دعوة لتصحيح صورة ابن تيمية والسلفية عند الإعلاميين العرب والمسلمين قبل غيرهم

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محجوب

TT

نجد أن الاعلام الغربي نجح في استدراج بعض الاعلاميين العرب فنسجوا على نفس المنوال الغربي، واتهموا علماء الأمة وأئمتها بالارهاب والفاشية بغير حق، يقول الله سبحانه وتعالى: «ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً». وهذا التجني ان دل على شيء فإنما يدل على جهل شديد بأئمة السلف وحقيقة الدعوة السلفية، ان لم يتعمد الإساءة إليه والطعن فيه.

ولم تكن الدعوة السلفية في يوم من الأيام مصدراً للعنف والإرهاب وترويع الآمنين. وهذه الحركات التي ظهرت في عصرنا الحاضر ما هي إلا حركات دينية متطرفة تحاول ان تطمس معالم جذورها الضاربة في أعماق العقائد الضالة للخوارج. وان كان هناك تأويل حرفي للنصوص متزمت في الآونة الأخيرة وكان سبباً في دخول عصور التكلس والتحنط أو التكرار والاجترار.

أما التجني على أئمة السلف الكبار كابن تيمية وابن القيم فإنما يدل على جهل شديد بهؤلاء الأئمة الاجلاء ولا ذنب لهم بما يحصل هذه الايام من تشدد وتزمت، وانما هو من صنع المتأخرين. وهؤلاء الأئمة تنطبق عليهم الحكمة المشهورة التي قالها الامام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه «يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال» على قاعدة «كل منا يؤخذ منه ويرد عليه» وتعني ان الكمال لله سبحانه وتعالى وليس هناك معصوم في هذه الدنيا. ويكفي لدرء ما أثير حوله من شبهات ان نورد بعض نصوص من كلام ابن تيمية تدحض ما نسب إليه زوراً وبهتاناً دون التيقن والتأكد، والاكتفاء بالتعميمات التي تلقى على عواهنها دون تدقيق أو تمحيص.

يقول ابن تيمية: «ان مجرد وجود البغي من امام أو طائفة لا يوجب قتالهم، بل لا يبيحه، بل من الأصول التي دلت عليها النصوص ان الامام الجائر الظالم يؤمر الناس بالصبر على جوره وظلمه وبغيه ولا يقاتلونه كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في غير حديث، فلم يأذن في دفع البغي مطلقاً بالقتال، وامر بالصبر. وعلَّل ذلك لأن قتالهم فيه فساد أعظم من فساد ظلمهم، وفيه فتنة وشر أعظم من ظلمهم، فالمشروع فيه الصبر (انظر الاستقامة لابن تيمية، 1/32، 1/34، 1/36). كما تتهم السلفية بأنها دعوة للاستقالة من الحاضر والمستقبل، والتحاق بالماضي بفكره وشخوصه وفعله، وبذلك يتهم هؤلاء السلفيون بأنهم يغتالون المستقبل لصالح الماضي، ويهاجم شيخ الاسلام ابن تيمية في بعض المقالات بلا عقلانية بدعوى ان الدراسات التي تعالج فكر ابن تيمية انما هي دراسات تروج للفكر اللاعقلاني وتنشر الخرافة. ولكن هل حقاً أن ابن تيمية السلفي المحافظ على نقاء العقيدة هو عدو لعلوم التقدم؟ ولكن كل علماء السلف السابقين ماضويون، ولكنهم كانوا مستقبليين في آن واحد، وهم الذين حملوا راية الانفتاح الحضاري ودعوا الى الاهتمام بالعلم التجريبي والعلوم الطبيعية والرياضية بغض النظر عن عقائد اصحابها.

ابن تيمية صحيح انه كفَّر الفلاسفة، لكن هجومه كان منصباً على آرائهم المتعلقة بالألوهية فقط. بل أعلن موقفه واثنى على جهودهم في مجالي العلوم الطبيعية والرياضية، وان موقف الفلاسفة في هذين المجالين أصوب من موقف المتكلمين الذين أعرضوا عن الطبيعيات والرياضيات. فهو يقول: «ونحن لا نقدح فيما علم من الأمور الطبيعية والرياضية» ولم يرفض علومهم برمتها، بل استصوب العلوم الطبيعية والرياضية واستنكر كل محاولة للطعن من جانب المتكلمين، مثل انكارهم لكثير من المسائل الرياضية والفلكية كاستدارة الفلك وغيرها، فهذه العلوم عقلية محضة وليس فيها تقليد لقائل، وانما تعلم بمجرد العقل، ويجب التحاكم فيها الى موجب العقل الصريح (الرد على المنطقيين لابن تيمية، ص 311، 105، 208).

ويعترف ابن تيمية بجهود ارسطو واتباعه في العلوم الطبيعية، فيقول: «لهم في الطبيعيات كلام غالبه جيد، وهو كلام كبير واسع ولهم عقول عرفوا بها ذلك، وهم يقصدون الحق، ولا يظهر عليهم العناد، لكنهم جهال بالعلم الإلهي إلى الغاية، ليس عندهم منه إلا قليل، كثير الخطأ». واعتبر ابن تيمية العلوم الرياضية يقينية لأنها علوم برهانية، سالمة من الفساد لا يدخل فيها غلط ولا تحتمل التناقض وهي ضرورية في العلم وواجبة القبول (المرجع السابق، ص 143). كما يرى ابن تيمية ان الأطباء والمهندسين من أذكياء الناس، ولهم علوم صحيحه طبية وحسابية، وان كان ضل منهم طوائف في الأمور الإلهية، فذلك لا يستلزم ان يضلوا في الأمور المتعلقة بالعلوم الطبيعية كالطب والرياضة والحساب (منهاج السنة النبوية، لابن تيمية: 2/458 ـ 459).

هذا هو عالم السلف يعترف لخصومه في مجالات العلوم الطبيعية والرياضية التي هي من أهم عوامل الازدهار الحضاري، وشهد لمخالفيه بجهودهم الايجابية المثمرة، ولم يمنعه تكفيرهم في المسائل الاعتقادية من المطالبة بالانتفاع بعلومهم التجريبية الاستدلالية لانها لا تتعارض مع الدين.

فإذا كان ابن تيمية لم ينكر الفكر الفلسفي بكليته، خاصة الذي لا يتعارض مع الدين فإن سبب انحطاطنا اليوم هو بتر الفكر الفلسفي وتجريمه وتكفيره على مدار قرون طويلة. والتدين بدون بصيرة أو فكر عقلاني أعمى، قد يؤدي الى أبشع انواع التعصب والتطرف، وان كان مقصده نبيلا، هو الحرص على نقاء عقائد المسلمين من ضروب الشرك الظاهر والخفي ومن البدع والمنكرات والعودة بكل جوانب حياتهم الدينية الى اصولها في الكتاب والسنة، وهي دعوة حقة وأس في كل اصلاح. ان التشدد في التصور وبساطة النظر الى الواقع والانصراف عن فقه المقاصد وفقه المصادر مع ضعف التأهيل لمثل هذه المهمة ساهم في نشر فكر التكفير واستخدام القوة في غير موضعها مما كان له بالغ الضرر على دعوة الإسلام في بواطن كثيرة. ويخشى ان نفس الأسباب ونفس الأفكار تقود الى نفس النتائج، وبالخصوص مع الحرب المتواصلة على دعاة الوسطية والاعتدال وعلى سجيتهم.

بعد هذا العرض كيف يمكن ان نصف عالم السلف ونتجنى عليه ووصف فكره بأنه لاعقلاني، ونحمله مسؤولية التخلف العلمي، وانه داعية الى الجمود وانه ينشر الخرافة؟ وسار تلميذه ابن القيم على نفس المنهج السلفي وتولى مهمة حراسة العقيدة وحمايتها من المؤثرات الداخلية، وكتبه المختلفة تشهد له بذلك. وبدلاً من اتهامهم والتهجم عليهم لماذا لا نكون انداداً لهم نحاورهم ونتعلم منهم دون ان نقلدهم، بل نوافقهم ونخالفهم أيضاً؟

وقبل ان نطالب الغرب بتصحيح صورة اسلامنا وعلمائنا المشوهة ينبغي علينا أولاً ان يصحح الاعلاميون العرب والمسلمون صورتهم عنهم.

ان دعوة العودة بالدين الى اصوله كلمة حق وأصل ركين الا انه قد خالطها أحياناً عند بعض الدعاة تشدد وغلو بلغا حد تكفير المسلمين واستباحة دمائهم بفتاوى مستندة الى نصوص مبتسرة لم يشهد لها جمهور الفقهاء قديماً ولا حديثاً، وتعاملت مع النصوص الدينية واصدار الاحكام التي وسعت كثيراً من دائرة المحظور في الشريعة على حساب دائرة المباح الواسعة اصلا، وانها اعتمدت على النص لكونها اضافت مصادر غير نصية في التشريع كالاستدلال والاجماع والقيــاس وغيرها، وهو ما ضيق مساحة الحرية الانسانية واضفى على الاسلام صبغة تاريخية غير قادرة على التواؤم مع التقدم الحضاري والمستحدثات الانسانية السائدة في عالم اليوم. وقد تتأسس عليها مناهج متشددة في التغيير تسرع الى تكفير المخالف وهدر دمه وسائر حقوقه، وهو ما أضر بالدعوة ايَّما اضرار وجعل بأس المسلمين بينهم، كما زج بالأمة الاسلامية في معارك استعدت عليهم الأمم، لم يجن الاسلام منها وأهــــله غير تشويه الصورة والسمعة والحصار والاحتلال ودعم مؤسسات القمع على كل الصعد مما لم يفد منه غير أعداء الاسلام.