جدلية الاعتدال والتطرف

خير الله سماحة *

TT

من هم المتطرفون؟ ومن أين جاءوا؟ هل هم افراد لا يمكنهم ان يتعايشوا مع التطور الحاصل في هذا العالم الجديد؟! ام انهم فئة محصورة بتنظيم معين او فلسفة معينة؟ وكيف لنا ان نعثر على مثل هؤلاء المتطرفين؟ هل هم واضحو المعالم والسمات، بحيث لا يمكننا ان نخطئ في تصنيفهم؟ ام هل هم، ببساطة افراد تم تصنيفهم من قبل الادارة الاميركية ومن ورائها على انهم متطرفون وارهابيون، يوضعون على لوائح كأنها لوائح شطب او ما شابه؟ ومنذ متى اصبح التطرف عملا اجراميا بحد ذاته يعاقب عليه القانون؟ وهل ينبغي ان نبتعد عن اي فرد قد نظن انه متطرف فقط لكونه متصلبا ببعض مواقفه؟ وما الفارق بين التطرف والتصلب؟ وهل كونك متصلبا في موقفك مما تعتقده حقا او باطلا كفيل بان يدخلك في عالم التطرف؟ لا شك انها اسئلة ينبغي الاجابة عنها بطريقة موضوعية وحذرة. ولا ينبغي الاجابة عنها حسب الطريقة الاميركية، لان تصنيف الادارة الاميركية للمتطرفين هو بسيط للغاية: من ليس معنا فهو ضدنا وبالتالي فهو متطرف وارهابي.

لا شك ان كثرة الحديث عن التطرف ناشئ عن اعمال سفك الدماء التي حصلت وتحصل بشكل لا تراعى فيه حرمة النفس الانسانية التي دعت الى رعايتها جميع الشرائع السماوية او القوانين الوضعية، ولو ان الافكار المتطرفة بقيت في خانة الفكر لما اثير حولها كل هذا الضجيج والاستنكار. ولكن الذي حصل هو ان تحولت بعض الافكار المتطرفة الى اساليب متطرفة نتجت عنها اعمال متطرفة أدت الى سفك الكثير من الدماء البريئة، وذلك في بقاع متعددة على سطح هذا الكوكب. وهنا ينبغي ان نسأل سؤالا بديهيا: لماذا تحولت بعض الافكار المتطرفة الى اساليب عدوانية مقيتة؟ لا شك ان خللا ما في الجهاز المناعي الثقافي عند بعض الافراد قد حول بعض الافكار الاولية القديمة الى افكار يمكن ان نسميها افكارا سرطانية، صنعت على عجل من دون وعي او ادراك حقيقيين، فأخذت هذه الافكار تترجم نفسها على شكل افعال لا تتناسب والافكار الاولية القديمة. وهذا الخلل قد يكون مرده الى عدم قدرة هذا الجهاز المناعي على ابتكار الافكار المطلوبة، بسرعة متزامنة مع السرعة الهائلة للتغيرات الثقافية التي حصلت في عالمنا المعاصر. ومن ابرز مواصفات الافكار السرطانية هي انها لا تملك الموهبة والتأني والصبر في مواجهة او مواكبة التنوع الهائل والسريع الذي قد يحصل في البيئة الثقافية المحيطة بها. والظاهر ان اجهزة المناعة الثقافية عند البشر كل البشر اعتادت ان تأخذ وقتا طويلا جدا للقيام بعملية اعداد الافكار الجديدة التي قد تجعلها اكثر استقرارا وحكمة في مواجهة او مواكبة التغيرات التي قد تطرأ بين الحين والآخر. فعلى سبيل المثال، ان الفكرة الاولية التي تقول انه من حق كل شعب ان يكون له وطن يمارس فيه حقه في العيش ضمن حدود جغرافية يمارس فيها معتقداته ويطبق فيها نماذجه الخاصة، تحولت في القرن الماضي عند بعض الشعوب الى فكرة خبيثة متطرفة تبيح لشعب ما العيش على انقاض شعب آخر، وذلك بناء على وعد إلهي مزعوم متطرف! تحول الى وعد بلفوري محتوم ومتطرف ايضا.

ان الحديث عن التطرف يجرنا الى الحديث عن الاعتدال، من المستغرب كيف اصبح الاعتدال، عند البعض، نقيضا للتطرف. وهذا امر خاطئ برأيي، لانه لو قسمنا التطرف الى قسمين وهما الحار والبارد وقسمنا الاعتدال الى قسمين وهما الحار والبارد ايضا، سنجد ان الاعتدال والتطرف هما خطان منفصلان قد لا يلتقيان على الاطلاق. ولهذا السبب لا يمكننا ان نطلب من المعتدلين ان يكونوا متطرفين في اعتدالهم، ولكننا نستطيع ان نطلب منهم ان يكونوا حارين في اعتدالهم بدل ان يكونوا باردين، وينبغي ان نطلب من المتطرفين ان يكونوا باردين في تطرفهم على الاقل كي يأخذوا قسطا من التأمل في ما يدور من حولهم من تغيرات عسى ان يجدوا لانفسهم مكانا على خط الاعتدال الحار او البارد ليقفزوا القفزة النهائية باتجاهه. والا فلو قفز المعتدلون تارة الى خط التطرف وتارة اخرى الى خط الاعتدال، والمتطرفون مثلهم، فسيصبح المعتدلون والمتطرفون كمن يلعب على الحبال على طريقة المنافقين.

ان الاعتدال هو طريقة حياة ينبغي ان يلتزم بها اصحابها من دون يأس او ملل وبصبر وتأن، كي يؤسسوا لافكار تتلاءم مع محيطهم وتغيراته، ولا يعني هذا ان يعيشوا في بروج فكرية بعيدة عن الواقع، لان ابرز وظيفة للمعتدلين هي تغيير الواقع وتغيير النماذج والسمات من دون المساس بالجوهر الانساني، والكليات الانسانية، وذلك لتعزيز هذا الجوهر ووضعه في الخدمة ثانية، فالمعتدلون هم الاطباء الذين يجب ان يتولوا عملية استئصال كل الافكار السرطانية التي قد تنشأ في المجتمع، لذلك عليهم ان يكونوا حكماء وصبورين اثناء عملية الاستئصال، اذ لا يكفي ان يحمل الطبيب المشرط كي يستأصل ورما خبيثا، انما عليه ان يكون هادئا وصبورا وذكيا، كي لا يتوه عن الورم، فينتزع ما يجاور الورم الخبيث من انسجة حيوية وحميدة وعليه ان يحدد طريقة العلاج لا ان يكتفي بتحديد موعد الوفاة!

* كاتب لبناني