أيام فقهية في مكة المكرمة (7) ـ المجمع الفقهي الإسلامي في رابطة العالم الإسلامي يجيز استعمال دواء مستحضر من نجاسة الخنزير

المجمع يدعو وزراء الصحة في العالم الإسلامي إلى التنسيق مع شركات الأدوية المصنعة لدواء الهيبارين الجديد باستخدام مصدر بقري سليم في مكوناته

TT

تتناول حلقة اليوم موضوعاً فقهياً مهماً حول حكم استعمال الدواء المشتمل على شيء من نجس العين كالخنزير وله بديل أقل منه فائدة كالهيبارين الجديد. وقدمت في هذا الموضوع خمسة بحوث، ناقشت الجوانب العلمية والطبية، وكذلك الأحكام الشرعية المتعلقة بهذا الخصوص. وبعد مناقشات مستفيضة للعلماء والفقهاء والخبراء والباحثين أجاز مجلس المجمع الفقهي الاسلامي التابع لرابطة العالم الاسلامي في دورته السابعة عشرة المنعقدة في مكة المكرمة، في الفترة من 19 ـ 23 شوال 1424هـ الموافق 13 ـ 17 ديسمبر (كانون الأول) 2003، التداوي بالهيبارين الجديد ذي الوزن الجزيئي المنخفض عند عدم وجود البديل المباح الذي يغني عنه في العلاج اذا كان البديل يطيل أمد العلاج، الا ان المجمع دعا الى عدم التوسع في استعماله الا بالقدر الذي يحتاج إليه، داعيا وزراء الصحة في العالم الإسلامي الى التنسيق مع شركات الأدوية المصنعة للهيبارين على تصنيعه من مصدر بقري سليم.

قدم الدكتور أحمد رجائي الجندي، الأمين العام المساعد للمنظمة الاسلامية للعلوم الطبية والخبير العلمي في المجمع الفقهي الاسلامي بحثاً بعنوان: «الهيبارين والهيبارين ذو الوزن الجزيئي المنخفض بين التحضير والاستعمال والاستحالة».

جاء فيه أن الهيبارين يستخدم كعلاج مضاد للتجلط بصورة كبيرة وواسعة الانتشار في هذا القرن، ويعتبر الهيبارين من الأدوية القديمة جدا التي ما زالت تستعمل حتى الآن، وهو فريد في نوعه حيث يعد الأول كمادة كربوهيدراتية دوائية. ويرجع اكتشافه وادخاله في العلاج الى ما قبل انشاء منظمة الأغذية والأدوية الأميركية. وهو مادة تنتجها خلايا معينة تسمى خلايا الماست Mast Cells في الجسم وتستخلص عادة من أكباد ورئات ومخاطية أمعاء الثدييات الداجنة التي يأكل الإنسان لحومها بالإضافة الى أعضاء من الخنزير. ولكن نظرا لانتشار مرض جنون البقر، أصبح الخنزير هو المصدر الرئيسي الآن في الحصول على المادة الخام التي تستخدم في استخلاص مادة الهيبارين. تم اكتشاف الهيبارين عام 1916 كمادة سكرية متعددة الجزيئات بالاضافة الى حامض اليورونيك. وقد دلت الأبحاث بأن جزيء الهيبارين يحتوى على الأرثواستيرات السلفات وكذلك سلفات الجلوكوزامين. وفي عام 1970 تبين أن حمض الأيدويرونيك يمثل الجزء الأكبر من جزيء الهيبارين.

وفي خلال العشرين عاما الأخيرة تم تحديد الأماكن على الجزيء التي تتفاعل مع مضادات التخثر أو التجلط كذلك تم فهم كيفية وطريقة تفاعله لوقف عمليات التجلط.

* تحضير الهيبارين

* طريقة تحضير الهيبارين: يتم تحضيره باستخلاصه في أماكن الذبح من الأكباد أو الطبقة المخاطية للأمعاء أو رئات الحيوانات الداجنة التي تؤكل بالإضافة إلى الخنزير الذي يعتبر المصدر الرئيسي له الآن. وتعتبر طريقة تحضير الهيبارين على المستوى التجاري من الأسرار التي تحتفظ بها الشركات المنتجة وتحتكر إنتاجه.

وتتضمن عملية استخلاص الهيبارين خمس مراحل: أولاً: تحضير الأعضاء التي سيتم استخلاص الهيبارين منها.

ثانياً: استخلاص الهيبارين من تلك الأعضاء.

ثالثاً: استعادة الهيبارين بصورته الأولية.

رابعاً: تنقية الهيبارين المستفاد.

خامساً: استعادة الهيبارين المنقى.

الهيبارين ذو الوزن الجزيئي المنخفض مجموعة من أملاح جزيء الهيبارين ووزنها الجزئي يقل عن 8000 دالتن. ويتم الحصول عليها إما بتجزئة أو عن طريق إعادة بلمرة جزيء الهيبارين على أن تكون قوته أكثر من 70 وحدة لكل ملجم للعامل المضاد لنشاط Xa ونسبة العامل المضاد لنشاط xa الى العامل المضاد لـ II a أقل من 1.5، وقبل الموافقة على إدخال مجموعة الهيبارين ذي الوزن الجزيئي المنخفض للعلاج كان الهدف هو الحصول على جزيء أقل من الوزن الجزيئي من الهيبارين وتحسين صفات الهيبارين العلاجية والتغلب على المضاعفات الجانبية له. ويمكن الحصول على ذلك بإمرار الهيبارين من خلال مواد فاصلة لها خاصية فصل المواد حسب وزنها الجزيئي. لكن هذه الطريقة رغم نجاحها إلا أنه لا يمكن استخدامها في الإنتاج الصناعي لارتفاع تكاليفها.

طرق تحضير الهيبارين ذي الوزن الجزيئي المنخفض: لقد تبين على مدى السنين الماضية بأن مادة الهيبارين مادة ثابتة طبيعيا وكيميائية ويمكن أن يمتد عمرها الافتراضي إلى عشر سنوات (أي أنها غير قابلة للتحلل إلى مواد أخرى نتيجة تعرضها للحرارة أو الرطوبة). والطرق المختلفة التي تستخدم في تحضير الهيبارين تعرضه لدرجات حرارة مرتفعة وضغوط عالية واستخدام مواد كيميائية كثيرة بتركيزات عالية ورغم ذلك فقد تبين ان هذه الطرق تنتج الهيبارين في درجة عالية من النقاء دون أن تؤثر في صفاته الكيميائية أو الطبيعية أو الأقرباذينية.

وقد تمت دراسة ثبات مادة الهيبارين عند درجات حرارة مرتفعة سواء في الوسط القلوي أو الحمضي وتبين أن مادة الهيبارين تقاوم كل تلك العوامل وتبقى على حالها دون تغيير في تركيبتها الكيميائية ولا تتأثر خواصها الأقرباذينية.

* استنساخ الهيبارين

* استنساخ الهيبارين ذي الوزن الجزيئي المنخفض Bioheperin: تتم الآن محاولات انتاج الهيبارين بطرق الاستنساخ والهندسة الوراثية وقد ظهرت باكورة انتاجه في المختبرات لاجراء دراسة مقارنة بينه وبين الهيبارين من ناحية الأمان والسمية والتأثير الأقرباذيني على حيوانات التجارب ،وقد جاءت النتائج مشجعة حتى الآن. ويتميز الـ Bioheperin عن الهيبارين ذي الوزن الجزيئي العادي المستخلص من أنسجة الحيوانات بعدم وجود أية مواد أو شوائب من أنسجة الحيوانات قد تسبب مخاطر للإنسان عند استخدامه لها.

والجيل الأول من هذه المواد ظهر الآن في المختبرات وتحت الدراسة للتعرف على سميته وسلامته ودرجة أمانه وتأثيره الاقرباذيني وجميع المواد التي انتجت والتي ظهرت من هذا الجيل هي مواد تحاكي مواد الهيبارين ذي الجزيء المنخفض المستخلص من الهيبارين العادي المستخلص من أمعاء الخنزير.

بحث آخر قدم لدراسة مدى إمكانية استخدام الهيبارين ذي الوزن الجزيئي المنخفض مع بعض المواد المضادة للصفائح في حالات الذبحة الصدرية غير المستقرة والتي يصل عددها الى حوالي مليون حالة سنويا في الولايات المتحدة الاميركية، وبرصد حالات الوفيات ومعاودة الحالات مرة ثانية تبين حدوث ما بين 8 ـ 16% في الشهر مرة ثانية والتي تظهر أنها نسبة عالية. لذلك وجدت محاولة تخفيض هذه النسبة أو تحسين حالات المرضى باستخدام مجموعة الهيبارين ذي الوزن الجزيئي المنخفض وقد تبين ان هذه المجموعة تعطي نتائج جيدة من ناحية الامتصاص والكفاءة وسلامة الاستعمال، وبالتحليل الاحصائي والمقارنة مع الهيبارين العادي وجد ان بعض هذه المجموعة متساوية معه والبعض الآخر تفوقه في الصفات السابقة على الهيبارين العادي، تبين ان سبب تفوق هذه المواد على الهيبارين العادي بقلة قدرتها على الارتباط بالبروتين الذي يلتصق بالهيبارين العادي والخلايا الاندوثلية ومقدرة الكلى على اخراجها.

وقد ثبت ان درجة سلامة هذه المجموعة في علاقة الجلطة العميقة في الفخذ لا تقل عن سلامة استخدام الهيبارين العادي. في بحث آخر لمقارنة استخدام هذه المجموعة مع الهيبارين العادي في علاج مرضى السرطان وجد تفوق هذه المجموعة لمرضى السرطان اذا اخذ العمر الافتراضي ولا يعوز ذلك الى تدخل هذه المجموعة في التأثير على التجلط ولكن قد تكون لها تأثيرات اخرى على الانزيمات ونمو الخلايا وتأثيرات اخرى مما يؤهله لضرورة أخذه بعين الاعتبار في الأبحاث.

في بحث آخر لمعرفة مدى امكانية استخدام هذه المجموعة اثناء الحمل ثبت ان ما بين .05 ـ 1% من الحوامل يصبن بالجلطات سواء الرئوية أو الوريدية وقد تصل النسبة الى 3% وهذه الأخيرة تحدث في حالات الولادة القيصرية.

والمريضات اللائي يظهر عندهن تجلط انسدادي وريدي يتم اعطاؤهن مضادات للتجلط. ونظرا لعدم امكانية الهيبارين لاختراق البلاستنا فقد اعتبر المادة المثالية للاستخدام لعلاج التجلط اثناء الحمل (أي انه لا يؤثر على الجنين). وقد تبين ان مجموعة الهيبارين ذي الجزء المنخفض ـ لها نفس التأثير ـ سهلة الاستعمال ونسبة أمانها في الاستخدام جيدة ورغم عدم وجود دراسات كثيرة في هذا المجال يمكن الاعتماد عليها فإن الدراسات التي اجريت حتى الآن اثناء الحمل لعلاج التجلط الانسدادي الوريدي مبشرة بالأمل الكبير. وقد تبين من الحالات التي اعطيت لتلك المجموعة بأن المريضات لم يعانين من قلة الصفائح Thrombo Cytopenia أو تخلخل النظام كما يحدث في العلاج باستخدام الهيبارين العادي. ونظرا لعدم وجود دراسات موسعة مبنية على الأسس العلمية في هذه المجالات. يقترح استخدام تلك المجموعة للوقاية من التجلط الانسدادي الوريدي أو الانسداد الرئوي وليس للعلاج في المرحلة الراهنة. وفي دراسة حديثة لاستخدام تلك المجموعة للوقاية من التجلط الانسدادي الوريدي Venous Thrombo embolisom للمرضى الذين سيجرون عمليات جراحية كبرى في العظام يحبذ استخدامها نتيجة ثلاث دراسات اجريت على نطاق كبير. في أوروبا يتم الاستخدام قبل العملية باثنتي عشرة ساعة بينما في اميركا الشمالية يمكن الاستخدام ما بين 12 ـ 48 ساعة بعد العملية والدراسة الثالثة مقترح لاستخدام قبل 12 ساعة أو 12 ساعة بعد العملية.

وقد جاءت النتائج كالتالي: المجموعة التي اخذت العلاج قبل العملية ظهرت لديها الجلطات الوريدية العميقة بنسبة 19.2% بعد العمليات ونسبة حالات النزف 1.4% بينما المجموعة التي اخذت العلاج بصفة دورية قبل العملية بـ 12 ساعة وبعد العملية بـ 12 ساعة Perioperative ظهرت نسبة الانسداد الوريدي العميق بحوالي 12.4% ونسبة حالات النزف 6.2% بينما المجموعة الثالثة التي أخذت العلاج بعد العملية ظهرت الحالات بنسبة 14.4% ونسبة حالات النزف 2.5% ونتيجة البحث تظهر امكانية استخدام هذه المواد ولكن احسن نتيجة جاءت باستخدامها قبل العمليات وبعدها بحوالي 12 ساعة Perioperative مع أخذ الاحتياطات اللازمة لحالات النزف الشديد التي قد تظهر.

وتبين ان استخدام تلك المجموعة بالمقارنة مع الهيبارين العادي يتميز على الأخير: مجموعة الهيبارين ذي الجزيء المنخفض مكونة من العديد من المواد كل مادة لها صفاتها الطبيعية والكيميائية والاقرباذينية المختلفة عن بعضها بعضا وجميعها تمتص بدرجة عالية ونسبة انطلاقها الحيوي عالية high bioavailability وتتميز بأن نصف حياتها في الجسم كبيرة مما يؤهلها أن تؤخذ مرة واحدة أو مرتين في اليوم كما وجد امكانية تقدير تأثير الجرعة بدقة كبيرة، وهذه الصفات تجعل من السهولة إمكان استخدام هذه المواد من دون اللجوء الى المعامل لتحليل الدم وعمل الحسابات اللازمة لحساب الجرعة خاصة اذا كان المريض بالمنزل ويعاني من الجلطات العميقة في الفخذ وينعكس ذلك على تخفيض تكلفة العلاج.

* استخدامات الهيبارين

* الاستخدامات: يستخدم «الهيبارين» العادي والهيبارين ذو الوزن الجزيئي المنخفض في علاج الجلطات الوريدية والتاجية والجلطات في الأوردة العميقة في الفخذ وبعد العمليات الجراحية الكبيرة مثل تغيير الفخذ أو الولادة القيصرية أو الأزمات القلبية. لذلك فهو مادة خطيرة تقدم عونا كبيرا لانقاذ الانسان في الأزمات القلبية أو التجلط الانسدادي الرئوي أو غير ذلك ويجب النظر اليها على أنها ضرورية وحيوية وليس هناك بديل عنها في الحالات التي تم ذكرها.

ولذلك فإن التعامل معها يجب ان ينظر اليه بأن استخدامها قد يؤدي الى انقاذ حياة إنسان أو قتله في حالة عدم تعاطيه (رغم أننا نؤمن بأن لكل أجل كتابا) ولكن يجب ان نبذل كل جهد ممكن ونسعى للتداوي كما جاء في الحديث الشريف: «يا عباد الله تداووا فإن الله لم يخلق داء إلا خلق له الدواء علمه من علمه وجهله من جهله».

وإذا كان البعض ينظر إليه على أنه مستخرج من أعضاء الخنزير فيجب النظر الى اهميته وضرورته «فإن الضرورات تبيح المحظورات» وليس هناك من بديل آخر له نفس التأثير.

ويجب معاملته كما عومل الأنسولين المستخلص من الخنزير وبرغم أن الأنسولين مهم للسيطرة على الإنسان إلا أنه اذا قورن بالهيبارين فالاخير يمثل انقاذا للملايين من البشر. وبرغم هذا فإن المجامع الفقهية والمنظمة الاسلامية للعلوم الطبية أفتوا جميعا بأن استخدامه حلال لحين أن يظهر البديل، بالاضافة الى ذلك فإن الهيبارين الموجود داخل خلايا الاعضاء المختلفة لا يوجد بصورته النقية ولكنه يوجد متحدا مع بعض المواد الحيوية داخل خلايا الاعضاء المختلفة للحيوان وعملية الاستخلاص هي لفصله من تلك المركبات المتحدة معه. وهي عملية استحالة كاملة لاستخلاص الهيبارين.

أما مجموعة الهيبارين ذي الوزن الجزيئي المنخفض فتحضر من الهيبارين بعد عدة مراحل من التفاعلات الكيميائية، إما باستخدام الانزيمات أو غيرها لتنتج مواد مختلفة تماما من ناحية الوزن الجزيئي والصفات الطبيعية والصفات الكيميائية والأقرباذينية. وهي ما ينطبق عليها الاستحالة بكل تعريفاتها. ولحسن الحظ فإن الأبحاث الآن تدور على قدم وساق لانتاج مجموعة الهيبارين ذي الوزن الجزيئي المنخفض بالطرق الكيميائية وقد ظهرت بوادرها الآن ويجرى اختبار فاعليتها على حيوانات التجارب.

مما سبق فإنني أوصي بالآتي: استخدام مادة الهيبارين العادي او الهيبارين ذي الوزن المنخفض حلال للأسباب الآتية:

1 ـ توفر عنصر الضرورة الذي يبيح المحظورات.

2 ـ توافر شروط الاستحالة فيها والتي تؤدي بالعين النجسة الى عين طاهرة.

* استحالة الخمر إلى خل

* الاستحالة: استحالة المادة وانقلابها الى مادة اخرى. تبين ان هناك اقوالا بعضها كان موضع اتفاق وهو: استحالة الخمر الى خل وذلك لمورد النص، ولو ان البعض اشترط تخللها بنفسها دون مداخلة الغير، والبعض تجاوز هذا الشرط. وبعض هذه الأقوال مختلف فيه، أي التحول من عين إلى عين، كتحول عظام الميتة إلى رماد أو دخان بالاحتراق، أو تحول العذرة الى رماد بالاحتراق وغيره.. الخ، وقد لاحظنا ان البعض من الفقهاء ـ الشافعية والحنابلة ـ يبقيها على ما كانت عليه قبل الاستحالة، اي انها تبقى نجسة. وفريق آخر من الفقهاء ـ المالكية والاحناف ـ يرى أن العين النجسة يتغير الحكم عليها باستحالتها الى عين اخرى بحيث تتغير خصائصها وتصبح ذات مواصفات جديدة مختلفة عن الأصل، ولا يمنع هؤلاء الفقهاء من تناول العين الجديدة الا اذا حملت في خصائصها خبثاً أو ضررا يؤذي البدن والعقل.

* اتقاء الشبهات

* اتقاء الشبهات خشية الوقوع في الحرام: من رحمة الله تعالى بالناس أنه لم يدعهم في غمة من أمر الحلال والحرام، بل بين الحلال وفصل الحرام، كما قال تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) «الأنعام: 119». فأما الحلال البين فلا حرج في فعله، وأما الحرام البين فلا رخصة في اتيانه في حالة الاختيار. وهناك منطقة بين الحلال البين والحرام البين، هي منطقة الشبهات التي يلتبس فيها أمر الحل بالحرمة على بعض الناس، إما للاشتباه في تطبيق النص على الواقعة أو هذا الشيء بالذات.

وقد جعل الإسلام من الورع ان يتجنب المسلم هذه الشبهات حتى لا يجره الوقوع فيها الى مواقعة الحرام الصرف، وهو نوع من سد الذرائع، بالاضافة الى أنه لون من التربية البعيدة النظر الخبيرة بحقيقة الانسان والحياة.

وأصل هذا المبدأ قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور متشابهات لا يدري كثير من الناس: أمن الحلال هي أم من الحرام؟ فمن تركها استبرأ لدينه وعرضه فقد سلم، ومن واقع شيئا منها يوشك ان يواقع الحرام، كما ان من يرعى حول الحمى يوشك ان يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه» رواه الشيخان وغيرهما عن النعمان بن بشير واللفظ من رواية الترمذي.

* الضرورات تبيح المحظورات

* ضيق الاسلام دائرة المحرمات، ولكن بعد ذلك شدد في أمر الحرام وسد الطرق المفضية اليه، ظاهرة أو خفية، فما ادى الى الحرام فهو حرام، وما اعان على الحرام فهو حرام، وما احتيل به على الحرام فهو حرام.

بيد ان الاسلام لم يغفل عن ضرورات الحياة وضعف الانسان امامها، فقدر الضرورة القاهرة، وقدر الضعف البشري، وأباح للمسلم ـ عند ضغط الضرورة ـ أن يتناول من المحرمات ما يدفع عنه الضرورة ويقيه الهلاك. ولذا قال الله تعالى بعد أن ذكر المحرمات من الأطعمة كالميتة والدم ولحم الخنزير: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) «البقرة: 173». وكرر هذا المعنى في أربع سور من القرآن الكريم، تمشيا مع روح الاسلام العامة التي هي روح اليسر الذي لا يشوبه عسر، والتخفيف الذي وضع به عن الأمة الآصار والأغلال التي كانت على من قبلها من الأمم، وصدق الله العظيم: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) «البقرة: 185».

(ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) «المائدة: 6». (يريد الله ان يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) «النساء: 28».

أما الدكتور وهبة الزحيلي الاستاذ في كلية الشريعة بجامعة دمشق وعضو المجمع، فقد قدم بحثا حول «حكم استعمال الدواء المشتمل على شيء من نجس العين كالخنزير وله بديل أقل منه فائدة، حيث أكد أن الاسلام الحنيف الخالد يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين الالتزام بتعاليمه العامة وبين الواقعية أو السماحة، فهو يراعي ظروف الحياة وأوضاع التطور، ويقدر ما يقدمه العلم والاكتشاف العلمي للبشرية من اجل الحفاظ على البنية أو الصحة الانسانية، ومراعاة الظروف الاجتماعية وتطوراتها لعلاج الأمراض، والتخلص من ظاهرة الألم بقدر الإمكان. لذا كان الأصل العام هو التمسك بنصوص الشريعة العامة، مع الأخذ بالاحكام الاستثنائية أو الاضطرارية ضمن ضوابط الضرورة المقررة شرعاً والمأذون بها في خمس آيات من سورة البقرة 173، والمائدة 3، والأنعام 119، و 145، والنحل 115.

ونص الآية الأولى على سبيل المثال: (انما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم). وهذا الاتجاه ينطبق على مقتضيات التوسع العلمي في مجال الصناعات الغذائية والدوائية، في المصانع الغربية الضخمة وأمثالها، بالاعتماد على التركيبات الكيميائية، واضافة بعض المحرمات اليها في شرعنا من النجاسات المختلفة أو المحظور تناولها، ومنها الكحول والخمور وشحوم الخنازير، وقد تتعين هذه الأدوية فلا يوجد لها بديل، وقد يتوافر بديل مساو لها في المنفعة أو أقل منها فائدة، مثل دواء الهيبارين المشتمل على شيء من نجس العين باستخدام أمعاء الخنزير مصدراً رئيسياً لتحضير هذا الدواء، وهو تحضير الهيبارينات العادية، ثم تحويلها بتأثير التحطيم الجزئي الى هيبارينات ذات وزن جزيئي منخفض وهو الهيبارينات الجديدة، لعلاج الخثرات الدموية وجراحة الأوعية الدموية، والوقاية من التخثر في الأوردة العميقة، وعلاج آفات القلب الإكليلية والذبحة الصدرية غير المستقرة، واحتشاء عضلة القلب الحاد، واستطبابات كثيرة اخرى.

التزام أحكام الضرورة الشرعية في تناول الدواء المشوب بمحرم شرعاً: الحكم الشرعي العام هو الواجب تطبيقه بصفة عامة في الاحوال العادية، فهو بمثابة «العزيمة» وهي الاحكام الكلية المشروعة ابتداء لتكون قانوناً عاماً لكل المكلفين في جميع الاحوال كاحكام العبادات الأساسية، وقواعد المعاملات الاساسية، واحكام الحدود والقصاص.

ولا يلجأ الى الرخصة أو الاحكام الاستثنائية إلا في احوال خاصة لا دائمة ولا عامة، لأن الرخصة هي: الاحكام التي شرعها الله تعالى بناء على اعذار العباد، رعاية لحاجتهم، مع بقاء السبب الموجب للحكم الاصلي، مثل رخص السفر والمرض وأكل المضطر أو شرب العطشان. ما هو محرم شرعاً عند ضرورة انقاذ الحياة من الموت أو الهلاك جوعاً أو عطشاً، ولا بديل من الحلال في ظرف معين كالوجود في الصحراء أو غصة الطعام، وقد تكون الحاجة مثل الضرورة، علماً بأن الضرورة أشد باعثاً أو دافعاً من الحاجة، لأن الضرورة يترتب على مخالفتها احتمال الوقوع في خطر الهلاك، واما الحاجة فيترتب على مخالفتها الوقوع في المشقة.

فمن قواعد الضرورة ما يأتي:

1 ـ ان يقتصر الشخص فيما يباح تناوله للضرورة في رأي جمهور الفقهاء على الحد الأدنى أو القدر اللازم لدفع الضرر، لأن إباحة الحرام ضرورة و«الضرورة تقدر بقدرها» ومثلها «الحاجة تقدر بقدرها».

2 ـ أن يصف الحرام ـ في حالة ضرورة الدواء ـ طبيب مسلم عدل ثقة في دينه وعلمه، وبشرط الا يوجد بديل آخر من الادوية المباحة شرعا، يقوم مقام الحرام، ويحقق الشفاء المطلوب، تطبيقاً للحكم الشرعي وهو: أن يكون ارتكاب الحرام متعيناً لا مفر منه.

3 ـ يحل للمضطر أو المحتاج تناول أي شيء من الحرام، سواء كان ذلك للغذاء أو الدواء، دفعاً للضرر، وحفظاً للصحة، وصوناً عن الهلاك، اذا كان الجوع الذي لا يجد معه الجائع شيئاً يسد رمقه إلا المحرم، أو كان المرض لا علاج له إلا الدواء المخلوط بحرام، لأن الضرورة ومثلها الحاجة المتعينة تبيح تناول شيء من جميع المحرمات والمطعومات والأشربة، لعموم الآية الكريمة: «وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلاّ ما اضطُررتُم إليه» (الأنعام: 119). يوضح ذلك ما قاله ابن رشد «الحفيد»: إذا لم يجد المضطر شيئاً حلالاً يتغذى به، جاز له استعمال المحرمات في حال الاضطرار، ولا خلاف في ضرورة التغذي. أي وضرورة التداوي حفاظاً على النفس كضرورة الغذاء تماماً، ومن المعلوم في القواعد الشرعية الكلية: «الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة» (م32 من المجلة)، والمراد بالخصوص: ما تحتاجه فئة أو طائفة معينة كأهل حرفة أو صناعة.

* التداوي بالخمر

* التداوي بالخمر على طبيعتها من غير استحالة (تحول): هذا مثال واضح يبين مدى مشروعية التداوي بالحرام، ومن أهم الأمثلة: الخمر والخنزير، فعلى الرغم مما قرره أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم، من تحريم الانتفاع بالخمر للمداواة وغيرها، كاستخدامها في دهن أو طعام أو بلّ طين، عملاً بالحديث النبوي: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم). فإن فقهاء الحنفية قالوا: يجوز التداوي بالمحرّم إن علم يقيناً أن فيه شفاء، ولا يقوم غيره مقامه، أما بالظن فلا يجوز، وقول الطبيب الواحد لا يحصل به العلم (أي اليقين)، ولحم الخنزير لا يرخص التداوي به، وإن تعين، ويرخص شرب الخمر للعطشان، وأكل الميتة في المجاعة إذا تحقق الهلاك، ولا بأس بشرب ما يذهب بالعقل، فيقطع الأكِلة ونحوه».

وقيد الشافعية حرمة التداوي بالخمر بما إذا كانت صرفاً غير ممزوجة بشيء آخر تستهلك فيه، أما الترياق المعجون بها مما تستهلك فيه، فيجوز التداوي به عند فقد ما يقوم به، مما يحصل به التداوي من الطاهرات، كالتداوي بنجس كلحم حيّة وبول، وكذا يجوز التداوي بما ذكر لتعجيل شفاء بشرط إخبار طبيب مسلم عدم بذلك أو معرفته للتداوي به، وبشرط أن يكون القدر المستعمل قليلاً لا يسكر.

وقال العز بن عبد السلام: جاز التداوي بالنجاسات إذا لم يجد طاهراً يقوم مقامها، لأن مصلحة العافية والسلامة أكمل من مصلحة اجتناب النجاسة، ولا يجوز التداوي بالخمر على الأصح، إلا إذا علم أن الشفاء يحصل بها، ولم يجد دواء غيرها.

وأجاز الحنابلة شرب الخمر لعطش إذا كانت ممزوجة بما يروي من العطش، فإن شربها صرفاً أو ممزوجة بشيء يسير لا يروي من العطش، لم يبح له ذلك، وعليه عقوبة الحد المقررة. وأباح الشيعة الإمامية استعمال الخمر للضرورة مطلقاً، وللدواء كالترياق والاكتحال، لعموم الآية الدالة على جواز تناول المضطر إليه. وقرر جماعة من الزيدية الحكم بقولهم: الأقرب جواز التداوي بالخمر، حيث خشي المريض التلف، أو تلف عضو منه، وقطع بحصول البرء بذلك، إذ هو حينئذ كمن غص بلقمة، فإن لم يقطع بالشفاء لم يجز، إذ الخبر يقتضي ان لا شفاء به، فيبطل ظن حصول الشفاء. وقال جماعة من المالكية: من اضطر إلى خمر: فإن كان بإكراه، شُرب بلا خلاف، وإن كان لجوع أو عطش، فلا يشرب. وبه قال مالك في العتبية وقال: لا يزيده الخمر إلا عطشاً، وحجته أن الله تعالى حرّم الخمر مطلقاً، وحرم الميتة بشرط عدم الضرورة. وقال أبو بكر الأبهري: إن ردت الخمر عنه جوعاً أو عطشاً، اشربها، وقد قال الله تعالى في الخنزير: إنه (رجس)، فتدخُل في إباحة الخنزير للضرورة، بالمعنى الجلي، الذي هو أقوى من القياس، ولا بد أن تروي ولو ساعة، وتردّ الجوع ولو مدة. فإن غص الآكل بلقمة، فهل يسيغها بخمر أو لا؟ قيل: لا يسيغها بالخمر مخافة ان يدعي ذلك، وقال ابن حبيب من المالكية: يسيغها لأنها حالة ضرورة.

وأبان ابن العربي الرأي الراجح في الانتفاع بالخمر عند المالكية، فقال: والصحيح أنه سبحانه حرّم الميتة والدم ولحم الخنزير أعياناً مخصوصة، في أوقات مخصوصة، ثم دخل التخصيص بالدليل في بعض الأعيان، وتطرق التخصيص بالنص إلى بعض الأوقات والأحوال، فقال الله تعالى: (فمَنِ اضطُّرّ غير باغٍ ولا عادٍ)، فرفعت الضرورة التحريم، ودخل التخصيص أيضاً بحال الضرورة إلى حال تحريم الخمر لوجهين:

أحدهما: حملاً على هذا بالدليل، كما تقدم من أنه محرم، فأباحته الضرورة كالميتة.

والثاني: أن من يقول: إن تحريم الخمر لا يحل بالضرورة، ذكر انها لا تزيده إلا عطشاً، ولا تدفع عنه شبعاً، فإن صح ما ذكره كانت حراماً، وإن لم يصح ـ وهو الظاهر ـ أباحتها الضرورة كسائر المحرّمات.

وأما الغاصّ بلقمة: فإنه يجوز له في ما بينه وبين الله تعالى، وأما في ما بيننا فإن شهدناه، فلا يخفى بقرائن الحال صورة الغصة من غيرها، فيصدق إذا ظهر ذلك، وإن لم يظهر حددناه ظاهراً، وسلم من العقوبة عند الله تعالى باطناً.

وقال القرطبي بعد أن ذكر آراء العلماء في التداوي بالخمر: ان الأحاديث التي تمنع التداوي بالخمر، يحتمل أن تقيد بحال الاضطرار، فإنه يجوز التداوي بالسم ولا يجوز شربه.

ويتبين من هذه النقول في المذاهب المختلفة، ان استعمال الكحول ومشتقاته على الطبيعة من غير استعماله في الأدوية جائز للضرورة عند أكثر العلماء، لأنه لا بد منه لإذابة الدواء. وإذا كان السُّكر اضطرارياً كما في حالة العلاج الطبي أو حال الخطأ في تناول شيء كعصير فاكهة، فلا عقاب شرعاً على السكران. أما في حالة السكر الاختياري، فيعاقب السكران على كل الجرائم التي يرتكبها. وفي كل الأحوال، يسأل السكران مدنياً بدفع التعويض عما ارتكبه في أثناء سكره، سواء أكان اضطرارياً أم اختيارياً.

* الاستحالة وضوابطها الشرعية

* بيان معنى الاستحالة وضوابطها الشرعية: لكلمة الاستحالة في اللغة العربية معنيان:

الأول: عدم الإمكان، فيقال: هذا شيء مستحيل، أي باطل غير ممكن الوقوع، وليس له هنا مناسبة، لتعلقه بالمنطق والفلسفة في تقسيم الأشياء إلى جائز (ممكن) ومستحيل، وواجب.

والثاني: تغير الشيء عن طبعه ووصفه، أي تغير الذات والصفات والاسم، وهذا المعنى هو المتعلق بهذا البحث، وهو واضح في بيان تبدل حقيقة الشيء وصورته النوعية إلى شيء آخر أو نوع آخر. والمراد بالاستحالة في الاصطلاح الفقهي هنا، هو ذات المعنى اللغوي، أي تحول الشيء وتغيره عن وصفه، ويعبر الفقهاء عنه بمناسبة استحالة الأعيان النجسة، كالعذِرة والخمر والخنزير، فإنها قد تتحول عن أعيانها أو ذواتها وتتغير أوصافها بالتخليل أو الاحتراق أو الوقوع في شيء طاهر، كالخنزير الذي يقع في الملاحة، فيصير ملحاً.

وقد ذكر العلامة ابن عابدين الحنفي نيفاً وثلاثين مطهراً، منها انقلاب حقيقة الأعيان بانتفاء بعض أجزاء مفهومها أو كلها، كانقلاب الخنزير ملحاً، وجعل الزيت المتنجس صابوناً، وتخلل الخمر بنفسها أو تخليلها بواسطة أو بإلقاء شيء فيها، قال الكمال بن الهمام في فتح القدير: ولو صب ماء في خمر أو بالعكس، ثم صار خلاً طهر في الصحيح.

وهذا المعنى ينطبق أيضاً على التفاعلات الكيميائية التي تحوِّل المادة إلى مركب آخر، فهي استحالة العين إلى عين أخرى.

وتكون ضوابط الاستحالة ما يأتي:

1 ـ تغير حقيقة الشيء وتحوله إلى مادة أخرى مغايرة للأصل في الاسم أو الذات، والخصائص أو الصفات.

2 ـ لم يبق لأصل الشيء وجود مادي بطبيعته، إنما تحولت أجزاؤه وتغيرت صفاته، والتغير مطهر عند محمد بن الحسن من الحنفية خلافاً لأبي يوسف، والعلة هي التغيير وانقلاب حقيقة الشيء، كتغير الخمر وصيرورتها خلاً، وصيرورة العذِرة رماداً، وتحول الزيت النجس إلى صابون، فهو انقلاب حقيقة الى حقيقة اخرى، وهو المفتى به عند الحنفية لعموم البلوى، واختاره أكثر المشايخ خلافاً لأبي يوسف، كما قال ابن عابدين، وأضاف قائلا: ومقتضاه: عدم اختصاص ذلك الحكم بالصابون الذي صنع من زيت نجس، فيدخل فيه كل ما كان فيه تغير وانقلاب حقيقة، وكان فيه بلوى عامة، فيقال كذلك في الدبس المطبوخ اذا كان زبيبه متنجساً، لا سيما ان الفأر يدخله، فيبول ويبعر فيه وقد يموت فيه.

وقد بحث كذلك بعض شيوخ مشايخنا فقال: وعلى هذا اذا تنجس السمسم ثم صار طحينة يطهر، خصوصاً وقد عمت به البلوى، وقاسه على ما اذا وقع عصفور في بئر، حتى صار طيناً، لا يلزم إخراجه لاستحالته.

فكل ذلك انقلاب حقيقة إلى حقيقة أخرى، لا مجرد انقلاب وصف، أي ان الذات تغيرت، وإن استحالت من شيء آخر.

توصيف مدى الحاجة إلى ادخال بعض الأطعمة المحرمة في شرعنا في المنتجات الغذائية والدوائية: لجأت بعض المصانع الغذائية في الشرق والغرب لاستخدام بعض المواد المحرمة أو النجسة في شرعنا في صناعة أنواع مختلفة من المواد الغذائية والمستحضرات الدوائية، ومن أمثلة هذه المواد المحرمة أو النجسة، ما يأتي:

1 ـ الاعتماد على لحم الخنزير وشحمه وجلده، وبعض دهون الحيوانات الميتة وعظامها الرخيصة الكلفة في الأطعمة المعلبة والجيلاتين والأجبان (بالمنفحة) والمربيات والعلكة والكراميل، والأسماك والدهون الحيوانية، والخبز والكعك والبسكويت والشوكولاته والفطائر والشوربة، سواء في أميركا أو أوروبا.

2 ـ استخدام جلد الخنزير في تصنيع الصابون والمنظفات والغليسرين والحلويات كالتوفي والآيس كريم وفي الصناعات الدوائية الطبية، والمستحضرات الإنزيمية العلاجية، والهورمونات المستخلصة من الخنزير.

3 ـ الاعتماد على شحم الخنزير ولحمه في تحضير الانسولين لمعالجة مرضى السكري، واستخراج الببسين من الميتة أو من الخنزير.

4 ـ دخول الكحول في بعض الأدوية، لا سيما أدوية السعال.

5 ـ استعمال الدم وبقايا اللحوم والعظام من الخنزير وغيره من الميتات في إنتاج أعلاف الدواجن وغيرها.

6 ـ تصنيع الدم الناتج من الحيوانات المذبوحة في معلبات مأكولة.

7 ـ تستورد أمريكا الآن اشعار الآدميين من الهند لإدخال البروتين المستخرج منها في دقيقة (طحين) الخبز الأبيض.

8 ـ سقاية النباتات وتغذيتها بالنجاسات كالأرواث والدماء والمياه الملوثة وما فيها من سموم واضرار، تخل بتوازن التربة وتسمم النبات وتمرضه.

وذلك كله بحجة زيادة الإنتاج وتوفير الغذاء للجائعين، وتحقيق أنواع الترف، مع الربح السريع، وقلة التكاليف وغير ذلك من الدوافع غير الإنسانية في الواقع. هذه الطفرة بالاعتماد على ما هو محرم في شرعنا، هل يعدّ ذلك مجرد تجزئة لهذه المواد، او انه يحدث بالفعل تفاعل كيمياوي يغيّر حقيقة المواد ويحوّلها الى مواد أخرى؟، وبالتالي يمكن انطباق صفة الاستحالة الشرعية التي ذكرها فقهاء الحنفية ومن وافقهم، لا بد في الإجابة عن هذا من التأكد السريع والجاد من أهل الخبرة وتحليل المخابر للمادة.

فإذا كانت العملية مجرد تفكيك التركيب وتجزئة المادة الأصلية وبقاء التركيب السابق في وضعه الطبيعي، فلا يعد هذا استحالة، لأن مجرد التحلل الجزئي لروابط المادة وتغيرها من شحم خنزير إلى جيلاتين أو شوكولاته لا يسوغ الإباحة. وأما اذا تغير التركيب الأساسي للمادة الأصلية، فيمكن القول بالإباحة بعد التخلص من المواد الشائبة.

وينبغي المبادرة الى القول: إن مجرد الطبخ مع مادة اخرى، أو تحليل جزيئات الدهون إلى مكوناتها، لا يعد مسوغاً للقول بالإباحة، إنما لا بد من تغير التركيب الكيمياوي للدهون، فدهن الخنزير المكرر مثلاً يبقى محتفظاً برائحة خاصة تظهر عند تسخينه من دون تنقيته من الاحماض الدهنية ومن دون تغيير التركيب الخاص بهذا الدهن الحرام في ذاته أو عينه، وحينئذ لا يباح هذا الدهن، حتى ان اتخذ شكلاً أو صفة اخرى، مع بقاء تركيب المادة الأصلي. وبعبارة أخرى: هل يقبل عقلاً وشرعاً القول بإباحة شحم الخنزير ولحمه إذا تحول إلى شوكولاته ونحوها مثلا؟، علماً بأن هذا التحول مجرد اضافة مواد اخرى إلى الشحم أو اللحم، فتجعل له طعماً جديداً أو مذاقاً جديداً، كاضافة المقبِّلات أو البهارات والفلفل إلى الطعام، فيجعل له شهية وقبولاً، أي ان تغير الصفات من غير تغير الطبيعة والذات لا يجيز تناول هذا الشيء المتغير شكلاً، إلا إذا كانت هناك ضرورة علاجية بضوابطها المقررة والمعروفة شرعاً، كما أوضحت سابقاً.