النظام اللامركزي الألماني ينقل «معركة الحجاب» من الحكومة الاتحادية إلى الولايات

ولايتان فقط تقدمتا بمشروع لتحريم ارتداء الحجاب على المعلمات في المدارس حتى الآن

TT

اندلع الجدل الديني ـ السياسي حول الحجاب في ألمانيا منذ سنوات بسبب المعلمة الأفغانية الأصل فيريشتا لودين التي رفضت الانصياع لقرار فصلها من العمل بسبب الحجاب، الصادر عن مديرية التعليم في ولاية بادن فورتمبورغ (جنوب المانيا)، وقررت خوض «المعركة» إلى آخرها عبر التسلسل الهرمي للمحاكم الادارية الألمانية وصولا إلى محكمة الدستور العليا في كارلسروهه. ونجحت لودين، مدعومة من معظم المجالس والجمعيات الإسلامية، في انتزاع قرار لصالحها يوم 20 اغسطس (آب) عام 2003 من محكمة الدستور يجيز لها لبس غطاء الرأس في المدرسة وأثناء تعليمها للتلاميذ في الصفوف. وجاء في قرار محكمة الدستور عدم جواز تسريح المسلمة المحجبة من العمل بسبب ارتدائها غطاء الرأس المسمى بالحجاب. وأجاز القضاة الستة في قرارهم ارتداء المعلمة للحجاب أثناء الدرس، وبرروا ذلك بعدم وجود أرضية قانونية يرتكزون عليها في إصدار قرار يحرم لبس الحجاب. كما تعاملت المحكمة مع الموضوع كقضية اجتماعية ثقافية عامة وأحالت القرار حول جواز لبس الحجاب أو عدمه في الفصل إلى البرلمانات المحلية في الولايات الألمانية الـ16.

وتكشفت المناقشات والتصريحات التي أعقبت صدور قرار محكمة الدستور حول الحجاب في المدارس عن أغلبية بين حكومات الولايات الألمانية تميل إلى سن قوانين تحظر على المعلمات ارتداء الحجاب في الفصل. وكان هذا يعني أن الانتصار الذي حققته لودين بعد سنوات من المعارك القضائية ضد ولاية بادن فورتمبورغ قد يتحول الآن إلى وبال على المعلمات المحجبات العاملات في بقية الولايات. وتوصلت ولايتا بادن فورتمبورغ (10.2 مليون نسمة) وسكسونيا السفلى (7.6 مليون) إلى مشروعي قرارين يحظران لبس الحجاب على المعلمات في المدارس وأثناء العمل. إلا هناك ولايات أخرى ما زالت تتخبط في نقاشاتها ومن المحتمل أن تلتحق بركب هاتين الولايتين مثل الراين الشمالي ويستفاليا (20 مليون) وبرلين (4.5 مليون)، وبافاريا (11 مليوناً) وهيسن (6 ملايين) وبريمن (700 ألف نسمة). من ناحية أخرى قالت ولايات هامبورغ (1.7 مليون) ورينانيا البلاتينات (3.9 مليون) وسكسونيا (4.7 مليون) وتورنغن (2.5 مليون) انها غير متحمسة كثيرا لإصدار قرار يمنع المعلمات المسلمات من ارتداء الحجاب أثناء الحصص.

ويتيح النظام اللامركزي الألماني ونظام إدارة الدولة الفيدرالية للولايات حق تقرير سياستها التعليمية، ووضع المناهج الدراسية، والنظر في شؤون الإدارة التعليمية. وهذا يعني، وهو الواقع، أن لكل ولاية ألمانية سياستها التعليمية الخاصة التي لا يحق للحكومة المركزية أن تدخل بها إلا في حالة رفع القضايا المتعلقة بها إلى المحكمة الادارية العليا أو محكمة الدستور. بعبارة أخرى فإن الانتصار الذي حققته المعلمة لودين نقل المشكلة من وزارات التعليم المحلية إلى محكمة الدستور، ومن الأخيرة إلى البرلمانات المحلية، أي انه حولها من مشكلة دينية ـ تعليمية إلى «كرة» دينية ـ سياسية قد تعود في الحال إلى هدف محكمة الدستور إذا ما أخفقت الولايات في التوصل إلى قرار بشأنها.

ومعروف أن قرار محكمة الدستور، الذي يجيز الحجاب لمعلمات المدارس، قد صدر بالأغلبية الضئيلة (4 مع و2 ضد) وليس بالاجماع. وهذا يعني أن أي تغير في تشكيلة القضاة، بسبب المرض أو الوفاة كمثل، من شأنه أن يقلب موازين القوى لصالح قرار ضد الحجاب قد يصدر هذه المرة. ويجب ألا ننسى أن الولايات الألمانية تنتخب برلماناتها كل أربع سنوات، ومن المحتمل أن تأتي حكومات جديدة لتطعن بقرار الحكومة السابقة. وقد تتحول ولايات مضادة لمنع الحجاب إلى ولايات داعمة له، كما أن العكس صحيح، لكن هذا يعلق القرار بتقلبات السياسة والأمزجة.

* اضرار بالحوار بين الاديان

* وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» مع المجلس المركزي للمسلمين في ألمانيا قال الدكتور نديم الياس، رئيس المجلس، انه يتوقع صدور قرار حظر الحجاب على المعلمات في مدارس بعض الولايات، لكنه لا يتوقع أن يشمل ذلك فتيات المدارس، لأن التعليم في هذه الولايات إلزامي وقد يؤدي مثل هذا القرار إلى ترك التلميذات للمدارس. وتحاول ولايات بافاريا وبادن فورتمبورغ وسكسونيا السفلى تمرير مشروع منع الحجاب إلا أنها ستواجه صعوبة بلغة في ذلك وقد ترفع القضية مجددا إلى محكمة الدستور. وأضاف «نحن نرى أن مثل هذه القرارات تتعارض مع قوانين ودستور ألمانيا الاتحادية، ويتفق معنا عدد من المحامين الألمان المختصين بالقانون والدستور. ونحن نتفق مع قرار محكمة الدستور الذي يرى أن الحجاب جزء من الممارسة الدينية، لا يحق لأي أحد حجبه أو منعه، ويتطابق مع مبادئ المساواة بين الأديان».

وعن خطط المجلس لمواجهة احتمال صدور قرار منع الحجاب في بعض الولايات، أشار الدكتور الياس إلى «أننا سنطعن بهذه القرارات ونرفع الشكوى إلى محكمة الدستور في كارلسروهه، ونحن على ثقة من انها سترفض هذه القرارات. هذا سيكلفنا وقتا وجهدا كبيرين، وقد يؤدي إلى حدوث تباعد بين الأجانب والألمان، وهو ما لا نحبذه. وسيحول القضية، لدى البعض، إلى قضية سياسية لها أهدافها، كما سيؤدي إلى انكماش الحوار الديني بين ممثلي الأديان السماوية الثلاثة».

لكن هل ستضطر المسلمات إلى التخلي عن الحجاب مراعاة للمجتمع الألماني؟ يقول الدكنور نديم الياس» إن الأمر راجع إلى كل امرأة على حدة كي تقرر موقفها، فالمجلس المركزي للمسلمين ليس وصيا على أحد. لكن هناك رفضاً واسعاً لقرارات المنع، ولا اعتقد أن المسلمات سيتخلين عن الحجاب ومخالفة الشريعة، وأغلب الظن أن المسلمات، وخصوصا الألمانيات منهن، سيتخلين عن مهنهن في محاولة لتسليط الأضواء على القرار المجحف. سنشهد حالات انسحاب من العمل غير قليلة في الولايات التي ستحظر الحجاب، وهذا يشد من عزمنا على رفع القضية مجددا إلى محكمة الدستور».

وسألناه: نحن نطالب الأوربيين بالتسامح، فهل نقبل بالتسامح في بلداننا الاسلامية ونسمح للأوروبيات بالتجول في الشوارع سافرات؟ يجيب الدكتور الياس: نحن لا نقبل بمعاملة المسلمين في ألمانيا بناء على معاملة غير المسلمين في بقاع العالم الأخرى. القانون والدستور الألمانيان يقران مبدأ حرية ممارسة الدين، ونحن لا نتحمل تبعة أي خطأ يحدث خارج ألمانيا. نحن ندعو العالم الإسلامي إلى التمسك بالتعاليم الإسلامية ومبادئ التسامح والعدل. ونلفت نظر جميع المسلمين في العالم إلى أن أي تضييق على غير المسلمين في بلدانهم سينعكس علينا هنا سلبا.

* الصحافية الألمانية كاترينا ليمان: أدعو لمنع الصليب في المدارس أيضا

* وفي استفتائنا لآراء النساء الألمانيات حول الحجاب، قالت الصحافية كاترينا ليمان، من مجلة «كولنر ليبن لـ«الشرق الأوسط» إنها ليست ضد الحجاب ولكنها ترى فيه تحجيما لحريات المرأة. وتؤيد ليمان موضوعة أن يترك للمرأة أن تقرر ما إذا كانت تفضل تغطية شعرها أم لا، لأن التعامل مع الحجاب كفريضة يعني عدم منح المرأة حرية اتخاذ القرار بنفسها. وتضيف ليمان «أنا لبست الحجاب في السبعينات، ليس من منطلق ديني وإنما كـ«موضة هيبية»، لكنني غير مستعدة لمعاودة الكرة الآن خشية أن يعتقد الناس بأني مسلمة متزمتة».

ومن ناحية جمالية لا تتفق الصحافية المقيمة في كولون مع غطاء الرأس «كموضة» لها ألوانها وأشكالها وطرق ربطها. وترى أيضا أن أي غطاء رأس، مهما كانت ألوانه ومادته، لا يمكن أن يكون أجمل من شعر المرأة.

ولا تؤيد ليمان لبس الحجاب من قبل المعلمات في المدارس، لكنها تقف أيضا ضد تعليق الرموز الدينية الأخرى مثل الصليب، وتفضل أن تبقى المدارس «منزوعة الرموز». وترى أن الجدل حول الحجاب في ألمانيا تحول إلى جدل آيديولوجي صار يؤدي إلى مزيد من التشدد والتعصب لدى الطرفين المؤيد والمعارض. ولكن هل هي مستعدة للبس الحجاب لو أنها سافرت إلى بلد مسلم؟ تقول ليمان، لا أدري، ربما افضل عدم السفر إلى مثل هذه البلدان، وقد ألبس الحجاب أيضا ولكن احتراما للإسلام فقط.

* رئيس الجالية التركية: نطالب بالحفاظ على حيادية المدارس

* تعتبر الجالية التركية في ألمانيا من أكبر الجماعات الأجنبية التي بدأت هجرتها إلى أوروبا مطلع الستينات. وتعداد الجالية التركية نحو 2.5 مليون تركي يقطنون في مختلف المدن الألمانية، وتحتفظ بمئات الجمعيات الثقافية والدينية ومدارس تعليم القرآن. وهي جالية كبيرة يقف على رأسها رئيس منظمة الجالية التركية الدكتور حقي كسكين الذي يرى أن من الممكن للمعلمة المسلمة أن تتخلى عن حجابها في صفوف المدارس وأن تعيد لبسه بعد خروجها من المدرسة. وذكر الدكتور كسكين لـ«الشرق الأوسط» أن موقف الجالية التركية يتفق مع قرار محكمة الدستور الذي يرى ضرورة إبقاء المدارس على الحياد ومنع جميع الرموز الدينية منه أو إبقائها كلها، ولهذا «فنحن إلى جانب منع ارتداء الحجاب، وتعليق الصليب، وارتداء الكيباه اليهودية في المدارس. إن السماح بأحد هذه الرموز، وبتقديري أن الحجاب أيضا رمز، سيثير التناقضات بين مختلف الأديان والاتجاهات السياسية. نحن إلى جانب أن تتخلى المعلمة المسلمة عن غطاء رأسها في المدرسة وأن تستعيده في الأماكن الأخرى».

وما إذا كان النقاش الجاري سياسيا أو دينيا، قال كسكين إن النقاش لا يدور حول مضمون الدين وإنما حول «رموز» فيه، وهو ما يجعله عرضة للتحول إلى جدل سياسي. ويرى كسكين أن ولايتي بادن فورتمبورغ وسكسونيا السفلى الساعيتين إلى حظر الحجاب وتنسيان في الوقت نفسه موضوع الصليب والكيباه اليهودية هو ما يضع قرارهما في تناقض مع الدستور الألماني.