إسلامي صالح ومدني منتج».