..بل هو خطاب «سياسي» يرتدي غطاء عقائديا لكسب الجماهير وحصد المكاسب السياسية

توجان فيصل

TT

لدى تناول الخطاب الإسلامي بشأن المرأة لا بد أوّلاً من تحديد طبيعة ذلك الخطاب: هل هو عقائدي، ام انّه خطاب سياسي؟ والجواب الذي سنثبته في مقالتنا هذه بالأمثلة العمليّة، هو انّه خطاب سياسي بحت. ولكن كونه يتعلّق بفئة مهمّشة سياسيّاً طوال قرون، يموّه إلى حد بعيد الفحوى السياسي له. فحتّى في ممالك الإغريق، مهد الديمقراطيّة، كان يُقبل كشأن «اجتماعي» بحت يتحوّل بالتالي إلى بديهيّة سياسيّة، عدم أحقيّة العبيد والنساء في تلك الديمقراطيّة. وكانت تُجمع التيّارات السياسيّة المتعدّدة ضمن كل مدينة، وتجمع المدن المتحالفة أو المقتتلة فيما بينها، على وضع النساء والعبيد ذاك.

وبداية، لا بد من الاعتراف بأنّ الديانات، بلا استثناء، لها في بداية نشوئها بعد سياسي. فهي تأتي كثورة إصلاحيّة لأحوال عامّة متدهورة على أكثر من صعيد. والأمور لا تتدهور إلى الحد الذي يستوجب إرسال رسل من الله او قيام ثورات للمستضعفين، إلاّ إذا كانت هنالك قوّة سياسيّة غاشمة تقف وراء ذلك التدهور، أو أنّ القوى السياسيّة القائمة تكون بلغت حدّاً من الضعف وعدم الأهليّة يجعل زمام الأمور تفلت من يدها. ولكن ما أن يستقر الأمر للدعوة الجديدة لتصبح الديانة الرسميّة للدولة، حتّى يُصبح كل ما يصدر باسمها سياسيّاً أوّلاً، ثمّ عقائديّاً بحسب رؤية صاحب الفتوى، ضمن مجموعة واسعة من الرؤى والتفاسير التي تتفاوت وتتغيّر بتغيّر المفتين كما بتغيّر الزمن والأزمنة. ومع أن هذا يكفي لبيان أن ما نسمّيه الآن «الخطاب الإسلامي» هو خطاب سياسي محض، إلاّ أنّنا نتوقّع ردّاً ينكر ذلك ويعاود محاولة تكريس احتكار الحقيقة بادعاء ان الخطاب عقائدي منزّه. لهذا سنتناول الجزئيّة المتعلّقة بالخطاب الإسلامي الموجّه للمرأة، وهي الجزئيّة التي تكاد تجمع عليها التيّارات والفِرق والأحزاب الإسلاميّة على امتداد العالمين العربي والإسلامي وعلى امتداد التاريخ ـ باستثناء فترات النبوّة التي ننزّهها عن كل ما تلاها من توظيف للدين كثيراً ما يبلغ حد التحريف ـ رغم اختلاف هؤلاء على معظم الأمور. ونبدأ بإرساء فرضيّة منطقيّة، وهي أنّ ما يصدر عن «العقيدة»، أمر لا يجوز للمؤمن تغييره وتبديله، بل ومناقضته، إن استدعت المصلحة السياسيّة لذلك الشخص «المؤمن» أو جماعته تلك.

وإذا كان البعض، وفي امور تتعلّق بالمعارضة السياسيّة في وجه خصم جائر، قد سوّق ذلك التبديل باسم "التقيّة" - رغم اعتقادنا بأنّ واجب «العقائدي» دون غيره من السياسيين الموت في سبيل ان تبقى عقيدته حيّة معلنة - فإن التبديل في شأن لا يهدّد حياة المعارضين وأمنهم، ولكن يهدّد بشيء من الانتقاص من مكاسبهم السياسيّة الآنيّة، أمر يسقط الصفة العقائديّة، ليس فقط عن الفتوى المسقطة، بل عن كامل قائمة الفتاوى الصادرة عن تلك الجماعة أو الفئة، ويضعها في إطارها الحقيقي، وهو الإطار السياسي. وليس في قولي هذا مذمّة، فأنا «سياسيّة» بالاحتراف والممارسة اليوميّة وحتّى المعيشيّة. وكل الأفكار والتيّارات السياسيّة متساوية موضوعيّاً، وإن اختلفت ذاتيّاً لدى أصحابها او معتنقيها، ولكن أوّل شروط الحصول على المساواة وقبول الآخرين، هو الاعتراف بأنّ ما يصدر عن الجميع هو «سياسة» دون زيادة أو نقصان! ولنكون أكثر تحديداً، ولضيق المساحة المتاحة في هذا المقال، نأخذ الفتوى السائدة في الخطاب الإسلامي بشأن أهليّة المرأة لتبوّؤ مناصب سياسيّة قياديّة، أي مايُسمّى بـ«الولاية»، وأعلاها بين المتاح عربيّاً هي «النيابة»، لأنّ العالم العربي ليس فيه حاكم منتخب باستثناء لبنان. وحتّى الأصوات الإسلامية القليلة التي أيّدت تولّي المراة للنيابة جاءت في الأغلب الأعم لتدافع عن رأي الحكّام، في تنافسهم مع التيّار الإسلامي على كسب التأييد وليس دفاعاً عن حقوق المرأة (فحقوق الإنسان والمواطن المصادرة على أيديهم أولى بالإعادة)، أي أنّ هذا صوت «مفتي السلطان» الذي عرفناه منذ قيام الدولة الأمويّة !! أسباب رفض الإسلاميين لتولّي المرأة منصب «النيابة» معروفة. وللمهتمّين توجد مئات العيّنات في أعداد الصحف الأردنية الصادرة في الأشهر القليلة الفاصلة ما بين إعلان عودة الحياة النيابية بعد انتفاضة ابريل (نيسان) الشعبيّة عام 1989، وبين موعد إجرائها في بدايات اكتوبر (تشرين الاول) من العام ذاته. وبالمقابل المعارضؤن لرأي هؤلاء مقالاتهم واسماؤهم موجودة. أي ان الفرز بين رفض الإسلاميين الصريح لتولّي المرأة مناصب سياسيّة قياديّة، والبالغ حد تكفير الرأي الآخر أحياناً، وبين المؤيّدين له كان جليّاً لا يقبل اللبس. ومع ذلك ماذا حدث عندما اصبح الموقع النيابي مكسباً سياسيّاً معنويّا، أو مكسباً ماديّاً ـ بمعنى ملموساً ومحصياً ـ بالحصول على مقعد إضافي في المجلس؟

تجسّدت الحالة الأولى بفوزي، ليس في انتخابات عام 1989 التي كفّرت فيها وأهدر دمي، ولكن بعدها بأربع سنوات في انتخابات عام 1993، وكانت سنوات أربعاً مثّلت للإسلاميين نصرأ يتمثّل في منع المرأة من دخول البرلمان! ولكن بعد فوزي كاوّل إمراة تصل للبرلمان ديمقراطيا، عمّت المملكة الاردنية حالة استثنائيّة من الفرح والاحتفال. وبالمقابل أصبحت القوى السياسيّة التقليديّة ـ رغم قدم ومتانة تنظيمها ـ في حرج وشعرت بتراجع نفوذها لصالح القوى التقدّميّة غير المنظّمة في الأغلب. وكان أوّل رد فعل للملك الراحل الملك حسين أن عيّن امرأتين في مجلس الأعيان. ولكن تعيين الملك لامرأتين لم يات مفاجئاً، فمواقفه المعلنة السابقة كانت في إدانة التمييز ضد المرأة عن قناعة، وأيضاً وفي إطار تأكيد الصورة التقدّميّة للحكم في الأردن، في بعده الإجتماعي على الأقل، التي كان الملك الراحل قد نجح في ترويجها عالمياً. ولكن الذي جاء كمفاجأة، هو قيام الأخوان المسلمين بتعيين أوّل امرأة عضواً في مجلس شوراهم ( الأولى في تاريخ تنظيم الإخوان عربيّاً) منذ بداية عملهم كتنظيم مصرّح له في العلن طوال عهد الإمارة والمملكة الاردنية.. أي أن المانع من قبل لم يكن حجّة «الحماية» الأكثر ترويجاً في الخطاب الإسلامي الموجّة للمراة، إذ لم يكن هنالك خوف على نساء الأخوان المسلمين بالذات من مخاطر العمل السياسي الممنوع على كافّة التيارات الأخرى بأحكام عرفية وقوانين طوارىء!! وسواء جاء هذا في إطار منافسة الملك أو منافسة التيار التقدّمي الذي أوصل إمراة، او منافسة الإثنين معاً ما داما قد حصدا كامل التأييد الشعبي.. فإن هذا التيار القيادي والأكبر بلا جدال بين التيارات الإسلاميّة السياسيّة في الأردن، لم يعط تفسيراً او تمهيداً لهذا الإنقلاب على خطابه التاريخي، أي ان الإجراء جاء كتكتيك سياسي لتحقيق كسب معنوي، وبسرعة لا توحي بأي تردد في استثمار اللحظة السياسيّة بأفضل ما يمكن!! أمّا الحالة الثانية، وهي تحقيق مكسب مادّي ملموس يتمثّل بمقعد إضافي في المجلس، فجاء بعد تخصيص كوتا للنساء في قانون الإنتخاب المؤقّت، وهو ما لم يكن يوماً من مطالب الإخوان فيما يتعلّق بذلك القانون، بل كانوا يعترضون على المطالبين به (كانت من نقاط التوافق بيني وبينهم داخل وخارج القبّة، ولو لأسباب متباينة). عندها كان مؤكّداً ان درجة تنظيم الأخوان تضمن لهم إيصال إمراة، خاصّة مع تدنّي الأصوات اللازمة في حال الكوتا. وبالفعل لم يضع الاخوان الفرصة، وكسبوا مقعداً إضافيّاً عبر سيّدة قاموا بترشيحها وتخصيص الحد الآمن من الأصوات لها، ولكن دونما إكثار. والحرص الأخير على عدم الإكثار جعلهم يخسرون فرصة إيصال إمراة بدون كوتا بفارق بسيط. كسياسيّة، أعتقد بأن الأخوان المسلمين فعلوا الشيء الصائب «سياسيّاً» في الحالتين، باستثناء الشح على المرأة الوحيدة المرشّحة من قبلهم، في حين أضاعوا أصواتاً مضاعفة على مرشّحين رجال لم يفوزوا. ولكن السؤال هنا يتعلّق بأصول ومرجعيّات الفتاوى المتعلّقة بشأن حق المرأة في تبوؤ منصب النيابة، تلك التي أصدروها أو تبنّوها أو هاجموا مناوئيها على امتداد تاريخهم التنظيمي.. هل كانت تلك فتاوى «عقائديّة»، أم كانت مواقف سياسيّة؟

وأؤكّد أخيراً ان اختياري لنموذج الأخوان المسلمين في الأردن لم يأت تخصيصاً لهم، ولكن لتوفّر المعايير الموضوعية من أحداث موثّقة أنا على اطلاع دقيق عليها بحكم أكثر من موقع لي في قلب تلك الأحداث ووراء كواليسها. وأيضاً لأن الأخوان هم أكبر وأقدم وأهم تنظيم إسلامي على الساحة العربيّة والإسلاميّة معاّ، ممّا يجعل أي نموذج من خارجهم مجتزأً وغير دقيق في تمثيل الواقع. وأخيراً، لأن حجمهم السياسي على الساحة العربيّة رتّب عليهم، أكثر من غيرهم من التنظيمات الإسلامية الأخرى، الخروج على طروحاتهم النظريّة، والتضحية جزئيّاً بالحصانة التي يوفّرها مسوح العقيدة، مقابل الحفاظ على المكاسب السياسية الحقيقيّة على أرض الواقع.