ياسين: حين تضاءلت قيمتا «العقل» و«الحرية» في التاريخ الإسلامي تخلف تراثنا السياسي

كتاب يدعو إلى تجاوز «الآلية السلفية» في التعامل مع النصوص وإصدار الأحكام التي يرى أنها وسعت كثيرا من دائرة المحظور في الشريعة على حساب دائرة المباح

TT

* «ابن حزم» من أبرز من حصروا مصادر التكليف في القرآن والسنة واستطاع في سلاسة عملية باهرة أن يبرهن على «إسلامية العقل»

* في سياق الاهتمام الكبير لدوائر الثقافة العربية ـ في العقود الأخيرة ـ بالمشروعات المهتمة بإعادة قراءة التراث وتفكيك البنى التقليدية في التاريخ الإسلامي صدر عن المركز الثقافي العربي كتاب «السلطة في الإسلام» للمستشار عبد الجواد ياسين الذي قام فيه بدراسة معمقة للاتجاهات الفقهية السائدة في التاريخ الإسلامي وأدواتها الاستدلالية ومصادرها التشريعية، وهو ما أثار جدلاً في الدوائر الفقهية التقليدية في العالم العربي لكونه يمارس عملية تجاوز وتفكيك لبناها الثابتة وآلياتها المتشكلة عبر قرون طويلة من التراكم الفقهي والأصولي.

الكتاب الذي كُتب بلغة علمية جريئة دعا بشكل صارم إلى تجاوز الآلية السلفية في التعامل مع النصوص وإصدار الأحكام التي يرى أنها وسَّعت كثيراً من دائرة المحظور في الشريعة على حساب دائرة المباح الواسعة أصلاً، وأنها اعتدت على «النص» لكونها أضافت مصادر «غير نصية» في التشريع والاستدلال كالإجماع والقياس وعمل أهل المدينة وغيرها. وهو ما ضيق مساحة الحرية الإنسانية وأضفى على الإسلام صبغة تاريخية غير قادرة على التواؤم مع التقدم الحضاري والمستحدثات الإنسانية السـائدة في عالم اليوم.

يعد المستشار عبد الجواد ياسين الذي تدرج في سلك النيابة والقضاء في مصر ويعمل اليوم قاضياً في دولة الإمارات العربية المتحدة من المهتمين بشأن الفكر السياسي الإسلامي وباحثاً في قضايا الفلسفة والشريعة والقانون. وقد صدر له في المرحلة التي يطلق عليها هو «المرحلة السلفية» في حياته كتاب «مقدمة في فقه الجاهلية المعاصرة»، وذلك عام 1986، وبعد ذلك بعامين أصدر كتاب «تطور الفكر السياسي في مصر خلال القرن التاسع عشر».

عن الفكر السياسي في التاريخ الإسلامي وعن كتابه «السلطة في الإسلام» دار معه هذا الحوار:

* ما سبب تواضع ومحدودية التنظير السياسي في التراث الإسلامي، وأن ما نتج منه ـ على محدوديته ـ هو يصب في اتجاه تكريس السائد وشرعنة الاستبداد السياسي وممارسة عملية تديين لأفعال السياسي الأمر الذي جعل تراثنا الإسلامي يعاني ـ كما وصفه الدكتور محمد جابر الأنصاري ـ حالة «أنيميا سياسية»؟

ـ يرجع تواضع التنظير السياسي في التراث الإسلامي في رأيي باختصار إلى أن التيار الذي هيمن على كتابة المنظومة الإسلامية لما صار يعرف بأهل السنة والجماعة هو تيار «أهل الحديث». فهو التيار الأقل اعتدادا بقيمة العقل والحرية من ناحية، والأكثر التصاقاً بالسلطة السياسية الحاكمة من ناحية أخرى، ويعني ذلك أنه التيار الأقل تأهلاً للتنظير بحكم طبيعته اللغوية الحرفية، وهذه مسألة تتعلق بالقدرة. كما أنه التيار الأقل رغبة في التنظير بحكم تبعيته للسلطة، وتلك مسألة تتعلق بالإرادة. ساهم تقاعس الفقه السلفي بشكل واضح في هذا الصدد وذلك بتخليه عن وظيفته التنظيرية التي تؤهله لسبق الواقع وتوجيهه، ولم يكن في معظمه ـ أي الفقه السلفي ـ أكثر من انعكاس لاحق على الواقع الذي كان الحكام المعبرين عنه والشارحين له. ولذلك كما أشرت في كتابي فقد ظل باب النظرية السنية في الخلافة مفتوحاً على الدوام حتى منتصف القرن الرابع على الأقل حيث أبدت النظرية قدراً مذهلاً من المرونة استطاعت من خلاله أن تستوعب داخل إطارها دولة الراشدين الشورية، ودولة الأمويين الوراثية الاستبدادية، ودولة العباسيين الأولى بطابعها الدموي، ودولة العباسيين الثانية بحكوماتها السلطانية التي فرغت «الخلافة» من مضمونها الحقيقي. وفي سبيل ذلك فقد استطاعت النظرية السنية ـ وهي تتلوى مع التاريخ ـ أن تقر مبدأ الاختيار الطوعي من الأمة للحاكم، ثم تقبل من أبي بكر مبدأ «الاستخلاف الفردي»، ومن عمر «الاستخلاف الجماعي»، وتقبل من تجربة عثمان مبدأ «تأبيد الولاية»، وتقبل من الأمويين مبدأ «توريث السلطة» أو «الأسرة المالكة»، وتقر من خلال الواقع العباسي مبدأ «ولاية المتغلب» من السلاطين والوزراء، حتى إذا ما صار الحاكم في نهاية الأمر ضرباً من السلطة الدينية ذات طابع رمزي فاتيكاني، فإن النظرية فيما يبدو لم تبد اعتراضاً».

لقد كان التواضع التنظيري السياسي في تراثنا الإسلامي كمياً وكيفياً معاً.

* إذا كان التراث الفلسفي الإسلامي يمثل في بعض جوانبه امتداداً تواصلياً للفلسفة اليونانية. فهل نلمس في «التنظير السياسي» في التراث الإسلامي أي ملامح للتواصل أو التأثر من الإنتاجات السياسية للفلسفة اليونانية؟

ـ ثمة فارق بين التراث السياسي الإسلامي والتراث الفلسفي الإسلامي. ولأن صحت هذه التسمية الأخيرة من حيث علاقة كل منها بالفكر اليوناني، لا يمكن الحديث عن علاقة حقيقية بين الفكر السياسي الإسلامي وبين التراث السياسي اليوناني. لأن الفكر السياسي الإسلامي لم يكن في الحقيقة أكثر من رد فعل تبريري لواقع الأنظمة السياسية الحاكمة بطابعها الاستبدادي المعروف من ناحية، ورد فعل المعارضة بفرقها المختلفة لاسيما الشيعية والخارجية حيال هذا الواقع من ناحية أخرى، وكان الواقع يكتب النظرية سواء على مستوى السنة تحت مسمى «الخلافة»، أو على مستوى الشيعة تحت مسمى «الإمامة».

وقد اكتملت ملامح النظريتين قبل تمام الاتصال الحقيقي بين العقل الإسلامي والفكر اليوناني. فالترجمة الحقيقية للمنطق الأرسطي ـ وهو أول ما تُرجم من أرسطو ـ لم تبدأ إلا من خلال حُنين بن إسحاق وابنه «298هـ»، ولم تنضج قبل الفارابي «339هـ»، أما الفلسفة اليونانية بما تتضمنه من سياسيات أرسطو وأفلاطون وأفكار المدرسة الرواقية فقد تأخر نقلها والتفاعل معها لما بعد التبلور النهائي لنظريتي الخلافة والإمامة.

ومن ثم فليس صحيحاً أن التراث السياسي الإسلامي ـ كما تلخصه النظريتان الرئيسيتان في الحكم ـ هو اتكاء أو امتداد التراث اليوناني حيث لا نكاد نلمح فيها أية سمات يونانية سواء على مستوى الفحوى الموضوعي الذي فرضه الواقع العربي الاستبدادي المحلي، أو على مستوى الصياغة التنظيرية المصبوبة في قوالب أهل الحديث اللغوية.

لقد قدم الفكر الإسلامي «السلفي» بالفعل مساهمة سياسية خاصة به، ولكنها لم تكن مساهمة رائعة على كل حال.

أما على المستوى الفكري والفلسفي فالأمر يختلف، حيث يمكن الحديث عن علاقة حقيقية بين التراث الفكري الإسلامي والتراث الفلسفي اليوناني، بدأت هذه العلاقة بعملية الترجمة الواسعة للتراث اليوناني إلى اللغة العربية فيما يعد بحق أضخم عملية ترجمة في التاريخ قبل العصر الحديث، وبقدر ما ساهمت هذه العملية في إثراء الفكر الإسلامي وتحريكه بقدر ما ساهمت في إحياء التراث اليوناني وإعادة دمجه ثم تقديمه بعد ذلك لأوروبا المتأهبة للخروج من العصور الوسطى.

* كتابك يصب في اتجاه التأكيد على أولوية «الإصلاح الديني» في قيام المشروع الحضاري للأمة الإسلامية. ألا تعتقد أن المشكلة تتركز في غياب «الإصلاح السياسي» لكون وجود المجتمع الحر التعددي المتقدم هو كفيل بإشاعة كافة مناحي الإصلاح الأخرى. ألا ترى صدقية المطالبة بـ«أولوية الإصلاح السياسي»؟

ـ الاجتماع البشري مراوغ جداً. ومنذ حديث الفلسفة اليونانية عن أولية الوجود أو الماهية حتى حديث ماركس عن أولية البنية الاقتصادية، تبدو مسألة الأولوية من أصعب المسائل فيما يتعلق بالتغيير الاجتماعي. وفي خصوص المشروع الحضاري للأمة الإسلامية حيث يتداخل «الديني» و«السياسي» و«العقلي» تداخلاً معقداً لأسباب تتعلق بالتاريخ، فلا مفر من تناول إصلاحي مركب وطويل المدى. ولكن دعنا نتفق أولاً على مفهومين غائبين لا بد من وضعهما عنواناً لأي مشروع إصلاحي. الأول: الحرية، والثاني: العقل العلمي.

* إذا ما تحدثنا عن مضمون كتابك فمن القضايا التي يتمحور حولها محاولة توسيع دائرة المباح في الشريعة وما تسميه «إعادة الاعتبار للنص»، وذلك عن طريق رفض الإجماع والقياس كمصدري تشريع.. ولكن ألا تسهم آلية القياس في زيادة فاعلية النص وقدرته على المواءمة مع المستحدثات الكونية بدل أن تقتصر الأحكام على حرفية ما أوردته النصوص المحكومة بالمألوف والمستخدم في سياقها الزمني؟ إضافة إلى أن القياس قد يسهم أحياناً في الحد من إطلاقات الحرمة في بعض النصوص؟

ـ القياس بمعناه الاصطلاحي كما قننه الشافعي لا يساهم في توسيع دائرة المباح بل يؤدي إلى تضييقها لأن مصدرية القياس بهذا المعنى تقتضي وجوب إحالة المسكوت عنه ـ أي الواقعة المستحدثة ـ إلى نص من النصوص لإنزال حكمه عليها، أي أنه لا يجوز إعمال الرأي فيها باجتهاد حر بل لا بد من إلصاقها بحكم منصوص، فالاجتهاد لا يجوز إلا من خلال القياس أي من خلال التعليل أو التشبيه بنص، معنى ذلك أنه يحرم إعمال العقل والاجتهاد حول الوقائع المستحدثة من خلال أدوات الاستدلال العقلية الأخرى كالاستقراء والاستنباط والمقارنة والتحليل والتجريب، ويحول دون الإفادة من مناهج البحث العلمي الحديثة في العلوم الإنسانية والطبيعية على السواء.

هنا يؤدي القياس إلى ربط المستحدثات إلى الأبد بحرفيات النصوص المحكومة بملابساتها الظرفية في سياقها الزمني.

أما القياس بمعناه العام أي باعتباره آلية ذهنية أو وسيلة عقلية، لا سيما القياس الجامع الأرسطي فيلعب دوراً هاماً في عملية الاستدلال اللازمة للتعامل التشريعي مع النصوص وبوجه خاص في دائرة المباح.

* في سياق دعوتك إلى تجاوز مصدري الإجماع والقياس المتأصلة في الرؤية السلفية هل يستوجب ذلك بالضرورة الاستناد إلى نموذج تاريخي كـ«ابن حزم» للاتكاء على منهجيته مع ما يترتب على ذلك من تبني مجمل هذه المنهجية بما تحويه من نقاط ضعف وخلل؟

ـ تحتوي منهجية ابن حزم الأصولية «لا الفقهية» على كثير من نقاط القوة، فقد حصر مصادر التكليف في منبعها الحقيقي الوحيد الممَثل في النص الخالص، ووقف على الدور الكبير الذي تلعبه دائرة المباح في العملية التشريعية، واستطاع في سلاسة عملية باهرة أن يبرهن على «إسلامية العقل» من خلال منهجه الاستدلالي الجامع بين النص والعقل الذي طبقه في دراساته الأصولية والفقهية والكلامية في كتبه الأحكام والمحلي والفصل.

لذلك وكما سبق أن أشرت في كتابي لقد تعمدت ذكر ابن حزم بغرض المقارنة ولأنه يمثل في نظرنا نموذجاً استثنائياً وراقياً لحالة القدرة في العقل المسلم على النفاذ من سلطان السلفية التاريخية التي زاحمت النص في كثير من صلاحياته.

* امتدحت طريقة «أهل الرأي» ونموذج «ابن حزم»، وكذلك «المنهج الاعتزالي».. ففي الوقت الذي تتعارض فيه هذه المناهج في أدواتها الاستدلالية ومصادرها التشريعية. في رأيك أيٌ من هذه المناهج تصنفها أنت بأنها الأقرب إلى صحيح الإسلام وإلى المواءمة مع العصر الإنساني الحديث؟

ـ المشترك الجامع بين هذه المناهج الثلاثة هو الحضور الواضح لآلية العقل في مقابل غياب هذه الآلية عن المنظومة السلفية. وإذا كان «أهل الرأي» قد مارسوا آلية العقل بشكل نسبي في ميدان الفقه، فقد مارسها «المعتزلة» في علم الكلام، أما «ابن حزم» فقد مارسها في الأصول والفقه والكلام. ولأن آلية العقل لغة إنسانية مشتركة ممتدة في الزمان، «حيث هي بالتأكيد الأقل تاريخية» فإن المناهج الثلاثة تبدو أكثر تلاؤماً مع لغة العصر الإنساني الحديث من الطرح الذي تقدمه المنظومة السلفية.

ومع ذلك فإن الطرح الذي نقدمه لا يقوم على الاختيار الاضطراري لواحد من هذه المناهج القديمة بل على ضرورة تقديم منهجية جديدة مستمدة من العصر تمارس الحرية والعقل بغير سقف إلا من ثوابت النصوص القطعية التي هي قليلة جداً بطبيعتها.

نقطة البدء في ذلك خطوتان أساسيتان:

1 ـ أن تنحى كل المصادر اللانصية التي اعتمدتها المنظومة السلفية كالإجماع والقياس وقول الصحابي وعمل أهل المدينة، وهو ما يعني إعادة قراءة ثم كتابة علم «أصول الفقه».

2 ـ أن تحذف كل الإضافات التي حملت على نص السنة من جراء المنهج الإسنادي في جمع الروايات والأخبار، وهو ما يعني إعادة قراءة ثم كتابة «علم الحديث».

ولا يتم ذلك بغير ممارسة الحاسة النقدية بنت العقل والحرية.

* تحدثت طويلاً عن المنهج الاعتزالي المعتمد على تقديم العقل في الاستدلال. برأيك هل تتشابه المنهجية الاعتزالية في تعاملها مع قضايا الإلهيات والعقائد مع منظومة الفلسفة الأوروبية المادية المعتمدة على المنهج التجريبي العقلي كما عند ديكارات وكانت وجون لوك وسواهم. وهي المنظومة التي لا تضع اعتباراً لقداسة النص؟

ـ بوجه عام لم يكن المعتزلة فرقة فلسفية تمارس التفلسف خارج دائرة النص الإسلامي، وإنما كانت فرقة «إسلامية» تمارس التعقل داخل هذه الدائرة وبدءاً من منطلقاتها. وظلت كذلك حتى بعد اتصالها بمنطق أرسطو والفلسفة اليونانية بصفة عامة.

أما الفلسفة الأوروبية وهي ليست مادية بإطلاقها «فلم تبدأ عصر المنهج التجريبي الاستقرائي الذي مهد لنقلة الحداثة العلمية» إلا على يد فرانسيس بيكون في بداية القرن السابع عشر.

* في حديثك عن نقد المتن والتنصيص السياسي مارست عملية النقد على متون عدد من الأحاديث وأثبت ضعفها واختلافها مع معطيات التاريخ أو مع ما تواتر من النصوص. ولكنك لم تزد على ذلك بوضع آلية ومنهج علمي صارم لممارسة نقد المتن، لكون هذه الممارسة في نقد المتن لو مورست دون منهج علمي صارم لربما استخدمت في إلغاء وتجاوز كثير من نصوص السنة دون اعتبارات مقنعة؟

ـ أحسب أن في كتابي ملامح واضحة لمشروع منهج عملي صارم ـ كما تسميه ـ لنقد المتن، ولكن قراءاتها يجب أن تتم في السياق العام للطرح الأصولي ولقضية السنة كما تم عرضها في الكتاب.

وفي هذا الصدد يمكن الإشارة على سبيل المثال فيما يتعلق بأخبار الآحاد إلى فكرة «عدم الضرورة»، وفكرة «التفرقة بين الضروري والنافع» وما أسميته «المنهج النقدي التاريخي الشامل «الذي يقوم على محاكمة الخبر من متنه إلى القرآن والتاريخ والعقل الكلي. ثم فكرة خضوع النص بعد ثبوته وفقاً لهذا المنهج لهيمنة الأحكام القرآنية العامة بطبيعتها والمؤهلة بحكم عموميتها للتواؤم مع حركة التغير عبر الزمن.

* ألا تعتقد أن عملية «نقد المتن» كانت مُمارَسة في المنظومة السلفية وقد مارسها مالك وأحمد والبخاري والدارقطني وابن حبان والطحاوي وابن تيمية وكثير سواهم بحيث ردوا عدة أحاديث كحديث «خلق الله التربة يوم السبت» وحديث رضاعة الكبير وحديث «جمع رسول الله من غير سفر ولا مطر» وعدد آخر من الأحاديث التي أثبتوا صحة أسانيدها ولكنهم ردوها لنكارة في المتن؟

ـ نحن لا نذكر وجود بعض حالات لنقد المتون لدى المنظومة السلفية، ولكننا نؤكد أنها لم تكن تمثل القاعدة في منهج علم الحديث التقليدي الذي انصبت فعالية النقد فيه على الجانب الإسنادي. أضف إلى ذلك أن هذه الحالات لم توجه بشكل جاد إلى كتابي البخاري ومسلم. وقد أشرت في كتابي إلى بعض الأحاديث الواردة في البخاري ومسلم لا يمكن التسليم بصحة صدورها متناً عن النبي صلى الله عليه وسلم لتناقضها الصريح إما مع ثوابت القرآن أو مع حقائق التاريخ أو مع قطعيات العقل الكلي ومع ذلك لم ترد ضمن انتقادات العلماء المسلمين السلفيين كالدارقطني على البخاري والعراقي على مسلم. نعم تكلم بعض هؤلاء منتقداً البخاري ومسلم ولكن ذلك كان نادراً، وكان متعلقاً بالإسناد. وما اتصل بالمتن منها كان على حد تعبير ابن حجر «يتعلق بتغير بعض ألفاظ المتن، وهذا أكثره لا يترتب عليه قدح».

إن احترامنا لإسهامات الأقدمين لا يمنعنا من ممارسة حقنا في قراءتهم قراءة نقدية.

* يرى البعض أنك اتكأت في كتابك كثيراً على كتاب الجابري «بنية العقل العربي» ما دقة هذا الكلام برأيك؟

ـ موضوع كتابي كما أشرتُ في مقدمته هو «تاريخ السلطة» و«سلطة التاريخ» من حيث علاقة كل منهما بالعقل المسلم. وموضوع كتاب الجابري هو «بنية العقل العربي» فثمة منطقة يتقاطع فيها موضوعا الكتابين. رأيت من المناسب استخدام بعض شواهد الجابري التي تتفق مع مضمون فكرتي أو مناقشة بعض الشواهد التي تختلف معها.

كان ذلك في جزء من الفصل الأول وشواهد الجابري تستحق المناقشة على كل حال.

* ذكرت أنك ستصدر جزءاً ثانياً من كتابك. حول أي المضامين سيدور؟

ـ أتعشم أن يصدر الجزء الثاني من «السلطة في الإسلام» عن تطور كل من نظريتي الخلافة والإمامة على ضوء التاريخ العام للسلطة والمعارضة قريباً بإذن الله.