وزير الإرشاد والأوقاف السوداني: خصائص الوسطية تدل على سعة الشريعة وتنوعها

TT

أوضح الدكتور عصام أحمد البشير، وزيرالإرشاد والأوقاف السوداني، أن خصائص الوسطية في الإسلام تلائم الفطرة التي فطر الله الناس عليها وهي العدل والخيار الذي يشمل الزمان والمكان، كما دلت على ذلك شواهد اللغة ونصوص القرآن.

وقال الدكتور البشير في المحاضرة التي ألقاها أخيرا، ضمن مناشط الموسم الثقافي الدعوي في مبنى رابطة العالم الإسلامي في منى، إن وسطية الإسلام هي الصراط المستقيم الذي تميزت به أمة الإسلام عن غيرها. وبين أن البحث عن التشدد يتنافى مع الوسطية، فالمسلم لا يغالي ولا يفرط بأمور دينه وعاداته، وهذا يتصل بأعمال المسلم جميعها في كل زمان ومكان، وأن من خصائص الوسطية الإسلامية الجمع بين عالم الغيب والشهادة وبناء الاعتقاد الصحيح في النفوس وتأسيس السلوك السليم في أداء العبادات كالصلاة والصيام وعدم المبالغة أو التهاون في ذلك. ونبه د. البشير ال أن الوسطية تستوجب الاجتهاد وقت الجد ولا تمنع الترفيه أو اللهو المباح الذي يساعد في تقوية القلوب على الحق، مشيراً إلى أن التوازن الذي هو من خصائص الوسطية ينبغي مراعاته في العادات والسلوك والعبادات معاً.

وأكد أنه من شمول هذه الوسطية حدثنا الإسلام عن وسطية العبادة «ولا تجهر بصلاتك »حدثنا عن الوسطية في الإنفاق« ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط» «والذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك حدثنا عن وسطية السلوك «واغضض من صوتك» حدثنا عن وسطية التعامل المالي «وأوفو الكيل والميزان» «ولا تبخسوا الناس أشياءهم» حدثنا عن الوسطية في الحكم والعدل والقضاء «أصلحوا بينهم بالعدل واقسطوا» ليدلهم على شمول هذه الوسطية لكل جوانب الفكر والسلوك معاً سواء كان ذلك على مستوى الفرد أم الجماعة أم الدولة أو الأمة. هذا من حيث المدلول اللغوي والاصطلاحي لكلمة الوسطية فهي النقطة التي تنصف المستقيم وإنما هي التوازن بين طرفي الإفراط والتفريط وهي العدل وهي الخيار كما دلت على ذلك شواهد اللغة ونصوص القرآن.

وقال إن مدخلا نلج به إلى معالم هذه الوسطية وخصائصها أن نلج إلى الوسطية في باب العقيدة لأن العقيدة هي الأصل الذي إذا صح فإنه ينبني عليها السلوك القويم وهي عقيدة موافقة للفطرة. نبينا صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه كان الناس احد رجلين أما رجل من العرب، الذين اقبلوا على ما استحسنوه من عبادة الأصنام والأوثان وشرب الخمر وسفك الدماء وإقامة الحروب لاتفه الأسباب، وأما صنف أهل الكتاب الذين بدلوا دينهم وحرفوا الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، فوصف النبي صلى الله عليه وسلم حال البشرية قبل مبعثه بقوله إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ،عربهم وعجمهم، إلابقايا من أهل الكتاب. فهدى الله الناس ببركة نبوته عليه الصلاة والسلام هداية جلت عن وصف الواصفين وفاقت معرفة العارفين، مشيراً إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام أول ما بدأ به هو تأسيس العقيدة، والعقيدة في منهاج الوسطية أنها موافقة للفطرة ، فالنفس جبلت على الفطرة وفي الحديث الصحيح القدسي: «إني خلقت عبادي حنفاء مسلمين» ولذلك لم يقل أو يسلمان. قال : يهودانه، ينصرانه، أو يمجسانه، ولم يقل أو يسلمان. فالفطرة إنما هي التوحيد الخالص ولكن كما يقول الإمام ابن القيم لما كانت الفطرة وحدها لا تقوى على معرفة تفاصيل الخير فتقتدي به وتفاصيل الشر وتحذره انزل الله الكتب وأرسل الرسل وشرع الشرائع لتستقيم الفطرة على منهاج النبوة ،ولذلك قال تعالى (نور على نور) نور الوحي على نور الفطرة فكان هذا هو منهاج الاستقامة، ونحن نلحظ نهج النبي صلى الله عليه وسلم أن العقيدة في بنائها لم تكن أمراً نظرياً تجريبياً ولا جدليات كلامية فلسفية إنما كانت لبناء النفوس وتزكيتها على أساس العقيدة. ثم معالجة أمراض المجمع من علل الشرك. وضرب الدكتور البشير مثلاً بما جاء في القرآن قائلاً : هود عليه السلام اغتر قومه بالقوة السياسية فدعاهم إلى العقيدة كل نبي قال : «يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره» ثم عالج علة قومه من منظور العقيدة. نبي الله صالح افتتن قومه بالحضارة المادية« ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين» فعالج هذه العلة من منظور العقيدة. نبي الله شعيب فتن قومه بالخلل الاقتصادي الطفيف في المكيال والميزان فعالج هذه العلة الاقتصادية من منظور العقيدة. نبـي الله لوط عليـه السلام كانت قضيته التحلل الأخلاقي والانحراف الاجتماعي «يأتون الذكران من العالمين» فعالج هذه الصلة من منظور العقيدة. موسى عليه السلام وجد طغيان المال في قارون وطغيان الحكم في فرعون فعالج كلا الطغيانين من منظور العقيدة. ثم كانت هذه العقيدة الوسطية، جمعت بين عالم الغيب المبني على التسليم وعالم الشهادة القائم على حضور العقل للتجربة والحس والخبرة ليجتمعا عالم الغيب والشهادة في تعزيز هذه العقيدة وبنائها في النفوس. ثم جاءت الوسطية في باب الشعائر التعبدية، ونحن نعلم أن لهذه الشعائر التعبدية حكما ودلالات. إن الله أشار إلى أن الصلاة «تنهى عن الفحشاء والمنكـر» والصــوم« لعلكــم تتقــون» والحج «ليشهــدوا منافع لهم» والزكاة «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها» وحتى في هذه العبادة جاءت الوسطية« من صلى بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف صلوا نشاطكم فإذا فتر أحدكم فليقعد» وقال: «قليل دائم خير من كثير منقطع اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة».

وقال الوزير السوداني: ننتقل إلى جانب آخر في هذه الوسطية، مثلاً إذا اجتمع إمامان، احد الإمامين فقيه يطيل بالناس ويكثر عليهم فلا تجتمع عليهم القلوب، وآخر يخفف بالناس ويرفضونه إماماً ويرتاحون لصلاته يقدم المفضول مع وجود الفاضل دفعاً لمفسدة وجلباً لمصلحة. وليس هناك مصلحة أكثر من ائتلاف القلوب من المصليـــن على امامهــم «فلا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم مشيراً من أم قوماً وهم له كارهون». إن هذه الوسطية احتملت في العبادة رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر.

إن ابن عمر كان يأخذ نفسه بالعزيمة حتى فيما ليس في موضع السنة ولذلك إذا جاء إلى الحجر الأسود كان ابن عمر يزاحم مزاحمة حتى تدمى قدماه فإذا سئل هوت الأفئدة إليه فأجبت أن يكون فؤادي معه، أما ابن عباس وأنا على مذهبه يقف بعيداً ويقول : لا يؤذي ولا يؤذي. فما أحوجنا إلى مذاهب ابن عباس هذه الأيام، وابن عمر كان لا يحب أن يحمل الصبيان على صدره خشية أن تقع بعض نجاساتهم عليه.

وابن عباس كان يضمهم في حنايا صدره ويقول: إنما هي رياحين نشمها، وأضاف أن هذه وسطية العبادة الدافعة للعمارة وإننا نحتاج في الفنون إلى الوسطية بناءً على أن الأحكام الشرعية متأسسة على مبدأ الوسطية الذي قال فيه ابن تيميه رحمه الله لا تعارض بتشديد غال ولا بترخص جاف ولا بعلة توهن الانقياد إنما الفقه الرخصة من ثقة أما التشدد فيحسنه كل أحد. ولابد في الفنون أن نراعي الزمان والمكان والبيئة. إن عمر بن عبد العزيز يكتفي باليمين وشهادة الشخص الواحد في المدينة المنورة لأنهم اشتهروا بالعدالة والضبط والورع، فلما ذهب إلى الشام اشترط شهادة رجلين. وجد الناس هناك يتساهلون. اختلف الأمر باختلاف الزمان والظرف وهذا نجده في تنوع أجوبة النبي صلى الله عليه وسلم مع أن السؤال واحد. يا رسول الله أي العمل أفضل؟ يقول لهذا بر الوالدين ففيهما جاهد. يقول لهذا صدقة ويقول لآخر كف عليك لسانك ويقول لهذا فليسعك بيتك والعلماء قالوا إن اختلاف الأجوبة بناءً على اختلاف أحوال السائلين يعطي الجرعة المناسبة من الدواء والبرء والعلاج لكل دواء وهذا من تمام حسن الفقه.

ودعا إلى التوازن بين الخوف والرجاء وبين الخشية والمحبة وقالوا: إن الفتوى قبل الفعل غير الفتوى بعد الفعل. جاء رجل يسأل ابن عباس هل لقاتل من توبة؟ قال ابن عباس: لا. فسأله الناس كيف ذلك يا ابن عباس وأنت تفتي؟ قال لهم: رأيت الرجل يتطاير الشرر من عينيه ويريد فتوى تجيز له الفعل لما يقتل بعد، فأراد ابن عباس أن يسد عليه المنافذ التي توقعه في الخطيئة والإثم فقال ليس له من توبة. ولكن إذا وقع الإنسان في الجرم فجاء ملتئما التوبة فتجد له المخرج الشرعي الذي يجعله في سعة من رحمة الله ورجائه فقالوا إن الفتوى قبل الفعل غير الفتوى بعد الفعل.

وأشار الدكتور البشير إلى أن هذا من تمام الوسطية التي تراعي في مثل اختلاف البيئات والأحوال، وأشار إلى تجربة حدثت في أوروبا عندما تساءل بعض المسلمين بأنهم ورثوا أموالاً من آبائهم الذين كانوا على الكفر فيما الدين يمنع ذلك.

الفتوى عند رجال العلم أنه لا توارث بين ملتين مختلفتين. ثم بحثنا في أحكام أهل الذمة عند ابن القيم ويرجح أبن القيم تبعاً لشيخه ابن تيمية عن مشروعية أن يرث المسلم من أبيه غير المسلم ،وأول ابن تيمية هنا الكافر على معنى الحزبي وليس الكافر المسالم أو المستأمن، وبالتالي حفظنا لهؤلاء دينهم وحفظنا لهم هذه الأموال التي ورثوها عن آبائهم وهذه فتوى رجحها علماء كبار. ونحن نقول في مثل هذه الأيام كما أفتى العلماء ان البقاء في مزدلفة كالبقاء في منى لأن منى ضاقت عن أهلها فاتسعت الخيام، فأجاز العلماء ذلك من باب التوسعة وأجازوا الطواف في الدور الثاني وفي السطوح، وكذلك الرمي وغير ذلك، وكل ذلك من باب التوسعة وما أحوجنا إلى مزيد منه في فقه التيسير حفاظاً على أرواح المسلمين. وقال إن الوسطية في الدعوة هي التبشير في الدعوة والتيسير في الفتوى وهذه هي الخصائص الوسطية ودليلنا على ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذ بن جبل وأبا موسى إلى اليمن قال : يسروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا، وقال إن الله لم يبعثني معنتا أو متعنتاً وإنما بعثني معلماً وميسراً. وقال عن الوسطية في التجديد والاجتهاد ارتباط الأصل واتصال بالعصر وبعض الناس ينكر مصطلح التجديد ويعتبر أن التجديد أن نأتي بنسخة جديدة في الإسلام ولعقائده والصحيح أن التجديد مصطلح شرعي ثبت في حديث صحيح في جملة أحاديث أشهرها حديث بن داود الذي رواه أبو هريرة.

إن الله يبعث على رأس كل مائة عام لهذه الأمة من يجدد لها دينها، وهذا التجديد ليس معناه أن ننسف الثوابت أو أن ننقض الأصول ولكن أن نزيل ما علق من غبار وأتربة على بناء لنعيده على أصل نشأته ولذلك قالوا إن أول مجدد هو عمر بن عبد العزيز لأنه أعاد الحكم على سنة الخلافة الراشدة في اقل من ثلاث سنوات وكان عمر هو خليفة العدل بالإجماع، والشافعي كان مجدد المائة الثانية، ولكني أقف عند شرط أن يكون المجدد فرداً، فقد يكون جماعة مثل أعمال المجامع، والأقرب أن يكون في عصرنا هذا أن يكون حركة جماعية مثل الاجتهاد.

وأكد أن أحداً لا يمكنه أن يغلق باب الاجتهاد، فتحه الله عز وجل وفتحه رسوله الكريم حين قال:إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اخطأ فله أجر واحد، ولكن الاجتهاد ينبغي أن يكون صادراً من أهله، وأن خصائص الوسطية تدل على سعة الشريعة وتنوعها وتراثها، وأضاف أن من فقه الحسبة أنه لا يجوز الإنكار في موضع الاجتهاد، وحذر من الفهم المغلوط لأعمال الحسبة لدى بعض الشباب في فهمهم لموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على غير مقصده الإسلامي، ونبه إلى خطورة التشدد والمغالاة في الأمور.