أيام فقهية في مكة المكرمة (9): المجمع الفقهي في رابطة العالم الإسلامي يوصي الحكومات والمؤسسات الإسلامية بنشر الوعي بأهمية الفحوص الطبية قبل الزواج والتشجيع على إجرائها

مجلس المجمع يدعو إلى تيسير الفحوص الطبية قبل الزواج للراغبين فيها وجعلها سرية لا تُفشى إلا لأصحابها المباشرين

TT

كان من ابرز موضوعات المستجدات الفقهية التي ناقشها مجلس المجمع الفقهي الاسلامي التابع لرابطة العالم الاسلامي في دورته السابعة عشرة في مكة المكرمة خلال الفترة من 19 ـ 23 شوال 1424هـ الموافق 13 ـ 17 ديسمبر (كانون الاول) 2003، هو موضوع امراض الدم الوراثية، حيث قُدم فيه بحثان. ورفض المجلس اباحة مسألة الالزام بالفحوص الطبية قبل الزواج، مشيرا الى انه امر غير جائز لأنه يعد فتح باب للزيادة على ما جاء به الشرع، موضحا ان عقد النكاح من العقود التي تولى الشارع الحكيم وضع شروطها، ورتب عليها آثارها الشرعية، الا ان المجمع اوصى الحكومات والمؤسسات الاسلامية بنشر الوعي بأهمية الفحوص الطبية قبل الزواج، والتشجيع على اجرائها وجعلها سرية لا تفشى الا لأصحابها المباشرين.

قدم الدكتور نصر فريد واصل مفتي مصر الأسبق وعضو المجمع الفقهي الاسلامي بحثا حول «مدى مشروعية توقف توثيق عقد الزواج الشرعي في الوثائق الرسمية المعدة لذلك على شهادة أهل الاختصاص الطبي بخلو الزوجين أو أحدهما من الأمراض الوراثية، حيث جاء في البحث انه لما كانت الاسرة هي نواة المجتمع وبصلاحها يصلح المجتمع وبفسادها يفسد، فقد اهتم الاسلام بتكوينها تكوينا تتحقق معه قوة المجتمع ورخاؤه واستخلافه للارض التي يعيش فيها، فوضع من الاسس والنظم الصالح لذلك ما يكفل لها تمام تكوينها واكتمال بنيانها وقوة اركانها لينشأ المجتمع الانساني قويا متماسكا يحقق الخير والسعادة والرفاهية المادية والمعنوية لنفسه ولغيره، وذلك لأن المجتمع البشري والانساني بطبيعته كائن اجتماعي جبل على العيش مع بني جنسه ولا وجود له على الوجه الاكمل الذي تتحقق معه هذه الخلافة إلا بهذا الطريق الذي يحقق تبادل المنافع في الحياة والخير للجميع، ويجعل الناس فيما بينهم بعضهم لبعض خدما في كل مجالات هذه الحياة، ولذلك يقول الشاعر العربي في هذا المعنى: الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم والى ذلك يشير قوله تعالى: (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون) «الزخرف: 32».

ونظرا لأن الاسرة هي نواة المجتمع وعليها فلكه ومداره وبها قوته او ضعفه وغناه او فقره وصحته او مرضه وسعادته او شقاؤه، فقد اهتم الاسلام بهذه الاسرة غاية الاهتمام واقامها على اسس صلبة قوية من الناحية المادية والمعنوية واهتم بكل السبل والوسائل التي تحقق المصلحة.

هذه القوة وتلك الاستقامة البدنية والنفسية، والى ذلك يشير قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) «التين: 4» وقوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) «المؤمنون: 12 ـ 14». وقوله صلى الله عليه وسلم (المؤمن القوي خير واحب الى الله من المؤمن الضعيف) لهذا فقد شاءت قدرة الله وحكمته ان يكون خلق الله الأنثى من ذات الانسان الذكر الذي خلقه وسواه وكان برعايته بعد خلقه في أحسن تقويم من الناحية البدنية والروحية والنفسية وتبارك الله احسن الخالقين، وذلك ليتم نعمته خليفته من خلقه الذكر والانثى على حد سواء، فتتحقق القوة البدنية لهما معا وان تفاوتت بينهما، كما تتحقق القوة الروحية لهما معا من خلال نعمة التزاوج بينهما والسكينة التي خلقت لهما وامتزجت بهما فكانت مودة دائمة ورحمة بينهما والى هذا يشير قوله تعالى: (ومن آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة) «الروم: 21»، وبهذا السكن وتلك المودة والرحمة بين الزوجين تتحقق الصحة النفسية وتستمر بين الزوجين الرجل والمرأة معا وتتحقق معها صحة الاسرة كلها افرادا وجماعات مادية كانت او معنوية بين الذكور والاناث والنساء والرجال على حد سواء.

ولا تتحقق صحة الاسرة من الناحية المادية والنفسية الا بمراعاة الضوابط والقواعد التي أمر بها الاسلام في هذا الاختيار الاسري، واذا كانت الصحة البدنية ضرورية لتكوين الاسرة، فإن الصحة النفسية لا غنى عنها ايضا لأنها ضرورية لاستمرار كيانها ودوام حياتها على الوجه الاكمل الذي لا بد منه لاستمرار الحياة الاجتماعية كلها لتحقيق الخلافة الشرعية التي ارادها الله لبني الانسان في هذه الحياة.

* قاعدة الاختيار

وكلما كانت قاعدة الاختيار في تكوين الاسرة قائمة على اساس ديني وشرعي سليم كانت الصحة النفسية في احسن حالاتها وتمام كمالها، ولذلك حث الاسلام على تقديم الجانب الديني والخلقي على غيره من الجوانب الاخرى عند ارادة الاختيار في تكوين الاسرة وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم (اذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الارض وفساد كبير). ولعل في سبب الحث على هذا الاختيار الذي يشير اليه صلى الله عليه وسلم (انه ان احبها اكرمها وان ابغضها لم يظلمها) وفي الحث على تزوج المرأة ذات الدين والخلق يقول صلى الله عليه وسلم (تنكح المرأة لاربع لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك). فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على التمسك بصاحبة الدين والخلق، وان كان في نظر الناس عند الاختيار في آخر الدرجات والترتيب، حيث بين صلى الله عليه وسلم ان الحرص عليه فيه غنى لصاحب الاختيار في الدين والدنيا.

بل، عند مراعاة الجانب الديني في اختيار الاسرة نجد هذا النموذج الذي لا يجد صعوبة في تعديل رغبته عندما يظهر له خطؤه في قاعدة الاختيار وقد وجد صعوبة الحياة الاسرية في ظل هذا الاختيار غير الموفق. فقد جاءت امرأة ثابت بن قيس الى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت يا رسول الله: ان زوجي لا اعيب عليه في خلق ولا دين، ولكنني اكره الكفر في الاسلام ـ حيث كان اسود اللون ـ وكانت لا تحب العيش معه، ولكنها كانت تقوم بكل حقوقه وواجباته الزوجية وتطيعه طاعة شرعية، ولكنها كانت تخشى من تقصيرها في هذه الحقوق بسبب بغضها للونه وبشرته وعدم امتزاجها معه روحيا كما تشير الآية الكريمة في السكن والمودة وكما في قوله صلى الله عليه وسلم (لو أمرت احدا ان يسجد لغير الله لأمرت الزوجة ان تسجد لزوجها) وعندما عرض النبي صلى الله عليه وسلم أمر هذه الزوجة على زوجها لم يماطل في تحقيق رغبتها وطلاقها وقد رضيت بأن ترد عليه صداقها حديقته التي اصدقها اياها فقد قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم لثابت: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة. فطلقها ثابت على ذلك وهو اول خلع في الاسلام.

* التفقه في الدين

وقد حث الاسلام على التفقه في الدين في امور الحياة حتى يكون الناس في شؤون دنياهم محققين الخير لأمتهم ولابناء جنسهم بما يوفر الخير والامن والامان للفرد والاسرة ولكل المجتمع في كل زمان وفي اي مكان من خلال النفس او من خلال الغير اجتهادا او تقليدا ويدل على ذلك قوله تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون) «التوبة: 122» وقوله صلى الله عليه وسلم: (لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد) وقوله صلى الله عليه وسلم: (اذا اجتهد الحاكم فأصاب فله اجران وان اجتهد فأخطأ فله اجر واحد).

والفقه الديني مطلوب في كل الفنون والعلوم حتى يكون الانسان عند الاقدام على اي امر من الامور التي يمارسها في الحياة على بينة من امر دينه، وانه يطيع الله فيه ولا يقع في المحظور او الحرام، وانه دائما على طريق الحق والصواب في كل الاعمال التي تحقق الخير لنفسه ولغيره من بني الانسان وانه معهم جميعا يتعاونون في عمارة الكون وفي تحقيق الخلافة الشرعية التي كلف الله بها الانسان في كل زمان وفي كل مكان، وجعلها امانا بينهم جميعا والى ان يشاء الله الرحيم والى ان يرث الله الارض ومن عليها.

وكما حرص الاسلام على صحة الاسرة التي هي نواة المجتمع بدنيا فقد حرص عليها ايضا نفسيا، وامر صلى الله عليه وسلم بالتداوي لكل داء فقال صلى الله عليه وسلم: (ان الله خلق الداء وخلق له الدواء فتداووا عباد الله ولا تداووا بحرام).

* الأمراض الوراثية

هي مجموعة من الامراض لها نظام معين في التوارث في اسرة ما لعدة اجيال، ويكون سببها عيبا في تركيب الكروموسومات او الجينات، او عيبا في الوظيفة النهائية الناتجة للجين. وتحتل الامراض الوراثية اهمية كبيرة في المجال الطبي حيث تصيب حوالي %2 على الاقل من الاطفال حديثي الولادة، ويرجع السبب في %50 من حالات الاجهاض التلقائي الى عيوب وراثية، وايضا تمثل العيوب الجينية حوالي %50 من حالات الصمم والعمى والاعاقة الذهنية، وفي احصائيات وفيات الاطفال وجد ان حوالي 40 الى %50 من الوفيات يرجع سببها الى الامراض المعروفة، والاكثر من ذلك فإن حوالي %10 من الاورام المعروفة مثل سرطان الثدي والمبيض والقولون لها صلة مباشرة بعيوب الجينات وتصنف العيوب الجينية الى الانواع التالية:

1 ـ امراض الجين الواحد: وهي امراض عديدة ولها نظام معروف في التوارث ولها خطورة عالية في الانتقال في الاقارب.

2 ـ امراض متعددة العوامل: وهي امراض معروفة، ولكن ليس لها نظام معروف في التوارث كما ان خطورة انتقالها في الاقارب متوسطة.

3 ـ امراض عيوب الكروموسومات: وهي غالبا نادرة وليس لها نظام معروف في التوارث ودرجة خطورتها في الانتقال في الاقارب محدودة.

4 ـ أمراض بسبب الطفرات: تمثل حالات متفرقة من الاورام المختلفة ـ معدل انتشار الأمراض الوراثية ـ أمراض الجين الواحد: النوع السائد معدل انتشاره 2 ـ 10 لكل ألف ـ النوع المتنحي معدل انتشاره 2 لكل ألف.

* الاعتلالات الوراثية

اما الدكتور محسن بن علي فارس الحازمي استاذ الكيمياء الحيوية الطبية والوراثة المزمنة في كلية الطب بجامعة الملك سعود بالرياض والخبير في المجمع، فقد قدم بحثا عن «امراض الدم الوراثية ـ حقائق علمية عن امراض مزمنة ومعقدة»، حيث تناول فيه التركيب الوراثي لخلية الانسان: يتكون جسم الانسان من ملايين الخلايا التي تتمايز لتكوين انسجة واعضاء الجسم المختلفة التي تقوم بوظائف محددة لكل منها. تحتوي كل خلية على نواة بها المادة الوراثية التي تتحكم في وظيفة الخلية وانقسامها (خلايا الدم الحمراء في الانسان لا تحتوي على انوية). تتكون المادة الوراثية (شكل 1) من الكروموسومات (الصبغيات) والتي يبلغ عددها 22 زوجا من الصبغيات البدنية Autosomes وزوجا واحدا من الصبغيات الجنسية Sex Chromosomes التي تحدد جنس الفرد ذكرا XY أم انثى XX.

تتكون الكروموسومات من الحمض النووي والبروتينات (القاعدية والحمضية) ويحتوي الحمض النووي على المورثات Genes التي توجد في نواة الخلية ويبلغ عددها نحو 32 مورثة وتوجد على هيئة مجموعات من القواعد النيتروجينية التي يبلغ عددها 1201X3 ويبلغ طول الحمض النووي منزوع الاوكسجين حوالي 1.6 متر.

الأمراض الوراثية: تعرف الامراض الوراثية بـأنها مجموعة غير متجانسة من الامراض المزمنة ذات الاعراض الصحية المستعصية على العلاج الناجع، يتم توارثها من الوالدين الى الابناء والبنات عن طريق تناسل المادة الوراثية (الحقيبة الوراثية) وتمثل طيفا عريضا من الامراض يكون في احد طرفيها اعتلال المادة الوراثية بنسبة ضئيلة وفيها تكوِّن العوامل المعدية النسبة الغالبة وفي الجانب الآخر تمثل الاعتلالات الوراثية الغالبية العظمى للاسباب المرضية.

ونورد فيما يلي امثلة للاعتلالات الوراثية المختلفة وانواعها: الاعتلالات الولادية: هي اعتلالات تركيبية او وظيفية تحدث نتيجة لعوامل متعددة قبل او اثناء الحمل وتشمل جميع الاعتلالات الوراثية التي قد تكون مصحوبة بعيوب خلقية.

العيوب الخلقية: هي عبارة عن عيوب تركيبية تظهر عند الولادة او تصبح ظاهرة اكلينيكية بعد ايام او شهور او حتى سنوات من الولادة.

الاعتلالات الوراثية: هي اعتلالات تعبر عن خلل في الحامض النووي (د. ن. أ) مما يؤدي الى ظهور حالات مرضية وتتميز هذه الاعتلالات بامكانية توارثها من الوالدين الى الابناء والبنات وهي على عدة انواع.

انواع الاعتلالات الوراثية: 1 ـ اعتلالات تركيبية: تحدث نتيجة لحيود الصبغيات عن عددها المعروف بست واربعين صبغية في الخلية البشرية. 2 ـ اعتلالات المورثة المفردة: منها النوع الذي يحمل طفرات اعتلالية وحيدة القاعدة، او تلك التي فقدت بعض تركيبات المورثات كليا او جزئيا. 3 ـ طفرة الخلية الجسدية: تنشأ عن طفرة تحدث للخلايا الجسدية والمسؤولة عن تكوين جميع الانسجة غير الجنينية بالجسم، وتتميز بعدم انتقالها الى الاجيال القادمة بواسطة طرق جنسية، ومن امثلتها الاورام الخبيثة التي تحدث نتيجة لطفرة في احد المورثات المسؤولة عن انقسام الخلايا، وينتج عنه انقسام مستمر لا يمكن التحكم فيه، وبالتالي تكوين الاورام السرطانية. 4 ـ الاعتلالات عديدة المسببات: تنشأ عن تفاعلات بيئية مع مكونات وراثية معتلة، وعادة ما تحدث في مرحلة متأخرة من العمر. 5 ـ اعتلالات المتقدرات (الميتوكوندريا): تدخل المتقدرات ضمن التركيب الاساسي للخلايا، وتحتوي على 37 مورثة تختص بانتاج بروتينات تتعلق بعملية التنفس الخلوي لانتاج الطاقة اللازمة لاتمام العمليات الحيوية بالخلية، ويتم توارث اعتلالات هذه المورثات عن طريق الأم للأبناء والبنات، وذلك لكونها توجد في سائل البويضة من الأم، ومن امثلة الاعتلالات العمى الليلي، وضمور ليبر البصري.

كيفية نشوء الأمراض الوراثية: تنشأ الامراض الوراثية نتيجة طفرات في الحمض النووي تختلف انواعها وتأثيراتها، وتنعكس هذه الطفرات في بناء منتجاتها البروتينية وبالتالي وظائفها الحيوية مما يؤدي الى ظهور الاعراض.

كيفية توارث أمراض الدم الوراثية: يتم توارث الصفات المتنحية من الآباء والامهات، وينعكس النمط الجيني كمرض في النمط الظاهري في حالة تماثل المورثات كجينات معتلة. وتتنحى فيه الصفة المعتلة في النمط الظاهري فلا تظهر كمرض (حيث تغلب عليها الصفة السائدة السليمة التي توجد معها).

ويعود هذا النمط في التوارث للصفات في مرحلة زوجيات الصبغيات الثلاثة والعشرين الموجودة لدى الأم (في البويضة) والأب (في الحيوان المنوي)، فإن تم التلقيح بين الامشاج الذكرية (الحيوان المنوي) والانثوية (البويضة) الحاملين للمورثات المعتلة، كان نتاج ذلك وليدا معتلا (مريضا)، لوجود المورثات المعتلة وغياب المورثات الصحيحة لديه.

حجم وتأثير مشكلة الامراض الوراثية: ادت برامج الوقاية والتحكم في الامراض المعدية في النصف الاول من القرن الماضي، ونتيجة استخدام المضادات الحيوية الى السيطرة على معظم الامراض المعدية، وبالتالي برزت الامراض غير المعدية ومنها الامراض الوراثية، وتعددت اوجه ووسائل التشخيص الطبية، فانخفضت نسبة الامراض المعدية، وفي الوقت ذاته ارتفعت نسبة اكتشاف الامراض الوراثية واصبحت تمثل حوالي %50 من نسبة اسباب الوفيات في الاطفال في الربع الثالث من القرن الماضي، بعد ان كانت %3 فقط في بدايته. واصبحت معضلة صحية واجتماعية واقتصادية كبرى، تواجه مختلف المجموعات البشرية في المجتمعات النامية والاكثر نموا على السواء ويوضح شكل (3) مدى التغير الذي حدث في نسبة الامراض الوراثية (غير المعدية) والامراض المعدية خلال القرن الماضي في الدول الاكثر نموا.

وتلعب الامراض الوراثية دورا مهما كأحد الاسباب الرئيسة لحدوث الامراض والوفيات بين الاطفال في البلدان النامية. كذلك وبصورة اكثر تأثيرا في مجتمعات هذه البلدان، ويتمثل ذلك في ارتفاع نسب الوفيات في الاطفال في الدول النامية بنسبة %50 مقارنة بالدول الاكثر نموا.

وترجع هذه الزيادة الواضحة عند المقارنة بين حجم وتأثير هذه المشكلة في كل من البلدان النامية والاكثر نموا لاسباب متعددة تميز البلدان النامية ويمكن تلخيصها فيما يلي: 1 ـ ازدياد معدلات تزاوج الاقارب 2 ـ القصور في الخدمات الطبية المقدمة للوقاية من حدوث الامراض المعدية في الحوامل والامهات 3 ـ ازدياد معدلات سوء التغذية بين النساء في فترة ما قبل واثناء الحمل 4 ـ زيادة معدلات الامراض الوراثية بصفة عامة نتيجة تفاعل عوامل وراثية وبيئية مختلفة. الأمراض الوراثية كمعضلة صحية: اظهرت الدراسات في مجال الامراض الوراثية ان هذه الامراض تمثل مشكلة صحية كبرى، بالنظر الى النسب الكبيرة للاعتلالات التي تعزى للاختلالات الوراثية ومن امثلة ذلك ما يلي:

50/1 مولود يعاني من مرض وراثي رئيس.

100/1 مولود مصاب او حامل لمرض وراثي احادي العامل المعتل.

200/1 مولود يعاني من اعتلال صبغي رئيس.

%60 من الاجهاض التلقائي ناتج عن اعتلالات صبغية.

6 ـ %7 من الولادات الميتة ناتجة عن اعتلالات صبغية.

100/2.5 اعتلالات صبغية جسدية متنحية.

100/50 اعتلالات صبغية جنسية.

وقد ينتج عن الامراض الوراثية ولادة اطفال يعانون من قصور او عجز اعاقة عن الاداء السوي للاعمال الجسمانية او العقلية، تختلف في شدتها ومضاعفاتها الصحية باختلاف مسبباتها وانواعها، وقد يسبب بعضها عاهات مستديمة وأمراضاً مزمنة مستعصية على العلاج والتأهيل.

أمراض الدم الوراثية كمعضلة اجتماعية ونفسية واقتصادية: من المعروف ان مشكلة امراض الدم الوراثية لا تقتصر على الجانب الصحي فقط، بل تتعدى ذلك الى الجانب الاجتماعي والنفسي والاقتصادي بالاضافة الى المضاعفات السلبية على المصاب نفسه واسرته ومجتمعه، حيث تطال جميع جوانب الحياة وتؤثر سلبا في جميع مناشطها بصفة عامة.

أمراض الدم الوراثية في الدول العربية: تكثر نسبة امراض الدم الوراثية في مختلف مجتمعات الدول العربية بصفة خاصة في المناطق التي كانت موبوءة بالملاريا، وتزداد نسبة حدوثها في منطقة البحر الابيض المتوسط نتيجة بعض العوامل الاجتماعية والبيئية التي تساعد على ازدياد معدلات الامراض الوراثية عن غيرها من البلدان الاخرى، ويأتي توطن الملاريا وزواج الاقارب في البيئة التي تكثر فيها اعتلالات الدم الوراثية في مقدمة هذه العوامل. الأمراض الوراثية الأكثر انتشارا بالبلدان العربية: تعتبر اعتلالات صبغة الدم المنجلية والاعتلالات الثلاسيمية والاعتلالات الانزيمية هي الاكثر شيوعا بين الاعتلالات الوراثية في البلدان العربية، في حين توجد الاعتلالات الوراثية الاخرى (متلازمة داون، التليف الحويصلي، اعتلال استقلاب الاحماض الامينية، نقص افراز الغدة الدرقية الخلقي..الخ.) بنسب متفاوتة.

* الوقاية من الأمراض الوراثية الكشف المبكر والتدخل المبكر: يعتبر الكشف عن الاعتلالات المرضية في مرحلة مبكرة والتدخل المبكر وسيلة فعالة للحد من المضاعفات المرضية، وكذا الكشف عن حاملي المورثات المعتلة واتخاذ الاجراءات الوقائية في ضوء ذلك. ومن الاهمية بمكان كذلك، تحديد مدى الضعف او القصور او الاعاقة لدى الطفل في مراحل مبكرة للتخفيف من وطأتها صحيا واجتماعيا ونفسيا على الاسرة، والتدخل المبكر من خلال الوسائل الملائمة للحالة كالعلاج الطبيعي او الجراحي او علاج النطق او العلاج النفسي، والعمل على اشراك الاسرة في جهود الرعاية والتأهيل.

أهمية الكشف المبكر والتدخل المبكر للحد من الأمراض المزمنة والمعقدة: تأتي برامج الفحص المبكر والتدخل العلاجي المبكر والاستشارة الوراثية الوقائية للحد من الامراض الوراثية والاعاقات في المجتمع كوسيلة فعالة لخدمة الجوانب الاجتماعية والصحــية والاقتــصادية ويتطلب ذلك المسـاهـمـة الفعالة من جميع فئات المجتـمع والقطاع العام، وعلى مختلف المســتويات لتؤتي الجهود المبذولة ووسائل وطرق الوقاية والحد من الاعاقة ثمارها المرجوة.

وبالنظر الى كون الامراض الوراثية امراضا مستعصية على العلاج الناجع، وسببا مباشرا للاعاقة، فإن ذلك يتطلب تشخيصا مبكرا ثم تدخلا مبكرا للتقليل من آثارها، ويكون ذلك حسب انماط العوامل المسببة للامراض وفي مراحل عمرية مناسبة تبعا لذلك منها:

1 ـ الفحص قبل الزواج 2 ـ الفحص اثناء الحمل 3 ـ الفحص عند الولادة 4 ـ الفحص خلال فترات المراجعة للتطعيم 5 ـ الفحص عند الالتحاق بالمدرسة 6 ـ الفحص عند الالتحاق بالجامعة.

مراحل اجراء التشخيص المبكر للأمراض الوراثية بصفة عامة: ادى تفسير تركيب المادة الوراثية (الصبغيات والاحماض النووية) الى احراز تقدم علمي ملحوظ في مجال التشخيص المخبري للامراض واعتلالات المادة الوراثية، وامكن توفير وسائل وطرق عدة ترقى الى نسبة عالية من الدقة، وتشمل خيارات متعددة لاجراء الفحوص في مراحل مختلفة من العمر.

* الرأي الفقهي المختار

* الرأي الذي نميل اليه في الاختيار ونرجحه للحكم والفتوى والله اعلم بالصواب هو مذهب جمهور الفقهاء الذي قال بحماية الجنين في هذه المرحلة وحرمة التعدي عليه الا بسبب شرعي ولو كان ابويه وذلك لقوة ادلتهم وظهورها في الدلالة، ولأن الجنين هو اصل الانسان ويشمله من حيث عموم النهي الوارد في قوله تعالى: (ولا تقتلوا اولادكم من املاق نحن نرزقكم واياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون) «الانعام: 151». واذا حرم بالنص القرآني الاعتداء على النفس الانسانية حرم الاعتداء على اصلها بطريق العموم ومفهوم الموافقة كما تدل على ذلك قواعد اصول الفقه الشرعي، وذلك لأن تحقق وجود الانسان في هذه الحياة الانسانية والتي ورد بشأنها النص الشرعي من اجل حمايته والمحافظة عليه لا يتحقق ولا يتم الا بوجود هذا الجنين ورعايته رعاية تامة وكاملة من الناحية المادية والشرعية حتى يخرج الى الحياة انسانا سويا وكاملا بالروح والجسد واهلا للخلافة الشرعية التي انيط بها وخلق من اجلها ويشهد ذلك قوله تعالى: (ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم انشأناه خلقا آخر فتبارك الله احسن الخالقين) «المؤمنون: 12 ـ 14» ويؤيد ذلك ايضا ما رواه مسلم بسنده عن عبد الله بن مسعود ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ان احدكم يجمع خلقه في بطن أمه اربعين يوما نطفة ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: «يكتب رزقه واجله وعمله وشقي أو سعيد». وبذلك يكون الخلاف في المرحلة الثانية لا محل له بعد درء الخلاف الوارد في المرحلة الاولى، ويرجح لنا رأي جمهور الفقهاء ويكاد الاجماع ان يتحقق في المرحلة الثانية بالقول بحرمة اسقاط الجنين فيها الا لعذر شرعي بخلاف بعض فقهاء الزيدية في ذلك حيث اجازوا اسقاط الجنين قياسا على اجازته في المرحلة الاولى اذا كان ذلك بموافقة الأم أو الاب اعتمادا على ان الروح لم تنفخ فيه بعد ولأنه لا يسمى انسانا قبل نفخ الروح فيه عندهم. وهذا قول شاذ لا يعول عليه في نظر جمهور الفقهاء للادلة التي سبق ذكرها لهم ولما ذكرنا نحن في ترجيح قولهم في الخلاف الوارد في المرحلة الاولى ولذلك ترجح لدينا قولهم في المرحلة الثانية للجنين ايضا والله اعلم.

اذا ثبت بالادلة الشرعية الصحيحة وجوب المحافظة على الجنين وعدم التعدي عليه بغير سبب شرعي وان حقه في النفس الكاملة بعد تمام ولادتها سواء بسواء وذلك لأن للجنين بالنسبة للغير اهلية وجوب شرعية وان كانت قاصرة عند بعض الفقهاء على خلاف الجمهور الذين اوجبوها له ولذلك ثبتت للجنين حقوقه الشرعية قبل الغير كالميراث والوقف والوصية، وحرمة الاعتداء عليه بلا ضرورة شرعية ولو كان من احد الابوين او باذنهما كما ثبت له حق النسب وحرمة نفيه ولذلك شرعت له العدة محافظة على نسبه من الضياع او الاختلاط، ومنعت الزوجة المطلقة من الزواج بالغير في فترة العدة لهذا السبب.

* قرار بشأن أمراض الدم الوراثية

* إن مجلس المجمع الفقهي الاسلامي برابطة العالم الاسلامي في دورته السابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من 19 ـ 23 شوال 1424هـ الذي يوافقه: 13 ـ 17 ديسمبر (كانون الاول) 2003، قد نظر في موضوع: (أمراض الدم الوراثية) ومدى مشروعية الالزام بالفحوص الطبية للراغبين في الزواج، واستمع الى البحوث المقدمة في الموضوع من بعض اعضاء المجلس والمختصين. وبعد العرض والمناقشة المستفيضة من قبل اعضاء المجلس والباحثين والمختصين، اتخذ المجلس القرار التالي:

اولا: ان عقد النكاح من العقود التي تولى الشارع الحكيم وضع شروطها، ورتب عليها آثارها الشرعية.

وفتح الباب للزيادة على ما جاء به الشرع، كالالزام بالفحوص الطبية قبل الزواج امر غير جائز.

ثانيا: يوصي المجلس الحكومات والمؤسسات الاسلامية بنشر الوعي بأهمية الفحوص الطبية قبل الزواج، والتشجيع على اجرائها، وتيسير تلك الفحوصات للراغبين فيها، وجعلها سرية لا تفشى الا لأصحابها المباشرين.

* الاسترشاد الوراثي

الاسترشاد الوراثي في الدول الإسلامية / العربية: على الرغم من التكرار العالي للامراض الوراثية ورغبة عاملي الرعاية الصحية للحد من ارتفاع عدد الاطفال المصابين، فإن الاسترشاد الوراثي «المبدأ الاساس في الحد والوقاية من الامراض الوراثية» ما زال في بداياته في المجتمعات الاسلامية / العربية، ولا توجد معلومات موثقة الخدمات المجتمعية في مجال الوراثة المرضية وعدد ومؤهلات المرشدين الوراثيين او نوع الاسترشاد (توجيهي او غير توجيهي) الاكثر فاعلية في المجتمعات. وتقوم اللجنة الفنية بجامعة الدول العربية ومنظمة الصحة العالمية بجهود في هذا المجال، كما ان مجلس وزراء الصحة العرب ودول الخليج العربي تعمل لتأسيس خدمات وراثية مجتمعية وقائية وعلاجية تكاملية وتنسيقية.

مجال الرعاية الصحية وعلاج أمراض الدم الوراثية: رغم اكتشاف الامراض الوراثية، ومنها امراض الدم الوراثية منذ فترة طويلة، فقد تم اكتشاف صبغة الدم المنجلية على سبيل المثال منذ عام 1948، الا ان العلاج لا يزال وبدرجة كبيرة يهدف الى التخفيف من الآلام والاقلال من حدوث المضاعفات المرضية عن طريق تجنب العوامل التي قد تؤدي الى ترسب النوبات المرضية، حيث تشمل الطرق والوسائل العلاجية اسالة الدم، ونقل الدم، واستخدام المضادات الحيوية، ومخففات الآلام واحيانا الاوكسجين، ثم اضيف ـ في الآونة الاخيرة ـ عقار البنسلين بعد ان ثبت انه ذو فائدة للمرضى، وكذلك التحصين ضد انواع من البكتيريا نظرا لازدياد قابلية مرضى صبغة الدم المنجلية للعدوى، وكذلك نقل الدم بصورة منتظمة، واخراج عنصر الحديد بالنسبة لمرضى الاعتلالات الثلاسيمية، وفي حالات استثنائية تتم الاستفادة من زرع نخاع العظام من متبرع سليم للمصابين بالاعتلالات الثلاسيمية.

وحيث ان هذه الطرق والوسائل محدودة الجدوى، فقد استمر البحث عن عقاقير او مستحضرات اخرى قد تكون اكثر فاعلية ومنفعة، وشملت هذه الجهود العمل على التحكم في نشاط المورثات ومحاولة الابقاء على مستوى عال من صبغة الدم الطفيلية والذي يتداخل مع صبغة الدم المنجلية، ويمنع ترسبها على جدار الخلية، مما يقلل من قابلية التغير الشكلي لدى الخلايا الدموية الحمراء.

وقد امكن التعرف على عقاقير او مستحضرات تعمل على الحفاظ على مستوى عال من الهيموجلوبين الطفيلي بعد الولادة، او تعمل على زيادة نسبته لدى الكبار من المصابين بصبغة الدم المنجلية، الا ان هذه الجهود لم تكلل بالنجاح المأمول، نظرا لأن هذه المستحضرات والعقاقير ولدت عوارض جانبية، لم يمكن التغلب عليها او الحد من آثارها، واستمرت جهود الباحثين في هذا المجال حتى تم اخيرا ادراك فاعلية بعض الادوية، وضآلة اعراضها الجانبية، ومنها عقار «الهيدروكسي يوريا» في كل من الولايات المتحدة الاميركية والسعودية خلال السنوات الاخيرة، حيث تمت دراسة امكانية الافادة من هذا العقار، وتقييم فائدته السريرية وقدرته على التخفيف من الاعراض المرضية والمضاعفات المحتملة لامراض صبغة الدم المنجلية، ومدى تأثيره على العناصر المخبرية لدى مرضى صبغة الدم المنجلية وبعض المرضى المصابين بصبغة الدم المنجلية والاعتلالات الثلاسيمية معا.

وقد بدأت الدراسة بعدد من المتطوعين البالغين، وتم توسيع مدى الدراسة بعد تقييم الدراسة الاولية، ومعايرتها في عدة مناطق في السعودية، واشترك في هذه البحوث التي اجريت في السعودية مختصون من جامعة الملك سعود، ومستشفيات وزارة الصحة، وامكن متابعة سير العمل في هذه البرامج ومعايرتها وتقييم نتائجها على مدى السنوات الماضية.