التطرف يوفر ذريعة لرفض الإصلاح السياسي والاجتماعي

TT

كيف نكافح التطرف؟ هذا هو السؤال الذي سيناقشه عدد من علماء الدين في مكة المكرمة في وقت لاحق من الشهر الحالي. وقد تأخر ميعاد هذه المناقشة طويلا. ذلك انه في صيغه الحديثة المتنوعة ظل التطرف مسؤولا عن الكثير من المآسي في العالم الاسلامي وغيره خلال العقود الماضية.

ففي ثمانينات القرن الماضي مات مليون شخص في الحرب العراقية ـ الايرانية التي أثارها صدام نوعين من التطرف. ومنذ عام 1992 لقي ما يقرب من 120 ألف جزائري حتفهم نتيجة حرب شنتها جماعات متطرفة. وحصد صدام الجماعات المتطرفة في أفغانستان أرواح ما يزيد على 100 ألف شخص بين عامي 1992 و2002. وفي العقود الأخيرة من القرن الماضي عاني ما لا يقل عن 30 بلدا اسلاميا، وخصوصا باكستان وتركيا ومصر، من الارهاب الذي شنته الجماعات المتطرفة. ويندر أن يوجد اليوم بلد اسلامي لا يهدده عنف المتطرفين.

ان الثمن الباهظ للتطرف في اطار حياة البشر يجب ألا يخفي آثاره المدمرة الأخرى. فبخلقه مناخ ارهاب فكري يحاول التطرف فرض ايقاف نمو الفكر الابداعي في العالم الاسلامي. انه يعوق التنمية الاقتصادية ويوفر ذريعة للمستبدين لرفض الاصلاح الاجتماعي والسياسي. وشأن الاعصار فانه يحاول تدمير كل المساعي الثقافية والأدبية والفنية للمسلمين بحثا عن عقل غر يرسم عليه مجتمعه المثالي ذا الاتجاه الرجعي.

ان تاريخ العالم الاسلامي مليء بنهوض وانحدار الحركات المتطرفة، ذات الطبيعة السرية غالبا، والتي حاولت الاستيلاء على الاتجاه الرئيسي للاسلام. وقد اختفى الكثير من هذه الحركات بينما بقي البعض حيا في صيغة جماعات صغيرة العدد.

والاسلام، بالطبع، ليس الدين الوحيد الذي يواجه التطرف، فالمسيحية واليهودية وهما الدينان الآخران المرتبطان بالنبي ابراهيم، قد ابتليا بالتطرف أيضا بشكل أو بآخر خلال قرون. ان التطرف يشبه ظلا يلاحق، على الدوام، تطور الفكر الديني السياسي في كل منطقة.

فما الذي يتعين على رجال الدين المسلمين القيام به عندما يناقشون موضوع التطرف؟ الشيء الأول الذي يحتاجون الى القيام به هو الكشف عن طبيعته السياسية. ذلك ان التطرف كان وما يزال حيوانا سياسيا بجلد ديني.

وبينما يهتم الدين بما هو ما وراء الحدود فان السياسة هي حقل ما هو دنيوي وزائل. ان الانسان يتغير ولكن النص لا يتغير على الرغم من أنه يمكن قراءته على نحو مختلف في أوقات مختلفة. ان أي محاولة لتحقيق الخلود لزمننا البشري المحدود عرضة الى أن تؤدي الى التشويه. وتجاوز الحدود الذي يحاول تعريف نفسه عبر الزائل لا يمكن الا أن يؤدي الى العنف والمأساة.

ان الزمن الاسلامي ليس متسلسلا. انه يتألف من حالات ذات أطوال وأهمية ونوعية متباينة. وليس من باب المصادفة ان كلمة «زمان» لم تذكر في القرآن. وبدلا من ذلك نجد مصطلحات أخرى: «دهر» التي يمكن ان تعني وقتا خالدا، و«حين» الذي هو جزء من «الدهر»، و«عصر» الذي يعني فترة زمنية وجيزة، و«مصير» التي تدل على التكوين مقابل الوجود. وهناك، أخيرا، كلمة «طور»، التي تعني مرحلة، والتي ذكرت مرة واحدة في القرآن.

ان قراءة روبوتية للنص تهدف، على الدوام، الى تطويعه للقيام بما لم يقصد، أي توفير اجابات لأسئلة سياسية زائلة. ان القرآن قابل لقراءات مختلفة: أورد السيوطي 17 قراءة لبعض الكلمات الأساسية. وعلينا أيضا أن نأخذ بالحسبان أسباب النزول التي تصل الى مئات (البخاري يذكر ما يصل الى 618). وأخيرا فاننا نجد «المبهمات» التي تصل وفقا للسيوطي الى 250 حالة. ولذلك فإن أية محاولة لفرض أية قراءة اعتباطية باعتبارها قراءة حصرية ونهائية، ليست سوى خطوة سياسية الغرض منها حصر مرجعية لا يملكها إلا النص نفسه، في شخص معين أو جماعة محددة.

والامر الثاني هو أنه يتوجب على رجال الدين أن يتساءلوا عن الأسباب التي تدفع حركات سياسية، همها الأخير الاستيلاء على السلطة، إلى البحث عن تعبير ديني. وربما تكون أحدى الإجابات هي رفض المجتمعات الإسلامية لتخصيص حيز محدد يتنافس فيه الأفراد والجماعات على الوصول إلى السلطة بخطاب سياسي، لا يكون دينيا. وفي غياب مؤسسات مثل البرلمانات والأحزاب، فإن المسجد يصبح الفضاء الوحيد الذي يمكن للمواطنين فيه أن يديروا حوارات سياسية. وهذا يقود إلى تديين السياسة الذي يقود بدوره إلى تسييس الدين.

وحيثما يظهر التطرف في أشكاله العنيفة، بما فيه الإرهاب، يجب مقابلته بالتعامل الفعال من أجهزة الدولة، وبالعنف الصريح إن لم يرعو. ومن الحماقة الاعتقاد بأن رجلا لديه الاستعداد ليقتل ويموت من أجل ما يعتقد أنه «الحقيقة المطلقة»، يمكن إقناعه بتغيير موقفه من خلال الجدل الديني. ولا يمكن للنمر أن يصير نباتيا لأننا أطعمناه شيئا من الجزر.

وعلى المدى البعيد فإن أكثر الأساليب فعالية في محاربة التطرف هي خلق فضاء حقيقي تحكمه قوانين واضحة تحظى بالقبول من غالبية المواطنين. ويمكن للمواطنين في هذا الفضاء أن تكون لديهم آراؤهم المختلفة حول القضايا السياسية من دون أن يرفعوا أصابع التكفير في وجوه بعضهم البعض.

وقد استند التطرف دائما الى نوع من التدين يقوم أساسا على الخوف. وهو يستخدم مشاعر الخوف من النار ومن اللعنة الأبدية ليفرض قراءته الخاصة للنصوص. ولكن الحقيقة الأعمق أنه يخاف من شكوكه ذاتها. فنحن لن نقتل شخصا ما لأنه أنكر أن الشمس ستشرق غدا. وهذا لأننا واثقون أن الشمس ستشرق غدا، وأن دعاوى ذلك الشخص سيظهر خطلها. ونحن لا نندفع نحو القتل والموت، إلا عندما لا نكون واثقين من حقيقة ما نقتل من أجله ونموت.

أما السياسة فهي مجال الشكوك، وتغيير الآراء والمواقف، ومجال ارتكاب الأخطاء وتصحيحها. إن لها نحوها الخاص، الذي إن طبق على الدين، لكان ضرره على الاثنين غير محدود.

وأخيرا على رجال الدين أن ينتبهوا إلى أن التطرف لا يسدد ضرباته من عدم. إنه نتاج مجتمعات يستخدم فيها الدين للتحكم في جوانب أخرى من الوجود، بل طمسها وعزلها، وخاصة عندما تتصل بالثقافة والسياسة. وكلما خلط المجتمع بين الأحادية والتوحيد، أنتج مزيدا من المتطرفين.